ما هي مقومات الأداء الوظيفي الناجح؟

أيّها الإخوة والأخوات ما زلنا في الموضوع السابق: ما هي مقوّمات الأداء الوظيفيّ الناجح، وسبق أن بيّنّا نحن نتعرّض الى المبادئ العامّة للنجاح في الوظائف، وهذا يشمل الجميع ابتداءً من المسؤول الأعلى الى الأدنى، من المدير الى ربّ العمل الى صاحب الحرفة والمهنة، والمعلّم والأستاذ والطبيب والمهندس، ما هي تلك المقوّمات أو المبادئ العامّة التي تكفل النجاح في أداء الوظيفة والمهمّة، بحيث نصل الى النجاح الذي نبتغيه، وطبعاً المبادئ الخاصّة هذه من شأن أهل الاختصاص، في مجال الطبّ أو الهندسة أو الفيزياء وفي الوظائف العامّة الإداريّة والماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة هناك مبادئ خاصّة هذه شأنها لأهل الاختصاص، نحن إنّما نتكلّم عن المبادئ العامّة التي نحتاج أن تترافق هذه المبادئ العامّة مع المبادئ الخاصّة لكي نصل الى النجاح الذي ننشده ونتمنّاه.

ونبيّن هنا تكملةً لما ذكرناه من الأمور المهمّة للنجاح الوظيفيّ، وهذا يشملنا جميعاً إخواني حتّى في مجال الحرف الحرّة وغيرها، هذه المقوّمات نحن بحاجة اليها وهي الشعور بأهمّية العمل وقدسيّته لدى الفرد والمجتمع، ودوره المهمّ والخطير في تحقيق الهدف من وجود الإنسان على الأرض، ودوره في التطوير وإعمار الأرض لابُدّ أن يكون لدينا شعور أنّ العمل شيءٌ مقدّس ومهمّ وخطير في حياتنا.

وسبق أن بيّنّا أنّ الله تعالى أوكل للإنسان أن يكون خليفته في الأرض، وأوكل اليه أداء الأمانة الإلهيّة التي تحمّلها الإنسان، وأوكل اليه عمارة الأرض وتطوير الإنسان وتطوير حياته، كذلك أوكل اليه مهمّة استخراج الكنوز العلميّة الدقيقة التي أودعها في الكون.

النقطة الأساسيّة متى ما شعرنا أنّ العمل ومقوّماته لها مدخليّةٌ كبيرة في تحقيق هذه الأهداف العظيمة، ما أعظم مهمّة خلافة الله في الأرض! ما أعظم أداء هذه الأمانة التي أوكلها الله تعالى الينا! متى ما شعرنا أنّ هذه المقوّمات واعتبار العمل مبدأٌ عظيم ومقدّس وله قيمة إنسانيّة كبرى، وله ارتباط في أن نؤدّي مهمّة استخلاف الله في الأرض، وأنّه لا يمكن أن تقوم لهذه المهمّة قائمة ما لم نلتزم بهذه المقوّمات والمبادئ التي بيّنها الإسلام وبيّنها أيضاً أصحاب الاختصاص، حينئذٍ حينما أشعر أنّ العمل مهمّة ومسؤوليّة إلهيّة في الأرض، حينها سيكون هذا العمل له مبدئيّة وله قيمة مقدّسة عندي، وحينئذٍ سوف أتحفّز وأندفع للعمل وتكون لي الجدّية والإخلاص والإتقان في العمل، وأؤدّي هذه المهمّة الموكلة اليّ على أحسن وجه، سواء كانت هذه المهمّة عباديّة أم كانت أخلاقيّة أم أداء وظيفيّاً عامّاً، فنحن بحاجة الى هذا الشعور وبهذا الشعور نبتعد عن حياة الكسل والتراخي والتعطيل التي تؤدّي الى تأخّر المجتمع، لذلك يجب أن يكون لدينا هذا الشعور لنحقّق هذا النجاح الذي نرجوه.

