فجر الإمام الصادق (ع) مزّق ظلام الزعامات الزائفة

الأبعاد العلمية لدى الإمام الصادق “عليه السلام”.. الفقه وأصوله نموذجاً

كانت الحياة السياسية قد امتدت بخطوطها العامة لحرمان أهل البيت “عليهم السلام” من الحقوق الأساسية، فكان العزل المرجعي، والاضطهاد الاقتصادي، ومراقبة التحرك، بعض مظاهر إقصاء أهل البيت “عليهم السلام” عن قيادة الأمة، وإحلال البديل المتهافت سياسياً وفتوائياً بغية القضاء على الآثار التي تشير إلى أهل البيت “عليه السلام” قيادياً، وكان هذا الإقصاء قد أفضى بالضرورة إلى إقصاء فقه أهل البيت “عليهم السلام” عن الميدان، فكانت خسارة التشريع الإسلامي قد ارتفعت إلى مستوى الكوارث الإنسانية والنكسات المدمّرة.

حتى إذا نهد الإمام محمد الباقر “عليه السلام” بوضع الحجر الأساس لصرح جامعة أهل البيت، بدأت الملامح العامة للفقه الإمامي تتراءى بكثير من الحذر في الأفق الدامي، بعد أن حيل بينه وبين المسلمين قرناً من الزمان.

وما أن أطلّ الإمام الصادق “عليه السلام” بطلعته المباركة في الحياة الفكرية، حتى غطّى تلك الأضواء الخافتة البديلة في سماء التشريع التي تحاول حجب الرؤية المتألقة لتراث أهل البيت “عليهم السلام” فكان الفتح المبين، ویابی الله إلا أن يتم نوره.

ويأتي هذا الإشعاع في الإضاءة الجديدة على يد الإمام الصادق “عليه السلام” في ظروف صعبة المراس، وأجواء داكنة المناخ، واستطاع أن ينهض بكشف الحجب عن ذلك اللهيب المتوهج لتراث أهل البيت “عليهم السلام” ويمزق الستائر المهلهلة لتلك الزعامات الزائفة التي ادعت قيادة الأمة تشريعياً، ولا نصيب لها من ورع، ولا إثارة من علم.

قلنا في عمل سابق: «لقد تسلم منصة الإفتاء غير المؤهلين، ففسروا الكتاب بما لم ينزل به الله سلطاناً، وقالوا في السنة بالأهواء، وأنزلوا الشريعة منزل الرأي، وذهبوا إلى الاستحسان دون الاستنباط، وإلى القياس دون الاجتهاد، وكان الفقهاء الرسميون قد انتشروا في الممالك والأقاليم، ينفذون رغبة السلطان، ويفتون بما تملي عليهم ظروف الحاكمين، يفتعلون الأحاديث ويضعون الروايات، وينحلون السنن، إلا صبابة ضئيلة قد يمنعهم الوازع الديني عن العبث والإسراف».

وقد حسب الحاكمون أن الفراغ التشريعي يمكن له أن يملأ بهؤلاء المتنطعين، ولكنهم أخفقوا إخفاقاً فاضحاً، إذ استمدت المسائل الكثيرة في الفيء والخراج، والعتق والولاء، والغنائم والحقوق، وأفرزت الفتوح موجاً عارماً من الإشكاليات الفقهية، وقد ازدادت تعقيداً حينما لم تجد الحلول الشرعية الواقعية، لغياب القيّمين على الكتاب والسنة، وصدارة المتخلفين في الأداء والإفتاء الشرعيين..

وتعثرت الخطى، وتلكأت المسيرة، فجدّ الخلفاء الشعوبيون في طلب البديل بشكل جديد، إذ عمدوا إلى طائفة من فقهاء الموالي، فقلدوهم أمر العرب والمسلمين في القضاء والإفتاء، فنبغ على أيديهم سليمان بن یسار فأدار شؤون المدينة المنورة، وسليمان بن موسی الأشدق (ت ۱۱۹ھ) فتولى الإفتاء في الحجاز، ومكحول بني هذيل (ت ۱۳۰هـ) وإلى جنب هؤلاء من الموالي: عكرمة مولى ابن عباس، وسليمان بن طرخان واسماعيل بن خالد، ونافع مولى ابن عمر، وأبو حازم سلمة بن دینار الأعرج مولى بني مخزوم، حتى وصل الدور إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت (ت 150ھ) ففتح باب القياس.

وهكذا أصبحت دائرة الفقه الإسلامي منحصرة بعلماء الموالي، وفقهاء البلاط، فنشأ جيل من الناس لا يعرف لأهل البيت رأياً، ولا لأئمتهم فقهاً.

