ريشة في ريح: لماذا تتقلب القلوب؟!

حديثنا هو عن قوس الصعود والنزول للأرواح، وعن أسباب سمو القلب وهبوطه. وقد سمي القلب قلبا لأنه كثير التقلب. والقرآن الكريم يذكر التقلب في ثلاثة موارد: المورد الأول: التقلب في عالم الطبيعة كتقلب الليل والنهار، والفصول الأربعة، وذلك قوله سبحانه: (يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ)[١]، أو كالتقلب الذي يحدث للجنين في الرحم، قال تعالى: (ثمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ)[٢].

المورد الثاني: التقلب في عالم الأرواح والقلوب، (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[٣]. ويصل الأمور بالبعض أن يختم على قلبه بعد أن أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وأبان له الحق، وتمت عليه الحجة. والمورد الثالث: التقلب الإرادي، وهو تقلب يرجع إلى الإنسان نفسه، قال سبحانه: (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ)[٤]؛ أي الوجه الباطني لا الظاهري.

التقلب في روايات أهل البيت (ع)

ولم تكن مشلكة التقلب مشكلة حديثة وإنما كان يعاني منها الصحابة على عهد رسول الله (ص)، فقد روي عن أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) أنه قال: (كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَلَمَّا هَمَّ حُمْرَانُ بِالْقِيَامِ قَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أُخْبِرُكَ أَطَالَ اَللَّهُ بَقَاكَ وَأَمْتَعَنَا بِكَ إِنَّا نَأْتِيكَ فَمَا نَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ حَتَّى تَرِقَّ قُلُوبُنَا وَتَسْلُوَ أَنْفُسُنَا عَنِ اَلدُّنْيَا وَتَهُونَ عَلَيْنَا مَا فِي أَيْدِي اَلنَّاسِ مِنْ هَذِهِ اَلْأَمْوَالِ، ثُمَّ نَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ فَإِذَا صِرْنَا مَعَ اَلنَّاسِ وَ اَلتُّجَّارِ أَحْبَبْنَا اَلدُّنْيَا قَالَ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّمَا هِيَ اَلْقُلُوبُ مَرَّةً يَصْعُبُ عَلَيْهَا اَلْأَمْرُ وَمَرَّةً يَسْهُلُ.

ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَا إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ نَخَافُ عَلَيْنَا اَلنِّفَاقَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: وَلِمَ تَخَافُونَ ذَلِكَ قَالُوا إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ فَذَكَّرْتَنَا رُوِّعْنَا وَوَجِلْنَا نَسِينَا اَلدُّنْيَا وَزَهِدْنَا فِيهَا حَتَّى كَأَنَّا نُعَايِنُ اَلْآخِرَةَ وَاَلْجَنَّةَ وَاَلنَّارَ وَنَحْنُ عِنْدَكَ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ وَدَخَلْنَا هَذِهِ اَلْبُيُوتَ وَشَمِمْنَا اَلْأَوْلاَدَ وَرَأَيْنَا اَلْعِيَالَ وَاَلْأَهْلَ وَاَلْمَالَ، يَكَادُ أَنْ نُحَوَّلَ عَنِ اَلْحَالِ اَلَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا عِنْدَكَ وَحَتَّى كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ عَلَى شَيْءٍ أَ فَتَخَافُ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا اَلنِّفَاقَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: كَلاَّ هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ لَيُرَغِّبَنَّكُمْ فِي اَلدُّنْيَا، وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّكُمْ تَدُومُونَ عَلَى اَلْحَالِ اَلَّتِي تَكُونُونَ عَلَيْهَا وَأَنْتُمْ عِنْدِي فِي اَلْحَالِ اَلَّتِي وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَا لَصَافَحَتْكُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَمَشَيْتُمْ عَلَى اَلْمَاءِ وَلَوْ لاَ أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ فَتَسْتَغْفِرُونَ اَللَّهَ لَخَلَقَ اَللَّهُ خَلْقاً لِكَيْ يُذْنِبُوا ثُمَّ يَسْتَغْفِرُوا فَيَغْفِرَ لَهُمْ، إِنَّ اَلْمُؤْمِنَ مُفَتَّنٌ تَوَّابٌ)[٥].

