ماذا لو قرأ شيخ الأزهر كتاب أفول الغرب؟

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر» 

إدريس هاني

كالعادة ومن دون رويّة، اهتزت الصحافة العربية بالشرق، وكالعدوى انتشر خبر مثل النار في الهشيم، مسنودا بصورة لشيخ الأزهر الدكتور أحمد محمد الطيب وهو يستقيل طائرة عائدا من رحلة العلاج، وبجانبه كتاب "أفول الغرب" لكاتبه المفكر المغربي د. حسن أوريد.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وقد أطلق الكثيرون أذهانهم للخيال، فاستعمل ذلك وسيلة لتصفية حسابات بين الفرقاء، كما أخبرني الصديق حسن أوريد أمس حين سألته عن تداعيات الأمر من خلال مكالمة تلفونية. ولا يحتاج الأمر إلى مزيد توضيح، فلقد أدركت كما أدرك كثيرون هذا النوع من الخفّة والاستخفاف في تناول الأحداث.

هذه الجعجعة بلا طحين أظهرت سطحية وفساد هذا العَلَف الديماغوجي الذي يحمله محترفو التبسيط، ويتسكّعون به ليل نهار على رصيف الميديا العربية. فأي إشكال يا ترى يثيره كتاب يقرأه رجل عالم ومثقف؟ أجل، لقد قرأنا ذلك الكتاب قبل سنوات، ربما وصل أو أوصلوه متأخرا للشيخ. وهل سيصادرون حرية رجل متابع وقارئ؟ على الأقل شيخ الأزهر يقرأ وهم لا يقرأون. وأن تختلف مع شخص، لا يمنحك الحق في الإسفاف وخلط الأوراق.

وقد أطلعني د. حسن أوريد على ردّه على هذه الجلبة التبسيطية بمقالة رائقة أسلوبا ومضمونا. ولكن قبل أن أستعرض بعضا منها، وجب التذكير بأنّ د. حسن أوريد كاتب وأديب، له عدد من الروايات التاريخية حول قرطبة والموريسكي، وأعمال أخرى فكرية، لعل واحدة منها "أفول الغرب" وهو عنوانا متجدد ومزيد لعمل سابق موسوم بـ" مرآة الغرب المنكسرة"، كان اقتراح تغيير العنوان من الناشر حسب ما بلغني من الأستاذ حسن أوريد.

 ليس "أفول الغرب"، نقدا للغرب بالمعنى الذي يتبادر إلى أذهان من تخفّف واستخفّ بالموضوع، بل هو يندرج في نقد الغرب وتبيّن مساره الحضاري كما عند شبنغلر في انحطاط الغرب، وكما لدى ماركوز وسائر مدرسة فرانكفورت. حسن أوريد لا يجهل الغرب وليس سلفيّا، بل هو على عهد المدرسة المغربية، للحركة الوطنية الجامعة بين الأصالة والمعاصرة؛ أستاذ العلوم السياسية، شغل مناصب رسمية حساسة من قبل، كناطق باسم القصر، وهذا طبيعي لتزامنه مع العهد الجديد، ولأنه انتقي من بين أنبه التلاميذ لمواصلة تعليمه بالمدرسة المولوية، كما شغل منصب مؤرخ المملكة ووالي مدينة مكناس-تافيلالت، والآن هو متحلل من كل منصب، مؤثرا أن يكون مثقفا وكفى.

ولقد كتب د. حسن أوريد ردّا على تلك الجلبة الفارغة تحت عنوان: (على هامش كتاب “أفول الغرب”: زوبعة في فنجان)، وفيه نقف على بعض الفذلكات التي استصغرت همّة من ركبوا تلك الموجة بلا ضمير قرائي، لأنّهم يجهلون الكاتب والمكتوب.. فلقد أجاب د. حسن بالقول: (أُثيرت في مصر ضجة حول قراءة فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لكتابي "أفول الغرب"، في استنتاجات مُبتَسرة وقراءات مُغرِضة. فأنْ يقرأ شخص ما كتاباً ليس معناه أنه يتماهى مع ما يرِد في الكتاب، أو يتبنى أطروحة الكاتب، وأن يُقرأ لكاتب ليس معناه بالضرورة أن من قرأوه يتبنون آراءه.. وليس يسوّغ لمن يزعم الموضوعية والدقة ويرتبط بقيم التنوير ويتبجح بالفهم، أن يحكم من خلال نظرة فطيرة، أو يركب رأسه لحسابات خسيسة، وأحْرى الناس بالموضوعية والدقة الذين يزعمون الحداثة والتنوير).