النقطة الثانية: -وهي مسألةٌ مهمّة- القصد والباعث للعمل، هذا الإنسان الذي تجده أكثر جدّيةً وهمّةً وأكثر اندفاعاً ونجاحاً في العمل إنّما تأتي من حقيقة الباعث والقصد والدافع للعمل، المؤمن لابُدّ أن يقوّي ويرسّخ في داخله أن يكون قصده ودافعه وباعثه هو رضا الله تعالى، حينئذٍ سيكون العمل مرتبطاً بهدفٍ عظيم ومقدّس، وحينئذٍ سيندفع الإنسان للعمل أكثر، ليس فقط في العبادة، فأنا حينما أكون أستاذاً في الجامعة أو أكون طبيباً أو مهندساً أو موظّفاً أو ربّ عملٍ مكلّفاً بمهنةٍ ومهمّةٍ وعملٍ، إذا شعرت أنّ أداء هذه المهمّة وهذا العمل مرتبط بتكليف إلهيّ ومرتبط بتحقيق رضا الله تعالى سوف أكون أكثر إتقاناً وإخلاصاً واندفاعاً، وهذا الشرط لابُدّ أن يتوفّر للإنسان المؤمن.

وهناك مقاصد وبواعث مهمّة ومتعدّدة، ويُمكن أن يكون القصد والباعث إنّما هو حبّ الوطن والتضحية من أجله وحبّ الشعب، هويّة الانتماء الى الوطن وأنّ هذا الوطن هويّته، فضله على الإنسان الذي بلغ ما بلغ من هذه المراتب بعد تخرّجه من الجامعة -بهذا العنوان- إنّما لوطنه وشعبه فضلٌ عليه، هذا الانتماء للوطن وحبّه قد يدفع الإنسان الى أن يكون جادّاً ومخلصاً وصاحب همّةٍ في العمل، وأحياناً حبّ الحرفة والمهنة وحبّ خدمة الناس هذه عوامل يُمكن أن تشكّل عاملاً قويّاً يدفع الإنسان للخدمة، على العكس من ذلك حينما يضعف هذا الباعث والدافع عند الإنسان يضعف اندفاعه وإخلاصه وإتقانه للعمل.

لذلك إخواني نرى أحياناً البعض يربط عمله بأهدافٍ دنيويّة، هذه المشكلة التي لدى الكثير، قد يربط اندفاعه وعمله بالمال لتحقيق المنصب أو للحصول على منصبٍ أو على جاهٍ أو على مدحٍ أو على ثناءٍ أو على ترفيعٍ أو على أمرٍ دنيويّ آخر، هذه الأمور زائلة وفانية تحصل أو قد لا تحصل، حينئذٍ سيرتبط اندفاعه وإخلاصه وإتقانه للعمل بهذه العوامل الدنيويّة الزائلة، فلا يكون مندفعاً ولا يكون صاحب همّةٍ ولا يكون ناجحاً في عمله.

لذلك أيّها الإخوة والأخوات من مقتضيات الإيمان أنه إذا كنتُ إنساناً مؤمناً وأكون طبيباً أو مهندساً أو مديراً أو أستاذاً أو ربّ عمل أو صاحب مهنة، حتّى لو كنت صاحبَ مهنةٍ فلّاحاً أو نجّاراً أو حدّاداً أو أيّ شيء كان، حينما أربط هذا العمل بالله تعالى وأريد منه رضا الله تعالى، هذا غير قضيّة الثواب العظيم الذي يحصل عليه الإنسان والبركة والدوام والتوفيق الدائم في هذه الأعمال، حينئذٍ سوف يكون لهذا العمل نجاح كبير لأنّه ارتبط بالله تعالى، وحينئذٍ سيكون هناك التسديد من الله تعالى والعون لهذا الإنسان، لذلك أيّها الإخوة والأخوات من مقتضى الإيمان الصحيح عند الإنسان المؤمن غير قضيّة الصلاة والصوم والحجّ وبقيّة العبادات، أنت في عملك أستاذ في الجامعة طبيب مهندس موظّف ربّ عمل لابُدّ أن تكون مندفعاً في عملك مخلصاً هميماً في عملك، تحاول أن تحقّق أكبر نسبةٍ من الإنجاز والنجاح، متى ما كان هذا العمل دافعه وقصده رضا الله تعالى حينئذٍ سوف يحقّق الإنسان أعلى مراتب النجاح.