ومن الملفت في هذا الحديث؛ اهتمام الصحابة الصالحين بحالاتهم الباطنية، وأن الله عز وجل يحب أن يغفر ويحب التوابين ولكن لا يحب أن يعصى. والحديث من الأحاديث التي تبعث الأمل في النفوس.

أسباب التقلب في عالم الوجود

لو أجرينا مقارنة سريعة بين التقلب في عالم الطبيعة والتقلب في عالم الأنفس والأرواح ، لرأينا أن التقلب في عالم الطبيعة تقلب مستند إلى الله عز وجل ، وهو تقلب مدروس وحكيم ، لهدفٍ ما ، فلو كان هناك فصل واحد فقط طوال السنة – مثلا – لما تيسرت أمور الزراعة في الأرض. أما تقلب الإنسان فهو مستندٌ إلى نفسه وإلى الأهواء والشياطين وإلى حالة الكسل والفشل وإلى حب الركون إلى الدنيا والدعة ﴿ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ)[٦]، وينبغي للمؤمن أن يتحكم في هذه التقلبات ويديرها بنحو حسن.

أما العامل الأول لهذه التقلبات، هو عدم امتلاك المؤمن استراتيجية عقائدية وفكرية واضحة في الحياة. فلا معرفة له بخالق الوجود، ولا يعرف موقعه في الطبيعة والعالم. وقد يتأثر قليلا في حج أو عمرة أو تحت أعواد المنابر مما يسمع من الخطباء والوعاظ إلا أنه تأثير مرحلي سرعان ما يزول. وحتى في الطلب من الله عز وجل لا بد وأن يلتفت المؤمن إلى الله سبحانه أشد الالتفات، يقول سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[٧]؛ ففي الآية سبعة ضمائر تعود إلى الله عز وجل، ولذلك يستجاب للإنسان في الشدائد، لأنه يتوجه بكله إلى الله عز وجل.

ولذلك يعتقد بعض فلاسفة المسلمين أن الانشغال بالفلسفة الإسلامية الصحيحة – إلى حد ما – تعين الإنسان على معرفة موقعه في هذا الوجود. ويعلم أن العالم السفلي يضاهي العالم العلوي. ويقول سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ)[٨]، والمراد بالعلماء هنا؛ العالمون بالله عز وجل، لا علماء الذرة والفلك وما شابه فهم أبعد الناس عن الله عز وجل. وقد صعد أحدهم بمركبته الفضائية إلى قشرة جوية قريبة من الأرض وإذا به يقول: صعدت إلى السماوات فما وجدت الله عز وجل، ثم احترق بعد ذلك. إن العالم هو العارف بالله عز وجل، ولا يزيده توغله في عالم الطبيعة ومزاولته للتخصصات العلمية إلا قربا من الله سبحانه وإيمانا به. ولذلك يقول سبحانه: (قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ)[٩] أو قوله تعالى: (فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ)[١٠]، وقد لا تعطي السياحة الخالية عن المعرفة ثمراتها المرجوة، وإذا اكتسب الإنسان هذه المعرفة الطبيعية سوف لن يتراجع عن إيمانه وسيكون ارتباطه بالله عز وجل ارتباطا وثيقا ومقدمة للإجابة وتقلب القلب نحو الأحسن.

تقلبات المعصومين (عليهم السلام) وعلة استغفارهم في الأدعية والمناجاة

لقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِيَّاكُمْ إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ رَبِّهِ شَيْئاً مِنْ حَوَائِجِ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ حَتَّى يَبْدَأَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَ اَلْمَدْحِ لَهُ وَاَلصَّلاَةِ عَلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ثُمَّ يَسْأَلَ اَللَّهَ حَوَائِجَهُ)[١١]؛ وما ذلك إلا ليذكر نفسه باعلاقة الاستراتيجية العميقة التي تربطه بالله تعالى، والتي لا تنفصل مع تقلبات الأحوال، وكرور الليالي والأيام، ولذلك نلاحظ وجود حالة ثابتة عند الأنبياء والأئمة (ع) في ارتباطهم مع الله عز وجل. وإن كان يستشف من بعض أدعيتهم الشريفة أنه يقومون ببعض الأفعال التي يستغفرون الله عز وجل عليها، ويتضرعون تضرع العصاة، كما نرى ذلك في دعاء كميل والمناجاة الخمسة عشرة للإمام السجاد (ع)؛ إلا أن لذلك تفسيرا نورد هنا بعضه:

أولا: إن المعصوم يتحدث بالنيابة عن أمته، ويتحدث مع الله عز وجل من بلسان الأمة العاصية، فهو يستغفر بلسان الغير.

