كيف نفهم أحاديث إباحة الخمس؟​

قد يقال: إنّ البيان الأخير الذي يمثّل موقف أهل البيت(عليهم السلام) بشأن الخمس هو ما تضمّنه التوقيع المروي عن الإمام المهدي(عجّل الله فرجه الشريف) والمعروف بتوقيع إسحاق بن يعقوب: «وأمّا الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حلّ.. »، وحيث أمرنا أهل البيت بالأخذ بالحديث المتأخر أو الأحدث عند الاختلاف؛ لذا يتعيّن علينا الحكم بإباحة الخمس في عصر الغيبة الكبرى!

في الواقع هذه القراءة ناقصة، بل في غاية الاجتزاء، فإنّ أحاديث الخمس الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يمكن تصنيفها من جهة بيان الحكم، وتاريخ صدورها إلى أربع فئات: ففئة منها صدرتْ من الأئمة السابقين مشتملةً على حكم الإباحة، من قبيل الحديث الصحيح المرويّ عن أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي قال فيه عن الخمس: «..إنّ شيعتنا من ذلك وأبنائهم في حلٍّ» (علل الشرائع،ج2،ص377)، وصنفٌ ثانٍ تضّمن التحليل أيضًا، بيد أنّه مرويٌّ عن الأئمة المتأخرين، كما في توقيع إسحاق بن يعقوب عن الإمام المهدي(عليه السلام): «وأمّا الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حلّ إلى وقت ظهور أمرنا؛ لتطيب ولادتهم ولا تخبث.. » (كمال الدين،ج1،ص512-وغيبة الطوسي، ص290). وفي مقابل أحاديث التحليل بصنفيها، هناك طائفة أخرى تفيد وجوب الخمس وعدم إباحته، وقد ثبتْ ذلك عن أمير المؤمنين(صلوات الله عليه)، وعن الأئمة بعده المتقدمين بيانًا وأخذًا، ، ففي صحيحة علي بن مهزيار(رضوان الله عليه)، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «فأمَّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلِّ عام، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى...﴾ [الأنفال: ٤١]... إلى أن قال: «فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصل إلى وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشِقَّة فليتعمد لإيصاله ولو بعد حين»(الوسائل،ج9،ص502), وغيرها من الروايات الصحيحة والصريحة في وجوب الخمس مطلقًا، مؤيَّدةً بالآية الكريمة. وروايات وجوب الخمس وأخذه لا تقتصر على الأئمة السابقين، وإنّما ثبت ذلك أيضًا عن الأئمة المتأخرين، بمن فيهم آخر خلفاء الله الإمام المهدي (صلوات الله عليه)؛ ففي الرواية يخاطب الإمام المهدي الحسين بن حمدان ناصر الدولة:  يا حسين ، كم ترزأ على الناحية ؟! ولِمَ تمنع أصحابي عن خمس مالك ؟!، ثمّ قال: إذا مضيت إلى الموضع الذي تريده تدخله عفواً وكسبتَ ما كسبت- تحمل خمسه إلى مستحقّه، قال : فقلتُ: السمع والطاعة، ثمّ ذكر في آخره أنّ العمري أتاه وأخذ خمس ماله بعدما أخبره بما كان.(وسائل الشيعة،ج9ص542). وإذن، فروايات الخمس مختلفة من جهة الإباحة والوجوب، والحكمان قد صدرا من الأئمة في الجملة، السابق  منهم واللاحق.

وفي ضوء هذه الأصناف الأربعة، نستنتج أمرين مهمّين: أولًا- إنّ أحاديث تحليل الخمس لا تنحصر بتوقيع إسحاق بن يعقوب؛ كيما يرفع التنافي ويصار إلى حلّ التعارض عبر الأخذ بالتوقيع بوصفه النصّ المتأخر المروي عن آخر الأئمة (عليهم السلام)؛ فإنّ في أحاديث التحليل ما هو متقدّم بكثير مثلما رأينا ذلك في حديث أمير المؤمنين(صلوات الله عليه). وبكلمة أدقّ: لا يمكننا في المقام إجراء قاعدة الأخذ بالحديث المتأخر، والعمل بالخبر الأحدث التي أمرنا أهل البيت(عليهم السلام) بالعمل بها عند اختلاف الأخبار؛ لسبب واضح، وهو أنّ ما نحن فيه، أعني أحاديث التحليل، لا يصدق عليها وصف المتأخر وحسب. وحيث إنّ توقيع ابن يعقوب ليس وحيدًا في بابه لذا لم ننظر في إسناد التوقيع على الرغم مما في ابن يعقوب من كلام، من حيث إنّه لم يرد ذكره، ولم يعرف اسمه إلا في هذا التوقيع!. وثانيًا- لا يمكننا قصر النظر على أحاديث التحليل وحدها؛ لوجود أحاديث صحيحة وصريحة في وجوب الخمس من قبيل صحيحة ابن مهزيار وغيرها من الروايات الصحيحة والصريحة في وجوب الخمس مطلقًا، وهكذا لا يصحّ الأخذ بأخبار الوجوب دون ملاحظة أخبار التحليل والإباحة وهي صحيحة وصريحة أيضًا. وخلاصة ما نريد قوله الآن هو أنّ النظر السليم في روايات الموضوع يقوم على دراسة مجموع رواياته، والنظر في الصنفين معًا: أحاديث الوجوب وأحاديث التحليل، دون الاقتصار على صنف وإهمال الصنف الآخر.

