كتاب سيخرجك من «العزلة النفسية»!

لا أدري هل كتبتَ – أيُّها القارئ الكريم – بحثاً من قبل أم لا، فإن لم تكن كتبتَ من قبلً فكأنَّك لا تشعرُ بكلماتي التي سأقولُها الآن، فالشعور بالكلمة شيءٌ ، وقراءتُها شيءٌ آخر.

الباحثُ أو الشَّاعر أحياناً يُطلب منه أن يكتب شيئاً ما فيعجز عن الكتابة، ولربَّما تمتدُّ به السنون ليكتب فيها صفحاتٍ يسيرةً من بحث، أو تطول به السَّاعاتُ ليقول قافيَّةً واحدةً من قصيدة، ثم هما لا يُوفقان لا في بحثٍ ولا في قصيدة.

ولكن تجد كاتباً يتيسَّر له البحث، وتتيسَّرُ له المصادر، ويفتح الله عليه من أبواب القلم ما لا يفتح ملكٌ بسيف، ولا قائدٌ بجند فيأتي بالعجب العجاب من براهين مُحكمة، وأدلَّةٍ مشيدةٍ في بناء حُجَّةٍ قويمة لا يأتيها الزيغ من بين يديها، ولا يدحضها الباطل من خلفها، فهي محفوظةٌ بحصونٍ من العلم، مكلوءةٌ بصياصٍ من المعرفة فذلك هو الشاهد على أن يد الله تعالى كانت في ثنايا البحث وبين طيَّات الكتاب.

"مليكة الروم" كتابٌ في تاريخ السيدة نرجس – عليها السلام – وقصة مجيئها إلى العراق، في هذا الكتاب تجد ثلاثة أمور:

اطلاعاً واسعا، وعلماً جمَّاً، وتوفيقاً من الله تعالى.

وتجدُ البرهان في الكتاب صنعةً وفنَّا، ينحته بقلمه كما ينحت المبدع تمثالاً من رخام، أو يرسم العبقريُّ لوحةً على جدار.

وآية سعة اطلاعه توفره على مصادر أجنبيةٍ تفيد غرضه في الربط بين الرواية الاسلاميَّة العقائديَّة، والرواية التاريخيَّة الأجنبية لتدلّ الثانيةُ على صدق الأولى، فإنَّه يستحيل على راوٍ مسلمٍ أن يبتدع قصة مجيء السيدة نرجس إلى العراق وهو لم يطلع على تفاصيل الحياة في بيزنطة، ولمَّا كان الرَّاوي غير مطلعٍ على الحياة في بيزنطة، وجاءت روايته متطابقة والمصادر الأجنبية فتلك أمارةٌ على الصدق، شاهدٌ على الحق.

ويفرق الشيخ المؤلف – حفظه الله – بين الروم والرومان، والقيصر والامبراطور مما يدلُّ على اطلاعٍ وسيع ذرع الرؤية، وجِدٍّ عريض منكب المثابرة في تتبّع مصادر بحثه.

ويطلعك بعد ذلك على الفرق بين النقل بالمعنى والنقل بالمضمون ثم يخوض معك بحراً من الاستشهاد بكلمات أعلام الطائفة ليبرهن على صحة كلامه.

وهو يأتي بمقدماتٍ بعيدة تخال لأول وهلةٍ أن لا ربط بينها وبين نتائجها، حتى إذا ظفر من خيوط النور شمس الحقيقة الساطعة رأيت نسجاً من ضوء البراهين المنيرة ما يُزيل عتمة الشبهة ويدحض باطل الضلالات.

وترى بعد ذلك يد الله تجوس في خلل البحث، وتتخلل فروج الكلمات لتسدَّ ثغرة، وتقيم أودا، تشعر هذا لأنَّك لو خلت أن تكتب كتاباً مثل هذا لا تستطيعه، لأن الله تعالى كان معه يسدده في البحث، ويرشده إلى النتائج .

كتابٌ أخرجني من عزلةٍ نفسية كنت أعيشها قبل أيام، وأدخلني في دهشةٍ وسرورٍ، فما زالت حوزة النجف الأشرف درءاً لكلِّ شبهة، وردءاً لكل حق، ومنافحةً عن كلِّ أصيلٍ من التراث الذي يريد أن يزعزعه عن رواسيه من لا حريجة له في الدين.

ولستُ بصدد تقييمه وتقديمه، فمن كان فحَّاما لا يُقوم مثقال الذهب، وما عساني أقول في تقديمه وقد قدَّمه من هو أهلٌ لتقديمه أعني سماحة الشيخ العلامة نزار آل سنبل، ربيب حوزتي النجف الأشرف وقم المقدَّسة ومقرر بحوث الشيخ الوحيد الخراسانيّ – دام ظله -

كتابٌ لا بُد أن يقرأه الباحث ليتعلّم البحث على أصوله، والمثقف ليعلم عن تراثه مالم يكن به عالما.