ثانيا: أن استغفارهم هذا لترك الأولى؛ كأن يقوم بفعل حسن وفاضل دون الأفضل، وهذا ما يدعوه إلى الاستغفار والإنابة.

ثالثا: الاستغفار قد يكون إظهار للتذلل والخضوع؛ فإذا ما أتاك ضيف عزيز وقمت بواجبه من تقديم الضيافة والخدمة وأكرمته غاية الإكرام، إلا أنك تشعر بالتقصير ولذلك تعتذر منه وتطلب منه العفو والمغفرة، وهذا معروف بين الناس.

رابعا: إن الإمام والمعصوم له حالات مختلفة، فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (لِي مَعَ اَللَّهِ وَقْتٌ لاَ يَسَعُنِي مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ)[١٢]، وقد وصل النبي (ص) إلى مقام قال عنه تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ)[١٣]، وقد قال جبريل عن ذلك المقام: (تَقَدَّمْ يَا رَسُولَ اَللَّهِ لَيْسَ لِي أَنْ أَجُوزَ هَذَا اَلْمَكَانَ وَلَوْ دَنَوْتُ أَنْمُلَةً لاَحْتَرَقْتُ)[١٤]. وبعد هذه المقامات يضطر النبي (ص) أن يهبط إلى الأرض ويتعامل مع المنافقين والمشركين ومع أزواجه وأصحابه ويحل خلافاتهم ويتولى شئونهم، ويسير الغزوات ويدير المعارك، فأين هذه من الحديث مع رب العزة من دون واسطة.

والتقلب في حياة المعصومين أمر طبيعي وهذا التقلب لا شأن له بالعصيان والعياذ بالله ولكنه يوجب الإنابة إليه تعالى. ولكن هناك حد أدنى من الالتفات إلى الله عز وجل، لا يتحول عنه المعصوم، فقد روي أن الإمام الباقر (ع) كان يكرر قول: (لا إله إلا الله) حتى كأن لسانه لاصقا بحنكة من كثرة التهليل، وهذا أمر طبيعي ولكنهم كانوا يحلقون في أجواء عالية كما أشرنا إلى ذلك.

تقلبات المؤمنين

إن المؤمن له وتيرة ثابتة في علاقته مع الرب، قد ترتفع في شهر رجب أو في الحج أو في جوف الليل في قنوت الوتر، يتكلم مع الله عزوجل فيرتقي، و(أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُ فِي صَلاَتِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ اَلْمِرْجَلِ مِنْ خَوْفِ اَللَّهِ تَعَالَى)[١٥] ، فكان صدر الخليل (ع) يغلي كما يغلي المرجل، من شدة التضرع والبكاء والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه حالات استثنائية، ولكن المؤمن يبقى في أدنى حد من حالات الارتباط بالله سبحانه وتعالى .ويمكن تشبيه ذلك بالأم التي تحنو على أزلادها دائما من دون سبب، إلا أنها تضاعف الحنان والحنو على بعض اولادها عندما يصدر منهم كلاما لطيفا أو فعلا حسنا.

العامل الثاني: الدعاء في جميع الأحوال

يذكر القرآن الكريم حالة – اسميها بحالة – الفلك (هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ)[١٦]، قومٌ في وسط البحر، عندما تأتيهم ريح طيبة اطمأنوا بها ونسوا الله عزوجل، ولكن عندما يأتيهم الموج دعوا الله، ولا فرق في ذلك بين الفلك والطائرة أو أي مكان آخر يضطر فيه الإنسان. وهذه حالة انتهازية، فالإنسان لا يرتبط بالله عزوجل إلا في الأزمات، والحال أنه ينبغي للمؤمن أن يعيش حالة ثابتة، في السراء والضراء .