حاكم د. حسن المستنورين الذين تنطعوا على طريق الهجاء، بأصول التنوير، وأظهر قيمة الأزهر في مصر والعالم العربي والإسلامي، وبأنه كان مرتعا للتنوير: (والأزهر الشريف هو الذي أنجب هذه الهامات التنويرية التي يعرف فضلها الغرب وغير الغرب، وأولها رفاعة الطهطاوي، مَن يعتبره الفيلسوف الفرنسي كي سورمان في كتاب خليق أن يقرأه "التنويريون الجدد" إن كانوا يقرأون، "أبناء رفاعة" (وهو استوحى العنوان من كتاب بالعنوان ذاته لبهاء طاهر)، وقد اعتبر سورمان رفاعة الطهطاوي رابع الأهرامات).

دافع د. حسن عن موقفه، باعتبار أنّ فكرة أفول الغرب لم تكن يوما بدعا في تاريخ النقد الغربي أو الاستغراب، بل "أفول الغرب"، كلمة شاعت وذاعت منذ الحرب العالمية الأولى، منذ سبنغلر، وبول فاليري، ففرويد في كتابه "وعكة الحضارة"، إلى المؤرخ البريطاني بول كينيدي مؤخراً، فالفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري، من نشر بآخِرة كتاب "أفول"… وهل يُنعت هؤلاء بالرجعية، والتحجر، والدعوة للعنف، و"ضرب الرقاب"؟ أم تَراهم ينادون بالتداوي بالرُّقية الشرعية وبول الإبل؟".

ويضيف إلى ذلك كونه يدرك تمييز غرب عن غرب، فالغرب غربان، ويشهد على نفسه بأنّه "لم يكن قصدي التجنّي على الغرب، ولا على فلسفة الأنوار، وكانت دعوتي ألا يخون الغرب قيمه؛ إذ الغرب غربان؛ غرب الأنوار، والعقل، والحرية، وغرب الأنانية التي جلاّها واحد من مُقعدي الليبرالية الاقتصادية برنارد مندفيل، صاحب كتاب أسطورة النحل التي يقول فيها إن من مجموعة الرذائل تتحقق المصلحة العامة. وقد بينت تهافت هذه النظرة التي تفضي إلى الجشع وتحلل روابط التضامن التي من دونها لا يقوم مجتمع، مستشهداً بغربيين أقحاح ومفكرين أفذاذ".

من خلال كتابات حسن أوريد والحديث الدائم معه، هو نصير لحركة العقل والتنوير، معجب حدّ المُشاش بحركة النهضة والإصلاح، متتبع للمفاهيم الكبرى، مستوعبا ومحققا، مطّلع على ما يجري في التراث والحداثة من ثورات وما ينتابهما من هنات.

 ما يهم من هذا الرد الذي استدرج إليه كاتب أفول الغرب، هو وضعية العقل العربي، وضعية مأزومة، نطّاطة في الحكم، متسامحة في التعليل، عدوانية في الهجاء، وأما طبائع الاستبداد، فتصل إلى من يقرأ وماذا يقرأ. فمهما تمسرحت النخب قليلة الاستيعاب لمدارك الغرب التاريخية والاجتماعية والثقافية، فإنها تثبت أنّها لا تحسن التفكير قدر تفوقها في الهجاء والعدوان والخفّة. ويبدو لي أنّ ذلك عامل من عوامل الانحطاط نفسه، بل عامل من عوامل الهزيمة.

بيننا والغرب عقدة تاريخية ومسافة نفسية، ويتطلب الأمر فهما: فهم الغرب كي نحسن هجاءه، وفهم معضلتنا لكيلا نشطّ شططا بعيدا في المفارقة. من هنا يبدأ حوار الحضارات، من فهمنا لأنفسنا وفهمنا للآخر. فالتسامح في الأحكام ساهم في قيام الشعبوية مقام التفكير على أصوله. فالنخبة العربية تدانت حتى باتت كالعوام تحركها الغريزة. في بيئة طغى فيها السّفه والتّفاهة، وتمّ تحجيم دور المثقف والتآمر عليه من قبل غاغة من الشعبويين.

ربما وبنطة معهودة على هذه الفصائل التسطيحية ظنّوا أن كتاب أفول الغرب يضارع كتاب جاهلية القرن العشرين، فورطوا حالهم في عمى الخلط. أفول الغرب كتاب ينتمي لجنس من الكتابة الاجتماعية والفلسفية الاحتجاجية على غرب تنكّر لقيمه التنويرية الأولى، وأصبح آلة حربية على القيم الإنسانية، واختار نمطا من التوحش مسنودا بقوة التقنية، لتقويض العيش الحضاري المشترك. مثل هذا النوع من الكتابة مارسناه ونمارسه باستمرار من دون تردد- انظر كتابي"العرب والغرب: أية علاقة وأي رهان"- وهو احتجاج مشروع، بل واجب، لأنّ الحرّية تبدأ من هنا، من هذا الاستكبار الذي قوّض آخر ما تبقّى من قيم الأنوسة والسلم العالمي.