وبالعكس الإنسان الذي يربط عمله بالمال بمنصبٍ بجاهٍ بمدحٍ بثناءٍ وغير ذلك من الأمور الدنيويّة لا يستطيع أن يتوفّق أو ينجح في عمله، لذلك مقتضى إيماننا أيّها الإخوة والأخوات وأيّ واحدٍ منّا وفي أيّ موقعٍ لابُدّ أن يحقّق هذا القصد والباعث، وهذا ليس بالأمر الصعب، متى ما فكّر الإنسان المؤمن أنّ نتاج ذلك سيكون في الآخرة ذلك النعيم الدائم والمقيم حينئذٍ سيندفع أكثر في هذا المجال.

النقطة الثالثة: -من الأمور المهمّة- ثقافة المجتمع في احترام وتقديس ومحبوبيّة العمل، لاحظوا إخواني ترون أن ّبعض المجتمعات ربّما لا يدينون بدينٍ، ولكنّهم ناجحون في عملهم، وبلغوا مرتبة عالية من التطوّر والتقدّم والازدهار والرّخاء، ما هي الأسباب في ذلك؟ هذه المجتمعات نجد أنّ العمل عندهم وإتقانه وإتمامه يعتبرونه مبدأً مقدّساً ومحترماً، وعلى الأقلّ هو مرتبطٌ بوطنهم وشعبهم، احترام العمل وقدسيّته ومحبوبيّته ناشئٌ من ثقافةٍ لدى هذا المجتمع، لذلك فإنّ المجتمع الذي تجد فيه المؤسّسات التعليميّة والتربويّة والأسريّة والمؤسّسات الوظيفيّة والإعلاميّة وغيرها تولي اهتماماً بأن تربّي أفراد المجتمع على حبّ العمل وتقديسه واحترامه، تجد ذلك المجتمع ناجحاً ويحقّق الازدهار والتطوّر، وكلّما قلّ اهتمام هذه المؤسّسات بتثقيف وتربية المجتمع على احترام العمل واعتباره قيمةً مقدّسة ومحترمة -ولابُدّ أن تكون كذلك- تخلّف المجتمع وتراجع وتأخّر ولم يحقّق الإنجازات والنجاحات في جميع المجالات، ولذلك نحن نأمل ابتداءً من الأسرة ونأمل من كلّ المؤسّسات المعنيّة لابُدّ أن تثقّف وتربّي الفرد -مهما كان هذا الفرد- وتربّي المجتمع على أنّ العمل مبدأٌ مقدّس ومحترم، حتى يكون العمل محترماً ومحبّباً لدى الفرد والكيان الاجتماعيّ، على العكس من ذلك لو أنّ الفرد لم يُربّ ولم يثقّفْ وهذه المؤسّسات لم تهتمّ ولم تولِ هذه المسألة اهتماماً ولم تثقّفْ المجتمع، حينئذٍ سيسود لدى المجتمع حبّ التعطيل والكسل والراحة والخمول والاتّكال على الغير، ويؤدّي ذلك الى تخلّف هذا المجتمع عن بقيّة المجتمعات الأخرى ولا يستطيع أن يحقّق الاستفادة من الطاقات والثروات والإمكانات، وهذه قضيّة مهمّة إخواني لذلك نأمل من جميع المؤسّسات ابتداءً من الأسرة والجامعة والمدرسة والمؤسّسات التربويّة والتعليميّة والتثقيفيّة والإعلاميّة أن تُعطي اهتماماً كافياً بتثقيف المجتمع على هذا المبدأ المهمّ والمقدّس، بحيث تكون هناك محبوبيّة واندفاع للعمل، تجد بعض الشعوب حركته واندفاعه للعمل بكلّ قوّة ويخلص في عمله ويتقن عمله، من تلقاء نفسه ومن ذاته يشعر بهذه المسؤوليّة العظيمة على عاتقه فلا يقصّر في عمله، هذا من أين جاء؟ من التثقيف والتربية وهذا بالدرجة الأساس، على العكس من ذلك إن لم نجد مثل هذا الأمر حينئذٍ سيكون هذا المجتمع محبّاً للتعطيل والراحة.

