هل ندعو الله بقلوبنا أم بالكلمات؟!

إن الدعاء ـ في حقيقته ـ يمثل المعاني القيمة، التي تتبلور في نفس الداعي، ويستتبع التوجه العميق إلى الذات الإلهية، فالفناء في وجوده الواجب، ثم الرجوع إلى عالم المادة، لأداء مهمة الروح العليا، روح العدالة والحق والصدق وبالتالي: الخلاص من كل العبوديات.

وفي هذا السفر السريع البطيء، والطويل القصير، لا حاجة إلى أي شيء، سوى التركيز على نقطة المبدأ، ومركز الانتهاء.

فلا يمكن أن نقيد الدعاء ـ بعد أن كان عملا روحيا ـ بأي قيد، من زمان أو مكان أو لفظ، ولا بأية لغة أو صيغة أو نص.

وقد رسم الإمام الصادق، أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، لهذه الفكرة خطة واضحة، في الحديث التالي:

عن زرارة، قال، قلت لأبي عبد الله عليه السلام: علمني دعاء؟ فقال: إن أفضل الدعاء ما جرى على لسانك 1.

فإذا كان الداعي لم يطق أن يستوعب أكثر مما يجري على لسانه، فإن ذلك يكفيه، والمهم أن يكون ملتفتا إلى أساس الدعاء ولبه وهو التركيز على نقطة المبدأ ومركز الانتهاء، في سيره الروحي.

وقد أفصح الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الحقيقة لما سأل رجلا: كيف تقول في الصلاة؟

فأجاب الرجل: أتشهد ثم أقول: «اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار».

وأضاف الرجل: أما أني ـ والله ـ لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: حولها ندندن 2.

لكن الإسلام قد حدد للدعاء المختار حدودا، وقرر له شروطا، راعى في ذلك بلوغه إلى الكمال المطلوب، ومن ذلك ما يرتبط بألفاظه ولغته.

ففي الوقت الذي أكد على جوانب معناه وأهدافه، لم يهمل جانب أدائه وصيغته.

والحق، إنا إذا أردنا أن نركز التفاتنا كاملا، فإن كل الحواس ـ وهي ترتبط بواسطة الأعصاب بعضها بالأخرى ـ لابد أن تتجه وتلتفت سواء الحواس الخارجية وجوارحها، أم الحواس الباطنية وقابلياتها، وحاسة النطق ـ وهي المعبرة عن الجميع ـ وآلتها اللسان، لابد أن تتحرك أعصابه، فتكون كلمة الداعي حاسمة، وتكون ألفاظ الدعاء مركزة موجهة.

أليست الألفاظ تعبيرا عن مكامن الضمير، وسرائر الوجدان؟

أليست الكلمات النابعة عن طلبات الروح، اصدق دليل على التركيز في التوجه والالتفات؟ ومن يدري؟!

فلعل العبد الداعي يكون أقرب إلى مولاه الجليل، عند بعض الحالات، وأداء بعض النغمات، وتلاوة بعض الكلمات، وفي بعض المقامات والأوقات؟ دون غيرها؟!

إن النية الواحدة، قد تصاغ بأشكال مختلفة، وتؤدى بأساليب متنوعة، وقد تصحبها أنغام متفاوتة.

فأيا منها نختار؟ لنتوسل به إلى هذا السر الروحي، ونتزود منه على هذا الطريق الصعبة، ونتوصل بسببه إلى النتيجة المنشودة.

ما أروع للداعي، لو عرف، أو تنبه إلى أجمل لفظة في أبدع أسلوب، والى أليق تعبير في ارق نغمة، وكان دعاؤه نابعا من أعماق الضمير، ليكون ارغب إلى مقام الإنس، وأقرب إلى حظيرة القدس، واكد في تحقيق رغبات النفس.

أليس هذا هو الأحسن، والأضمن لحصول الإجابة؟

لكن ليس الإفراط في المحافظة على اللفظ، والتوغل في مراعاة أداء الحروف وضبط الحركات، هدفا للمتكلم الواعي، ولا غاية للإنسان الهادف، فضلا عن المسلم الذي يقوم بمهمة عظيمة مثل الدعاء.

