واقعة كربلاء وإشكاليّة إلقاء النفس في التهلكة!

قال الفقيه العظيم، والمحدّث الجليل: الشيخ يوسف البحراني(ت1186هـ)، صاحب الحدائق الناضرة (رحمة الله تعالى عليه) ما نصّه:

قد كثُر السؤال من جملة من الأخلّاء الأعلام، والأجلّاء الكرام، عن الوجه في رضا الأئمَّة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وإعطائهم بأيديهم لما أوقعه بهم مخالفوهم من القتل بالسيف أو السم ، حيث إنّهم عالمون بذلك؛ لما استفاضت به الأخبار من أنّ الإمام (عليه ‌السلام)  يعلم انقضاء أجله ، وأنّه هل يموت حتف أنفه أو بالقتل أو بالسم؟ وحينئذ ، فقبوله ذلك وعدم تحرزه من الامتناع ، يستلزم الإلقاء باليد إلى التهلكة ، مع أنّ الإلقاء باليد إلى التهلكة محرّم نصاً؛ قرآنا وسنّة!!

وقد أكثر المسؤولون من الأجوبة في هذا الباب ، بل ربما أطنبوا فيه أي إطناب ، بوجوه لا يخلو أكثرها من الإيراد، ولا تنطبق على المقصود والمراد.

وحيث إنّ بعض الإخوان العظام، والخلان الكرام، سألني عن ذلك في هذه الأيّام، رأيتُ أن أكتب في المقام ما استفدته من أخبارهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فأقول وبه سبحانه الثقة لإدراك المأمول، وبلوغ كلّ مسؤول:

يجب أن يعلم :

أولا : أن التحليل والتحريم أحكام توقيفية من الشارع عزّ شأنه ، فما وافق أمره ورضاه فهو حلال، وما خالفهما فهو حرام، وليس للعقل ـ فضلا عن الوهم ـ مسرح في ذلك المقام.

وثانيا : أن مجرد الإلقاء باليد إلى التهلكة على إطلاقه غير محرم وإن أشعر ظاهر الآية بذلك ، إلّا إنه يجب تقييده وتخصيصه بما قام الدليل على جوازه ، وذلك فإن الجهاد متضمّن للإلقاء باليد إلى التهلكة مع أنه واجب نصاً وإجماعاً، وكذلك الدفاع عن النفس والأهل والمال. ومثله أيضا وجوب الإعطاء باليد إلى القصاص وإقامة الحد عليه متى استوجبه.

وثالثا : أنّهم ـ صلوات الله عليهم ـ في جميع أحوالهم وما يتعلق بمبدئهم وحالهم يجرون على ما اختارته لهم الأقدار السبحانية ورضيته لهم الاقضية الربانية ، فكل ما علموا أنه مختار لهم تعالى بالنسبة إليهم وإن اشتمل على غاية الضرر والبؤس ترشفوه ولو ببذل المهج والنفوس.

إذا تقرّرت هذه المقدمات الثلاث، فنقول : إنّ رضاهم (صلوات الله عليهم) بما ينزل بهم من القتل بالسيف والسم، وكذا ما يقع بهم من الهوان على أيدي أعدائهم والظلم مع كونهم عالمين به وقادرين على دفعه ، إنما هو لما علموه من كونه مرضيا له سبحانه وتعالى ، ومختارا له بالنسبة إليهم ، وموجبا للقرب من حضرة قدسه والجلوس على بساط انسه.

وحينئذ ، فلا يكون من قبيل الإلقاء باليد الّذي حرمته الآية ؛ إذ هو ما اقترن بالنهي من الشارع نهي تحريم ، وهذا مما علم رضاه به واختياره له فهو على النقيض من ذلك ، ألا ترى أنه ربما نزل بهم شي‌ء من تلك المحذورات قبل الوقت المعدود والأجل المحدود ، فلا يصل إليهم منه شي‌ء من الضرر ، ولا يتعقبه المحذور والخطر؟ فربما امتنعوا منه ظاهرا ، وربما احتجبوا منه باطنا ، وربما دعوا الله سبحانه في رفعه فيرفعه عنهم؛ وذلك لما علموا أنه غير مراد له سبحانه في حقهم ولا مقدر لهم.

وبالجملة، فإنهم (صلوات الله عليهم) يدورون مدار ما علموه من الأقضية والأقدار ، وما اختاره لهم القادر المختار.(الدّرر النجفيّة من الملتقطات اليُوسفيّة،ج1،ص409،ت: دار المصطفى لإحياء التراث).