مجالس الحسين (ع) بين الأمس واليوم

وأُريد بالأمس ميعة الصِّبا وشرخ الشباب، يوم اشتدَّ لي عودٌ واستطال عمود، وطرَّ لي شاربٌ، ونبتَتْ لي لحية.

وأريد باليوم يومَ سقط النظامُ المقبورُ على وجهِهِ مهزوماً يجرر أذيال الخيبة والخُسران، ينفخ في أصحابه روح العزيمة، وينفخون فيه هواء العظمة، حيث لا روح ولا هواء، فقاعةٌ انفجرت، وبالونٌ تلاشى.

كان جدَّي لأبي يُقيم مجلساً في بيته يقرأ فيه المصيبة، ولم يكن خطيباً بالمعنى المعروف، بل كان ناعياً فقط، وكان مجلساً متواضعاً يقتصر فيه الحضورُ على الثلَّة من أخوته وأولاد أخوته وأولاده، وكان ليلاً بعد الصَّلاة، في بداية ثمانينيَّات القَرن المُنصرم.

وكان أخوه – عمُّ أبي – يُقيم مجلساً هو الآخر في بيته، بل قُل على ربوةٍ عاليَّةٍ يقع عليها مضيفه المبنيُّ من قصب في قريةٍ صغيرةٍ اسمها "أم سباع" ، ولم يكن يُقيم مجلسَه في المضيف خشية أن يدخل عليه الرفاق البعثيون المُجرمون فيفاجئونه وهو يقرأ؛ بل على الربوة المُطلَّة على الشَّارع الرئيس، وكثيراً ما كان يسكتُّ عند النَّعيّ حين يمرُّ شخصٌ غريبٌ، أو يُخشى منه، وذات مرَّة فاجأهم رفيقٌ وسأل الخطيب عن الصوت الذي يسمع، والتجمّع الذي يرى فقال له: إنه كان يُغنّي! 

وصدَّق الحاضرون على قوله ودفعوا شرَّ ذلك المجرم.

كان ذلك في أواخر الثمانينيات.

ثم انتهى خبر ذلك المجلس بعد الانتفاضة الشعبانيَّة حيث هربوا من النظام بعد أن شاركوا في الانتفاضة، وبعد ثلاث عشرة سنة بعد سقوط النظام ذهبت معهم إلى تلك الدّيار، فإذا قصب المضيف محروقٌ بيد الرِّفاق، وكثيرٌ من النَّخل الذي زرعه جدُّ أبي كان متهاوياً ساقطاً، والبيت مهجور وأشجار البستان الذي خلفه جرداء صفراء، كأنَّ "أم سباع" شاخت على حين غرَّة كما تشيخ النّساء المؤمنات الشَّابَّات في عهد النظام البائد فجأةً بعد إعدام أزواجهنَّ، وتيبس وجوههن وتذبل أرواحهنَّ.

وكان في حيِّينا بالكوفة بعض الجيران يُقيم تعزيةً في السرِّ يقرأ فيها الشيخ المرحوم نعمة السَّاعدي، وودتُ لو أنَّ جاري هذا دعاني إلى التعزية، ولكنَّه مجلسٌ خاصٌّ جدَّاً لا يحضره إلَّا من يثقون به ويأمنونه على سرِّ هذا المجلس فلا يذيع خبره إلى أحد، ثم لمَّا شدَّد النظام قبضته القاسيَّة على إقامة مجالس العزاء صار يُقام بين حينٍ وآخر بحسب المكنة بعد أن كان يُقام بشكلٍ دوريٍّ كلَّ أسبوع.

وكان الشيخ السَّاعدي خطيباً معروفاً جدَّاً في تلك الأيام، وله كتابٌ في أمير المؤمنين – عليه السَّلام – نسيتُ عنوانه وكان في مكتبة الوالد – رحمه الله – وحاولت قراءته مرَّتين فلم استسغ أسلوبه، وكنتُ ولم أزل لا أقرأ الكتاب الذي لا تترنَّم شفاه فقراته بتراتيل الكلمة المطربة، ولا تعزف مزاميرُ سطورِهِ ألحان الجملة الراقصة، كان ذلك انطباع الصبا عن الكتاب، وليس انطباع الصبا حجةً على ذي رأي، والقراء أذواق.

ثم دخل صدامٌ الكويتَ، وكان ذلك في العاشر من محرم، الثاني من آب، فشغل النَّاس عن الحدث التليد بالحدث الجديد، وكان لدخول العراق الكويت صعقةٌ كصعقة الصور، فلقد كان أمراً مفاجئاً، وبعد هزيمة البعث القاسيَّة المذلَّة، وسحق الانتفاضة الشعبانيَّة المظفَّرة من قبل دبابات الحرس الجمهوري وصواريخ سكود، وإرهابيي سنجار من الأيزيديين الذين دخلوا النجف الأشرف فعاثوا فيها الفساد، وقتلوا النَّاس واعتقلوا الشباب، ثمَّ خفَّف النظام من قبضة يده، وأرخى كفَّ رقابته على المجالس فصار النَّاس يقرأون أكثر من ذي قبل.

وكان أول مجلسٍ حضرته لخطيبٍ كنيته أبو جلال – رحمه الله – ذكر في خطابته قصة صعود البرامكة ثم انقلاب الزمان بهم وقتلهم، ولمَّح في ذلك إلى صعود البعث ثم اندثاره ونهايته، وفي اليوم التالي اختفى الخطيب ولم يظهر له أثرٌ إلى الآن.

