رأس الحوزة!

في بداية سنة 2003 وقبل بدء الغزو الأمريكي وسقوط النظام البائد بشهرين تقريباً، كنت مسافراً إلى النجف الأشرف لقضاء بعض الوقت في الدراسة، وفي صباح أحد الأيام فوجئت بدخول والدي (رعاه الله) الى غرفتي حيث كان الوحيد الذي يعرف محل سكني في النجف وقبل أن يجلس ابتسم محاولاً إخفاء قلقه وهو يرى ملامح المفاجأة علي، وقال : بويه الأمن مستدعينك، اجانه تبليغ أمس واذا تتأخر يصدرون أمر القاء قبض.

لم يكن هناك ما يخشاه الوالد وأخشاه، حيث كنت منصرفاً الى الدراسة تماماً، و ليس لدي أي نشاط آخر، وكتبي كلها عن النحو والمنطق والفقه، لذا فقط صار مركز اهتمامي وقلقي الوحيد كتب السيد الخميني والسيد محمد باقر الصدر والسيد عبد الحسين شرف الدين (قدست أرواحهم) المدفونة قرب تنور الطين، تحت السعف اليابس والحطب، ولذا سألت الوالد مباشرة عنها، فقال أنها بخير ولم يصلها أحد، فعرفت أن هذا الاستدعاء كان لمجرد تحقيق روتيني لا أكثر.

وبالفعل ذهبت في اليوم المحدد، فوجدت مجموعة من طلاب الحوزة العلمية والشباب المتدين ينتظرون في الاستعلامات حيث تم استدعاؤهم جميعا، وبعد قليل جاء مفوض …… وقال إن مدير الأمن شخصياً هو من سيلتقي بكم، وكان موصلّياً (نسبة إلى محافظة الموصل شمال العراق) سمعنا عنه بأنه صاحب قسوة و شدة، وثقافة وكثرة اطلاع في الوقت نفسه.

أخذنا ننظر في وجوه بعض لغرابة هذا الإجراء، وخشينا أن الأمر يتجاوز مجرد تحقيق روتيني يجريه بعض الضباط أو المفوضين، ويتجاوز تحقيقاً وحشياً يقوم به بعض الجلاوزة من ضباط ومفوضي الأمن، وخشينا أن هناك ما هو أعظم، ليلتقي بنا مدير الأمن بنفسه!

مشينا في ممرات مديرية الأمن الضيقة والظلماء (عمداً)، حتى وصلنا مكتب المدير ودخلنا، فقام بنفسه واستقبلنا وصافحنا واحداً واحداً مما زاد في حيرتنا، ثم جلسنا وسأل عن أحوالنا وإذا ما كان منتسبو المديرية في المحافظة يضايقوننا، وبالتأكيد جاملناه و قلنا أنهم ملائكة يمشون على الأرض، ثم وضع الشاي أمامنا وراح يدخن ويتكلم.

 

لم يخطر لنا ولو للحظة أن يكون سبب استدعائنا مرتبطاً بما يدور في إذاعة مونتكارلو و BBC -وهي مصدر معلوماتنا الوحيد عما يدور خارج العراق- حول سعي أمريكا وبريطانيا لإقناع مجلس الأمن بغزو العراق!

قطع مدير الأمن حيرتنا قائلاً أن التقارير والتقييمات كلها تشير الى نية (العدو الكافر) الأمريكي الهجوم على العراق المسلم، ولأن العراقيين مسلمون فهم مستعدون للدفاع عن أرض العراق ضد الكفرة، ونحن نريد منكم حث الناس على المشاركة في الدفاع عن بلدهم (وتذكيرهم بتضحيات الإمام الحسين عليه السلام)، ثم قال : تعلمون أن السيد الرئيس "صدام حسين" قام بالحملة الإيمانية ليكون عند الناس عقيدة إلى جانب السلاح والتدريب، فالسلاح لوحده ليس كافياً، (وأنتم أهل الإيمان) وتعرفون خطورة المحتل الكافر على (مقدساتنا في النجف وكربلاء) ووو...

ورغم ثقافة الرجل، إلا أن رائحة النفاق المكشوف كانت تفوح من حديثه، ولك أن تتخيل أيها القارئ الكريم كيف كنا نهز رؤوسنا بالموافقة، وفي داخلنا نتعجب لتقلبات الدهر التي جعلت مدير هذا الجهاز القمعي الدموي الذي كان ضباطه لا يحضرون جلسات التعذيب إلا وهم سكارى، كيف يتكلم عن الدين وكأنه الشيخ أحمد الوائلي، ويطلب العون من طلاب الحوزة الذين صبغت دماؤهم السجون، ويومها تمثل لي شعور فرعون حين أدركه الغرق وتيقن بالهلاك كيف ( قلب موجة ).