فان الدعاء ـ قبل أن يبلور في الجمل والكلمات ـ إنما هو نور مضي ينقدح فيفيض عفى اللسان، و لو كان القلب كدرا لم ينقدح فيه ذلك النور، فأين له أن يظهر على لسان صاحبه، الدعاء؟!

قال الإمام الصادق عليه السلام: تجد الرجل لا يخطئ بلام ولا واو، خطيبا مصقعا ولقلبه اشد ظلمة من الليل المظلم 3.

وهكذا الانهماك في تطبيق القواعد اللفظية، بما يصرف توجهه عن المعاني ويقطع التفاته عن الهدف.

وهو ما ذكره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه، من قوله:

من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع 4.

نعم، أن إغفال جانب اللفظ وحسن التعبير، وصحح النص وسلامة العبارة عيب، بلا ريب، في الدعاء يحطه عن مرتبة الكمال اللازم في كل جوانب الدعاء من لفظه ومعناه، ولابد للداعي العارف، المتمكن من ذلك أن يتصف به، فيكون دعاؤه بمستوى ما يطلب من المقام الرفيع المنشود.

ومن هنا ورد التأكيد البليغ على اتصاف الدعاء بالأدب، ويراد به «الأدب العربي» في مراعاة القواعد اللغوية والنحوية والبلاغية، إذا بلغ الداعي مرتبة عالية من العلم والمعرفة، وبلغ من الدين والعقيدة مبلغا يحسن مثل هذا الطلب منه.

قال الإمام أبو جعفر محمد بن علي، الجواد عليه السلام: ما استوى رجلان في حسب ودين ـ قط ـ إلا كان أفضلهما عند الله آدبهما.

قال الراوي: جعلت فداك، قد علمت فضله عند الناس، في المنادي والمجالس، فما فضله عند الله عز وجل؟! قال عليه السلام: بقراءة القرآن كما انزل، ودعائه الله عز وجل من حيث لا يلحن، وذلك ان الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عز وجل 5.

إن الكمال اللازم يجب أن يعم أدب الداعي ومعارفه، فيكون كاملا في لغته التي يتقدم بالدعاء بها، بعيدا عن اللحن المزري، فان الله يحب ان يرى عباده يناجونه بأحسن ما يناجي به أحد.

أليس القرآن ـ وهو كلام الله ـ نزل بأبلغ ما يكون الكلام وأعذبه، فليكن ما يخاطب به العبد مولاه ـ كذلك ـ في أوج ما يقدر عليه من الكلام الطيب والذكر البديع، المنزه عن عيب اللحن، والوهن.

إن الإسلام ـ في الوقت الذي ينص على الاكتفاء بما يجري على اللسان من الدعاء، إذا لم يعرف الداعي نصا مأثورا، لان ذلك أدنى ما يأتي منه ـ فإنه لا يكتفي ممن يمكنه الوصول إلى المأثور، أن يقتنع بالدعاء الذي يخترعه من عند نفسه.

عن عبد الرحيم القصير، قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فقلت: جعلت فداك، إني اخترعت دعاء!

قال عليه السلام: دعني من اختراعك.

إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله عليه وآله وصل ركعتين تهديهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله . . . 6.

وعلمه دعاء يتلوه.

إن الدعاء المأثور، هو ـ بلا ريب ـ أقوى، وأصدق، وأضبط، فهو أوصل إلى المطلوب، مما يخترعه ذهن الإنسان العادي، ويلوكه لسانه... 7.

1. وسائل الشيعة: 4 / 1171.

2. الأسماء المبهمة ـ للخطيب البغدادي ـ: 116 رقم 63 وانظر كنز العمال: 2 / 88.

3. الكافي ـ الأصول ـ: 2 / 422.

4. بحار الأنوار: 1 / 7 ـ 218.

5. عدة الداعي: 18، وسائل الشيعة: 4 / 1107، وانظر: كنز العمال: 2 / 293.

6. الكافي، كتاب الصلاة، باب صلاة الحوائج: 3 / 476 ح 1.