إضافةً الى قضيّةٍ مهمّة وهي النظم الإداريّة وأنظمة العمل والإجراءات التي تُتّخذ، بحيث أحياناً المجتمع يربّى بالتثقيف الطوعيّ والاختياريّ، وأحياناً يربّى المجتمع بالإجراءات التي تؤدّي الى تطبّع الفرد والمجتمع على حبّ العمل والاندفاع للعمل، أحياناً تجد مجتمعاً هو يحبّ حبّ التعطيل والكسل والراحة ويخلد لهذه الأمور، ومجتمعاً آخر مندفعاً في هذا العمل لحبّه للعمل وشعوره بأهمّيّته، لذلك إخواني ابتداءً من الأسرة لابُدّ أن نثقّف أطفالنا ونعلّمهم على حبّ العمل وأداء المهامّ الموكلة اليهم بأنفسهم، وكذلك في مؤسّساتنا الأخرى.

من المقوّمات الأخرى المهمّة أيضاً هو حفظُ الأمانة الماليّة والوظيفيّة، ونلتفت الى هذه القضيّة المهمّة، فإنّ العمل وأداء الوظيفة أمانةٌ إلهيّة أوّلاً ووطنيّة ثانياً وأخلاقيّة ثالثاً في عنق كلّ عاملٍ مهما كان اختصاصُ عمله كطبيبٍ أو أستاذٍ أو مهندسٍ أو موظّفٍ أو عاملٍ، وحتى في مجالات السياسة والإدارة والمال والاقتصاد وغيرها لابُدّ من رعاية حفظ هذه الأمانة وصيانتها من الفساد والانحراف والإهمال والتقصير، فالتطبيب للمريض والتعليم للطلّاب وتقديم الخدمات للمواطنين وإدارة شؤون الرعيّة من المسؤول كلّها أماناتٌ في رقاب من يتصدّى لهذه المسؤوليّات، وعليهم جميعاً حفظُها بكلّ مقوّماتها من القرار الصائب وحسن الإدارة ونزاهة اليد وصرف المال وحفظه من الفساد والهدر والتلف، وتوظيف القدرات بتمامها في مواردها المقرّرة ونحو ذلك من الأمور التي تحفظ هذه الأمانة الوظيفيّة والماليّة.

ومن المقوّمات المهمّة أيضاً أخلاقيّاتُ المهنة، وهذه غير الأخلاقيّات العامّة، فكلّ عملٍ ومهنة لها أخلاقيّات لابُدّ من معرفتها ومراعاة تطبيقها، لكي تُستكمل الخدمةُ الإنسانيّة المرجوّة منها وتحقّق الهدف، فللتطبيب والتمريض أخلاقيّاته الإنسانيّة، وللتعليم مبادئُه وقيمُه التعليميّة لطالب العلم، وللموظّف في تقديم ما هو مطلوبٌ من خدمةٍ لعموم المواطنين سلوكيّاتٌ ومبادئ لابُدّ من مراعاتها، وهكذا للسياسيّ أخلاقيّاتٌ ومبادئ تُضبط من خلالها كيفيّة إدارة الأمور العامّة للناس بما يُصلحهم ويُحسّن أمورهم.

النص الكامل للخطبة الثانية من صلاة الجمعة المباركة ليوم (15ربيع الأوّل 1440هـ) الموافق لـ(23تشرين الثاني 2018م) التي أُقيمت في الصحن الحسينيّ المطهّر وكانت بإمامة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي (دام عزّه).