كل ما سبق -سيدي / سيدتي- كان مجرد مقدمة لهذه العبارات الآتية، والتي حفظتها من فمه بعناية، وبقيت محفورة في عظمة رأسي، وهي مقصودي من كتابة هذه الذكرى.

قال: طبعاً القيادة تواصلت مع المراجع الدينية بالنجف بس أكو مشكلة، منعرف ويامن نتفق!! لازم كل المراجع نروحلهم، وكل واحد نروحله يگول أنا أصدر موقف عن نفسي بس ماعندي سلطة عالآخرين، يعني ليش ماعدكم قيادة موحدة حتى تُقصد؟

 

وكان يبدو عليه الامتعاض والانزعاج وقد بدا لي أقرب تفسير محتمل لذلك أنه كان ضمن وفد الرئاسة الى النجف، ذلك الوفد الذي فشل في الحصول على أي تعهد رسمي من الحوزة، أو فتوى مباشرة من المرجعية بوجوب الدفاع عن نظام صدام.

وكان كل ما حصلوا عليه هو (فتوى بحرمة التعاون مع الاحتلال الأمريكي ودعوة الدول الإسلامية للضغط ولمنع اجتياح العراق (المسلم) ومن الواضح لديك أيها القارئ اللبيب -كما كان واضحاً للمدير- أن هذا ليس كافياً لنظام مفلس مكروه، ليقنع به الأغلبية الشيعية بالدفاع عنه بعد كل مجازره وتاريخه الدموي.

وأكمل المدير: إحنه قررنه نتواصل وياكم مباشرة ونحثكم على التحشيد والاستعداد، لأن ماكو طريقة ثانية، (ما أعرف شلون تدرسون وأنتو مامنظمين أنفسكم).

وهنا شعرت للمرة الأولى بمدى غباء هذا النظام الذي يتوقع أن نتصرف منفردين بمعزل عن مرجعيتنا، كما شعرت بعجرفة أزلام النظام ..

عندما تصدر من هذا الرجل هكذا انتقادات و( يتفلسف علينا) وهو في أضعف حالاته، ولا يعترف بسوء تنظيم حكومته المتهورة التي أوصلتنا لهذه المرحلة، وجعلتنا لقمة سائغة للدول الكبرى، فيترك ذلك كله، وينتقد نظام الحوزة !!

كانت مخاطرة كبيرة أن أتكلم في ذلك الموقف وقد كنت أصغر القوم حينها، ولكن لا أخفيك أيها القارئ الكريم، فقد وجدت في الحديث نوعاً من رد الصاع وإن كان غير مأمون العواقب، ولو سألتني الآن وقد بلغت الأربعين من عمري، لقلت لك أن حديثي يومها كان مغامرة صبيانية غير محسوبة، ولكنها حصلت على كل حال.

قلت: أستاذ تره الحوزة هذا وضعها من ألف سنة والحمد لله وجودها ثابت ويتقدم، وأحد مراجعنا هو السيد أبو الحسن الأصفهاني يقول ( الحوزة إذا نُظمت فقد بُعثرت ).

 

قطّب المدير وجهه وحاجبيه مستغرباً، وأشعل سيجارته وقال : شيقصد؟ فقلت: يعني الأفضل لا يكون لها رأس واحد تؤكل منه، بل عدة رؤوس منسجمة فيما بينها، ولا مشكلة مادام الجسد واحداً.

هنا، سحب المدير نفساً عميقاً وألقي بظهره على الكرسي وبعد قليل من الصمت قال بهدوء : الأصفهاني ها ؟ فقلت : نعم.

توقعت يومها أن يقطع لساني أو رأسي لعبارة (تؤكل منه) ولكن يبدو أن مشاكل النظام وهمومه قد أكلته، وكانت أكبر من هذا (الزعطوط) وتركونا نمضي في سبيلنا على أمل أن نساهم في الدفاع عن حكم أمير المؤمنين صدام وأم المؤمنين ساجدة !!

وأظنك -أيها الفطن اللبيب- فهمت رسالتي من هذا المقال، فالحوزة العلمية أشبه بزيارة الأربعين، لو حصل فيها ألف تفجير لن يوقف الزحف، لأنه زحف جمعي لا مركزية واحدة له.

وهذا سيد الطائفة السيستاني حفظه الله وأطال عمره الشريف، مركزٌ وأي مركز ! ورأسٌ وأي رأس !، ولكن الحوزة كانت قبله، وعاشت معه وهو يشق بها الأمواج، وستبقى بعده، حتى ظهور راعيها إمام العصر عجل الله فرجه الشريف.

وإذا كان جماعة الحملة الإيمانية قد بدلوا جلدهم وغيروا أقنعتهم ليضربوا الحوزة مرة أخرى بأشكال مختلفة، من اغتيالات، إلى نماذج مشبوهة ترتدي عمائم الحوزة، إلى مسلسلات ودعايات وتشويهات البيجات، فذلك كله لن ينفع، فمن عجز يوم كان في السلطة، فهو من وراء القناع أعجز.