والإنسان في حال الدعة والرخاء أحوج ما يكون إلى الدعاء في الشدة والضراء، لأن سياسة الرب مع العباد عادة، أن يبتليهم بالشدائد بعد السراء والرخاء. فإذا استوثقت أمور المؤمن، وعاش حالة الارتياح العائلي والمادي والوظيفي والاجتماعي، وفرح بذلك، إذا برب العزة والجلال يُتْحِفُ عبده المؤمن بما يقض  مضجعه – كما ورد في بعض الروايات – وبما يسلبه حالة السبات لئلا يركن إلى واقعه.

ومن أهداف الابتلاء تذكير المؤمنين الغافلين؛ فإذا كان المؤمن يذكر الله على الدوام قد يصرف عنه البلاء أو يخفف عنه. والبلاء إما يكون للتذكير وإما أن يكون للتعويض. وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (اِدْفَعُوا أَمْوَاجَ اَلْبَلاَءِ عَنْكُمْ بِالدُّعَاءِ قَبْلَ وُرُودِ اَلْبَلاَءِ)[١٧].

العامل الثالث: تأثير السلوك على الاستقرار النفسي

إن المعاصي تسلب الإنسان التوفيق المعنوي. وكما أن الظلم ظلمات في يوم القيامة كذلك هي في الدنيا. إن العاصي تعتريه حالة من القسوة القلبية. وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (عَنِ اَلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِذَا ظُلِمَ اَلرَّجُلُ فَظَلَّ يَدْعُو عَلَى صَاحِبِهِ قَالَ اَللَّهُ جَلَّ جَلاَلُهُ إِنَّ هَاهُنَا آخَرَ يَدْعُو عَلَيْكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ ظَلَمْتَهُ فَإِنْ شِئْتَ أَجَبْتُكَ وَ أَجَبْتُ عَلَيْكَ وَ إِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُكُمَا فَتَوْسَعُكُمَا عَفْوِي)[١٨]. ولهذا نجد أن الصلاة على القلب عند ارتكاب المعاصي، وتجمد العين، وقد يذهب المؤمن إلى المسجد وكأنه يجر إليه جرا. وتنعكس المعاصي على قيام الليل، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّ اَلرَّجُلَ يُذْنِبُ اَلذَّنْبَ فَيُحْرَمُ صَلاَةَ اَللَّيْلِ)[١٩]، فإذا حرم قيام الليل، حرم الرزق وهذا عقاب مادي ومعنوي وكلاهما يثقلان على الإنسان.

مرققات القلوب؛ حسن الظن بالله

فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِذَا دَعَوْتَ فَظُنَّ حَاجَتَكَ بِالْبَابِ)[٢٠]، وقد يظن البعض أن السلاطين والحكام والعياذ بالله أقدر منه سبحانه على قضاء الحوائج، وهو الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وما على الإنسان إلا الدعاء لاستنزال الرحمة الإلهية الواسعة.

رعاية الآداب الظاهرية

من قبيل الطهارة، وشم الطيب، والصدقة، واستقبال القبلة. وللمسجد آدابه كذلك، فعندما تأتي إلى المسجد عليك أن تعلم أن هذا المكان منتسب إلى الله، ويَحرم دخول الجنب فيه، وإذا تنجس الفرش عليك أن تبادر إلى تطهيره فهو مكان طاهر مطهر لا يرضى سبحانه أن تبقى فيه النجاسة لحظة واحدة.