وهنا يبرز الدور الريادي للإمام الصادق “عليه السلام” وهو يبدد السحب الكثيفة التي أحاطت بهذا المناخ القائم، فيستقطب الحركة الفكرية والعلمية في الإسلام، ويلقي بظلالها على الأفق البعيد، فينشأ جيل جديد من الفقهاء السائرين بركاب النبي وأئمة أهل البيت “عليهم السلام”، ويبزغ فجر متلألأ بكوكبة صالحة من تلامذة الإمام تحمل العلم لواءً، وبذلك تتوطد مدرسة أهل البيت جذوراً، وتتجمل طلائعها نضالاً، وتتسع على يد الإمام الصادق ”عليه السلام” مفرداتها ومناهجها ومعارفها، حتى سميت باسمه الشريف، وعاد المذهب الإمامي منتسباً إليه، ومستنداً عليه، فقيل: (المذهب الجعفري).

وأظهر الإمام من العلم المكنون ما ذاع صيته في الآفاق، وانتشر ذكره في الأقاليم، فأعاد نضارة الإسلام غضاً مشرقاً حيوياً كما بدأ.

وكانت هذه المدرسة ذات طابع استقلالي، اتسمت بالواقعية في التبليغ، فلم تنطبع بطابع رسمي، بل حرصت على تقديم الشريعة في معارفها وعلومها نقية حرّة، خالصة من الشوائب، لم تتأثر باتجاه سلبي في القول والعمل، ولم تألف التردد والتخاذل في الإفتاء، وكان سبيلها الإيجابية بلغة قاطعة.

ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى برهان، أن الإمام الصادق “عليه السلام” قد استوعب أبواب الفقه كافة، ففي كل مسألة له رأي، وفي كل معضلة له إفتاء، وفي كل شاردة له قول، وهذا ما جعل جمهرة المتعلمين على يديه غير منقطعين عنه في رواية أو دراية، وهم كالحلقة المفرغة في الإسناد والحديث والطريق إليه، حتى قال الحسن بن علي الوشا:

إني أدركت في هذا المسجد – يعني مسجد الكوفة تسعمائة شيخ، كل يقول: حدّثني جعفر بن محمد “عليهما السلام” (1).

وهذا يعني أن تسعمائة أستاذ يشرف على تسعمائة حلقة دراسية، تستلهم لباب النقول عن الإمام الصادق “عليه السلام” في مختلف التخصصات.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي (دام علاه): «واحتفى العلماء والفقهاء ورواة الحديث بالإمام الصادق “عليه السلام”، وهم يدونون ما يفتي به، ويرويه عن آبائه العظام.

وكان الإمام “عليه السلام” يشجعهم على تدوين الحديث والفقه، وسائر العلوم الإسلامية، وأكبر الظن أن جملة من الأصول الأربعمائة التي أخذت عن الإمام الصادق” عليه السلام”، قد دوّنت حينما كان مقيماً في الكوفة، وقد أغنى الإمام “عليه السلام” الفقه الإسلامي بفتاواه وآرائه التي تحمل الإبداع والأصالة، والتي هي المرجع الأعلى لفقهاء الإمامية فيما يفتون به” (2).

وكان هؤلاء العلماء أماثل تلامذة الإمام الذين حملوا علم أهل البيت، ودونوا مآثرهم الفقهية، التي عدّ منها الحرّ العاملي ستة آلاف وستمائة كتاب (۳).

وقد علل الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرازق هذه الظاهرة بمبدأ عصمة الأئمة، فقال: «ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوین الفقه كان أسرع إلى الشيعة، لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم، أو ما يشبه العصمة، كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم» (4).

وقد استوعبنا الحديث عن مصادیق هذه الظاهرة الفذة في كتب الفقه بخاصة، وتكلمنا عن أهم الموسوعات الفقهية حتى العصر الحاضر (5) ولا حاجة بنا إلى إعادته، فما يقال هناك يقال هنا بالضبط، إلا أننا نشير هنا إلى أبرز السمات والخصائص التي يمتاز بها الفقه الإمامي وأهمها:

۱- استناده في الاستدلال إلى الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

۲- اتصاله المباشر بالرسول الأعظم وبأئمة أهل البيت “عليهم السلام”

3. استيعابه لمشكلات الحياة الفعلية والمستقبلية بفتحه باب الاجتهاد.

4. تمرسه بمختلف شؤون الفقه حتى الجزئيات، لكل واقعة حكم، ولكل حادثة قضاء.

5. سيرورته الريادية في مواكبة التطور الحضاري في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والصناعية.

6- دقته في اختيار الفتاوی طبق ضوابط علمية لا مكان معها للهوى والاستحسان.

۷- وضعه للأصول العامة في القواعد الفقهية ككليات يستند إليها في الجزئیات والفروع طياً للمسافات الواسعة في عملية الاستنباط.

۸- أصالته ومرونته في إطار موحّد لدى تخريج الفقهاء، وتجديد الأنظار في تراث موضوعي ضخم يستقبله الخلف عن السلف.