لا شك أنّ النظر للصنفيين معًا يعني أننا أمام طائفتين متعارضتين من الروايات، تدلّ إحداهما على وجوب الخمس، فيما الأخرى تنفي وجوبه وتدلّ على إباحته، وللخروج بنتيجة عمليّة ثمّة ثلاثة حلول متصوّرة، وهي حاصلة من الأخذ بإحدى الطائفتين والإعراض عن الأخرى، أو بالجمع بينهما إن أمكن الجمع وكان له ما يؤيده، والخيارات الثلاثة هي:

الخيار الأول-  أن نأخذ بروايات وجوب الخمس، ونترك روايات التحليل، والمبرّر لهذا الخيار هو مبدأ العَرض على الكتاب الكريم الذي يفيد الأخذ بما وافق القرآن ونبذ ما خالفه، وهو يسري على ما نحن فيه سواء قلنا: إنّ العرض يفيد تمييز الحجة عن اللاحجة، أو أنّه يفيد ترجيح حجّة على أخرى. ولا شكّ أنّ أحاديث الإباحة والتحليل هي الألصق بوصف المخالفة لكتاب الله تعالى من أخبار الوجوب الموافقة لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال : 41].

الخيار الثاني- عكس الأول، بأن نبني على أحاديث التحليل، وندع أحاديث الوجوب، فنقول بتحليل الخمس وسقوط وجوبه مطلقًا. وهذا القول يواجه مشكلتين، فعلاوة على مشكلة المخالفة لكتاب الله تعالى، فإنّ القول بإباحة الخمس يوقعنا بمشكلة أخرى وهي اتهام أصل التشريع و الأحكام الشرعية بالنقص والإجحاف؛ لأنّ وجه تشريع الخمس هو سدّ حاجات الفقراء من بني هاشم تعويضاً لهم عن الزكاة فإنّها خاصّة بالفقراء من غير بني هاشم، فإذا ما أُلغي الخمس مطلقاً استلزم ذلك خللاً تشريعياً، يتمثّل في بقاء فقراء بني هاشم من دون تشريع إلهيٍّ يضمن لهم حقوقهم!؛ ومن ثمّ فحتى الرأي الفقهي المخالف للمشهور، و الذي بنى على إباحة الخمس زمن الغيبة الكبرى؛ لم يذهب إلى الإباحة مطلقاً، وإنّما خصّ سهم الإمام(عليه السلام) بالإباحة لا غير، وبالرغم من أنّ هذا القول لا دليل عليه، لكنّه إنّما اختاره صاحبه؛ حذرًا من الوقوع بهذا الإشكال.!

الخيار الثالث- أن نجمع بين الطائفتين، وقد قيل: إنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، بأن نقول: إنّ روايات الوجوب ناظرة إلى قسمٍ من المال الذي يجب تخميسه، فيما الروايات تحليل الخمس ناظرةٌ إلى قسمٍ آخر من  المال، وهو المال الذي يحصل عليه المؤم(الشيعي) من مصدر لا يخمّس، سيّما في باب المناكح التي هي أكثر الموارد ابتلاءً وانتشارًا آنذاك حيث الجواري والإماء التي يشتريها الشيعة ثمّ يستولدون منها؛ وهذا هو سرّ اقتران روايات تحليل الخمس بالحديث عن طيب الولادة.

وهذا الأخير هو الذي مال إليه جماعة من الفقهاء، كان آخرهم السيد الخوئي(رضوان الله عليه)، فقد ذكر في بحث الخمس بأنّ المستفاد من النصوص بعد ضم البعض إلى البعض، والجمع بينهما إنّما هو التفصيل، بين الخمس الواجب على المكلف بنفسه ابتداء فلا تحليل، وبين ما انتقل إليه من الغير فلا خمس عليه وإنما هو في عاتق من انتقل عنه. وأفاد(رضوان الله عليه) بأنّ مما يدلّ على هذا الجمع بين الصنفين المتقدمتين، والشاهد عليه هو وجود صنّف ثالث من الأحاديث التي لا تشتمل على حكم مطلق في الجانبين، لا في جانب الإباحة، ولا في جانب الوجوب، وإنّما تفصّل في الحكم، ومن أوضح أمثلة هذا الصنف هي صحيحة أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رجل وأنا حاضر: حلّل لي الفروج، ففزع أبو عبد الله (عليه السلام) فقال له رجل: ليس يسألك ان يعترض الطريق، إنما يسألك خادما يشتريها أو امرأة يتزوجها أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا اعطيه، فقال: هذا لشيعتنا حلال الشاهد منهم والغائب، والميت منهم والحي وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال إلخ. وهي صريحة في المدّعى، أعني التحليل في المال المنتقل إليه بشراء ونحوه..(انظر- كتاب الخمس من المستند،ص352).

وإذن، فالأحاديث ليست صنفين، بل هي على ثلاثة أصناف: صنفٌ يبيح دون تفصيل، وآخر يوجب دون تفصيل، وثالث يفصّل، وهذا الثالث قد تضمّن دائرتي الأول والثاني، فما أباح كان ناظرًا إلى المال الذي ينتقل إلى المكلّف من غيره الذي لا يخمس؛ إنكارًا لوجوبه أو عصيانًا في امتثال أمره، وأنّ الأحاديث التي أوجبتْ الخمس قد لاحظتْ أرباح المكاسب والفوائد الحاصلة في مال المكلّف نفسه.