اغتنام أوقات الدعاء

فقد روي عن أمير المؤمنين (ع): (اِغْتَنِمُوا اَلدُّعَاءَ عِنْدَ أَرْبَعٍ عِنْدَ قِرَاءَةِ اَلْقُرْآنِ وَعِنْدَ اَلْأَذَانِ وَعِنْدَ نُزُولِ اَلْغَيْثِ وَعِنْدَ اِلْتِقَاءِ اَلصَّفَّيْنِ لِلشَّهَادَةِ، وَعِنْدَ دَعْوَةِ اَلْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حِجَابٌ دُونَ اَلْعَرْشِ)[٢١]، وبعد الصلاة الواجبة، عند ظهور آيات الله في أرضه كالزلازل، وفي السحر إلى طلوع الشمس، وخاصة سحر الجمعة من أفضل ساعات الاستجابة طوال الأسبوع، وساعة آخر النهار من يوم الجمعة، وعند هبوب الرياح، وبين الأذان والإقامة، وقد ورد أن يسجد بينهما تذللا ويقول في سجوده: إلهي لك سجدت خاضعا خاشعا ذليلا…

الاختلاف إلى المساجد

لا بأس أن يدخل المؤمن المسجد ويقول مخاطبا ربه: البيت بيتك والعبد عبدك ، ولكل ضيف قرى وكرامة وأنا ضيفك، فلعله يستجلب بذلك الالتفاتة واستجابة من الله عز وجل.

عدم طلب المرجوح من الحاجات

أي لا يطلب ما ليس فيه مصلحة، قد يكون الطلب مباحا ولكن لا ينفع الإنسان، كشاب مراهق أنهى الثانوية العامة ويريد أن يذهب إلى بلاد الغرب، وهو يعلم أنه لا يضمن سلامة دينه، فهو يأتي المسجد، ويدفع الصدقات، والنذورات حتى يذهب إلى تلك البلاد والقضية واضحة كالشمس في رائعة النهار أو النار على المنار..!

إدمان الصوم

تنظيف البدن من الحرام بالصوم. ولذلك نرى تأكيدا على الصوم في جميع الأعمال المستحبة، لأنه يذيب ما دخل جوف هذا الإنسان من حرام بقصد أو بدون قصد.

تسمية الحاجة

إن حالة النبي إبراهيم (ع) عند قوله: (حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي)[٢٢]، كانت حالة استثنائية، فينبغي للمؤمن أن يذكر حاجته من ربه وذلك أقرب إلى التذلل والاستعطاف، وقد ورد في الحديث القدسي: (يَا مُوسَى سَلْنِي كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَتَّى عَلَفَ شَاتِكَ وَمِلْحَ عَجِينِكَ)[٢٣].

البكاء والتباكي

قد تعتري الإنسان حالة من القسوة؛ فيتكلف البكاء ولا يطاوعه، فلا بأس أن يتباكى ليظهر بمظهر البكائين. ومن الوصايا المهمة أيضا لترقيق القلب: تجديد التوبة والإصرار في الدعاء والدعاء في الخفاء، والدعاء للجميع وتقديم الإخوان، كما أثر عن الزهراء (سلام الله عليها): (اَلْجَارَ ثُمَّ اَلدَّارَ)[٢٤]، ورفع اليدين، والدعاء بما يتضمن الاسم الأعظم.

الهوامش:

[١] سورة النور: ٤٤.

[٢] سورة المؤمنون: ١٤.

[٣] سورة الأنعام: ١١٠.

[٤] سورة الحج: ١١.

[٥] تفسیر البرهان  ج١ ص٤٦٤.

[٦] سورة التوبة: ٣٨.

[٧] سورة البقرة: ١٨٦.

[٨] سورة فاطر: ٢٨.

[٩] سورة الروم: ٤٢.

[١٠] سورة الروم: ٥٠.

[١١] الکافي  ج٢ ص٤٨٤.

[١٢] بحار الأنوار  ج٧٩ ص٢٤٣.

[١٣] سورة النجم: ٨-١٠.

[١٤] بحار الأنوار  ج١٨ ص٣٨٢.

[١٥] مستدرك الوسائل ج١١ ص٢٣٢.

[١٦] سورة يونس: ٢٢.

[١٧] الخصال ج٢ ص٦١٠.

[١٨] الأمالي (للصدوق)  ج١ ص٣١٨.

[١٩] الکافي  ج٢ ص٢٧٢.

[٢٠] الکافي  ج٢ ص٤٧٣.

[٢١] الکافي  ج٢ ص٤٧٧.

[٢٢] بحار الأنوار  ج٦٨ ص١٥٥.

[٢٣] وسائل الشیعة  ج٧ ص٣٢.

[٢٤] علل الشرایع  ج١ ص١٨٢.