9- اتساعه لاستقبال مستحدثات المسائل في ضوء التقدم الطبي والتقني والفضائي، وتيسير الحكم الشرعي في مختلف المشاهد الجديدة.

۱۰- اعتماده الاستقلالية التامة في الإفتاء وطرح الآراء، فما اتفق ولا مرة واحدة أن أفتى بحكم شرعي في ضوء ضغط سياسي أو عنف سلطوي.

أصول الفقه

أما أصول الفقه، فهو العلم الذي يبحث فيه عن حجية الدليل الفقهي بالاستناد إلى حجية أدلته في استنباط الأحكام الفرعية.

وبهذا يتضح أن علم الأصول من قبيل المقدمة اللازمة لعلم الفقه.

ولمّا كان علم الفقه معنياً بإيراد الحكم الشرعي كان علم الأصول معنياً بإثبات دليل الحكم الشرعي، سواء أكان الحكم واقعياً أم ظاهرياً، وسواء أكان الدليل اجتهادياً أم فقهياً، وسواء أكان الدليل مستمداً من اللفظ أم مستخرجاً من التكليف الذاتي، فالأول ما تكشف عنه مباحث الألفاظ في أصل الخطاب في مدالیل ظواهرها المتعددة، والثاني ما تحققه الأصول العملية المناطة بالمكلّف کالاستصحاب، والاحتياط، والبراءة، والتخيير، وذلك عند فقدان الدليل الاجتهادي.

وعلى هذا فعلم الأصول بالإضافة إلى علم الفقه يكون من قبيل نسبة الحكم إلى موضوعه، أو المعلول إلى علته، وذلك أن علم الأصول یعنی بتشخیص جزئيات الأدلة التفصيلية، وتطبيق كبرياتها اللفظية أو العملية للوصول إلى الأحكام الشرعية النوعية.

وقد سبق لنا القول أن مصدر علم الأصول هو أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد ورد عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، القول: «إنما علينا أن نلقي الأصول، وعليكم أن تفرعوا (6).

وهي بادرة إلى قيام المصطلح بتسميته (الأصول) وهي دعوة أيضاً إلى أعمال الفكر وتجديد النظر، وهي رفض للجمود ومخلفاته.

يقول الإمام علي بن موسی الرضا (عليهما السلام): «علينا الأصول وعليكم الفروع» (7).

وما يدرينا، فلعلّ هذه الدعوة هي بداية البداية في الإذن بفتح باب الاجتهاد عندنا.

يقول الأستاذ محمد حسن آل یاسین (دام علاه): واستكمالا لمباحث الفقه وأحكامه أولى الإمام إهتماماً كبيراً بعلم أصول الفقه، تعليماً وشرحاً وتبياناً لقواعده الرئيسة واسسه الكبری، ودلالة للمتعلمين على ما يصح وما لا يصح الاعتماد عليه من ذلك.

وقد روى لنا الباحثون القدامى، وفي طليعتهم الحافظ ابو نعيم والشيخ الطبرسي مناقشات الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة النعمان بن ثابت فيما ذهب إليه من العمل بالقياس وعدّه من أصول الفقه وار كان استنباط الأحكام الشرعية، وتنبيه الإمام تلميذه على فساد ذلك وبطلانه (8).

وقد رأينا في عمل مستقل أن مصدر هذا العلم في التأسيس هو الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، وأن الإمام الصادق (عليه السلام) حذا حذو أبيه (عليه السلام) في إرساء دعائم هذا العلم، وتشييد صرحه الشامخ. (9)

وقد أوردنا في البحث أهم مصادره التأليفية، وكوكبة من جهابذة العلماء المشتغلين به، وتطور مباحثه وتوسع دلائله، وما يقال هناك يقال هنا، فهما يصدران عن رافد واحد، يستقي من شجرة مباركة زيتونة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.

الهوامش:

(1) المؤلف : الإمام محمد الباقر ، مجدد الحضارة الإسلامية ۲۳۲

(2) النجاشي : الرجال ۳۱.

(3) باقر شريف القرشي: حياة الإمام الصادق ۷/ ۹۸.

(4) ظ: الحرّ العاملي : وسائل الشيعة 3/ ۵۲۳.

(5) مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ۲۰۲.

(6) ظ : المؤلف: الإمام محمد الباقر مجدد الحضارة الإسلامية ۲۳۷-۲4۷.

(7) الحر العاملي : وسائل الشيعة 18/ 41.

(8) المصدر السابق.

(9) محمد حسن آل ياسين: الإمام جعفر الصادق ۱۲۱.

(10) ظ ، المؤلف: الإمام محمد الباقر مجدد الحضارة الإسلامية ۲6۳-۲۷۰.

المصدر: كتاب” الإمام جعفر الصادق (عج) زعيم مدرسة أهل البيت (ع) المؤلف: الدكتور محمد حسين علي الصغير /عدد الصفحات:537.