وقرأ أيضاً سيدٌ ذو كشيدة، اسمه السيد حسين الشامي كبيرٌ في العمر، وكان يعيد فقراتٍ من محاضرته كلَّ يومٍ حتى ملَّها النَّاس، وكانت لديه طريقةٌ في إنشاد الشعر ينبغي أن تعدَّ من أعاجيب الزَّمان، ما رأت عيني من بعد، ولا سمعت أذني من قبل من يُنشد مثل إنشاده، يأسر بجمال طوره الأسماع، كان فيها شجى، ولكن ليس شجى قرَّاء القرآن العراقيين وأطوار المقام الكئيبة، بل شجىً خُلق من عجين زفرات أسارى الطفِّ، وسُوِّيَ من أنين مثكولي كربلاء، ليدخل القلوب ويخلد في الذاكرة.

وكان الشيخ جعفر الإبراهيمي يلبس "غترةً" بيضاء، ويقرأ، والسيد جعفر المروّج شابَّا في العشرين يقرأ أيضاً.

وكنَّا – أنا والرّفقة من الجيران – نحضر في شهر رمضان خمساً أو ستَّاً  من المجالس، ندور مع الخطيب حيثما دار، نتنقَّل معه حيثما يصير.

وكان الماء يُقدَّم في كؤوس مترعةٍ تفيض به فما أن تأخذه من على الصينيَّة حتى يقطر على ثوبك، وبعض الأقداح تكون طويلة فكأن الماء الذي سيُصبُّ فيها أُعِدَّ لغُسل الجنابة لا للشرب، ويكون شرب الماء منها همَّاً تريد أن ينفد ولا نفاد.

ولستُ أذكرُ أنَّهم كانوا يوزّعون يومئذٍ ما يسمونه ب "الفركة" أعني البركة، ربَّما لظروف الحصار، حقاً لستُ أدري.

ومن أحسن المجالس التي حضرتُها في حياتي مجلسان: الأول للمرحوم الشيخ صالح الدجيلي في جامع كاشف الغطاء، والثاني: للشيخ شاكر القرشيّ في بيت بعض الأقرباء.

وبعض المجالس لها روحيَّةٌ خاصة، تلمس ذلك في غزارة الدمعة، والتأثير في النَّفس، وكان بعض الجيران يُقيم مجلساً أسبوعيَّاً كلَّ ليلة اثنين، ويقرأ عنده خطيب اسمه الشيخ رافد، وكان يعمل في برَّاني السيد كاظم الحائريّ في النَّجف الأشرف، له صوتٌ جميلٌ جداً، وطريقةٌ في النَّعي تستدرُ بيد حزنها لبن الدموع من ضرع العيون، ويبقى مجلسُه مؤثراً في النَّفس لأيَّام.

ونجم خطيبٌ كان مغروراً جدَّاً ومتكبّراً، وهو في بداية شبابه، وكان يشترط أجراً عالياً، وابتلاه الله تعالى بالنّسيان فلم يعد يحفظ ما يحضّره للمجلس، ونسيه النَّاس وخمل ذكره رأساً بعد أن اشتعل بسرعة.

وعلى عكسه كان في حي القدس خلف الكراج الجنوبي خطيبٌ اسمه الشيخ عادل الجاسميّ، كانت قراءته متواضعةً جداً، ولكنَّه لا يشترط مالاً ولا أجرة، وكثيراً ما قرأ من غير مقابل إلَّا لخدمة الإمام الحسين – عليه السَّلام – وكان أهل هذا الحيِّ من الفقراء فيعطونه العشرة الاف والخمسة الاف (يساوي تقريباً 3-7$)، وهو مبلغٌ جدُّ زهيد، وجاءه بعض طلبته وعرض عليه أن يقرأ في بغداد لعشرة أيَّام قبالة أربعة ملايين، فقال له الشيخ: إذا قرأتُ أنا في بغداد، والشيخ الفلاني في الكويت، والثالث في البصرة فمن يقرأ للفقراء في حي القدس والأحياء الفقيرة الأخرى؟

قسماً بالله بدأت خطابته تتحسَّن يوماً بعد يوم من الناحية العلميَّة، وصرت تشعر بروحيَّةٍ في مجالسه الجليلة، فمن يصدق في خدمة مولاه يسدده المولى ويوفقْه.

أما اليوم، فيعجبني من المجالس التي حضرتها (وأحضر عادةً المجالس التي تُقام في الحيِّ ولا أذهب لخارجه إلَّا فيما ندر) سماحة السيد حسين البحر، تشعر أنَّه يحضر لخطابته، ويُراجع، ويدقق، تعرف ذلك من النكات العلميَّة، واللفتات الأدبيَّة التي فيها، وغوره في ثنايا التأريخ وذكره لبعض العقائد التي تهمُّ النَّاس.

وبعضهم خاض في أمورٍ عقائديَّةٍ خلافيَّةٍ لم يكن مؤهلاً للخوض فيها، ولم يكن المستمعون مؤهلين لركوب سفينة بحثه في هذا البحر.

وبعض الشبهات غير المطروقة يحسن، بل قد يجب السكوت عنها، فما للعاميِّ والخوض فيها؟

ورأيتُ خطيباً ينسب قولاً لأمير المؤمنين – عليه السلام – وهو ليس له، هبه قليل الاطلاع على كلامه، فهلَّا أوتي حظاً من ذوقٍ يميز به بين بليغ الكلام وعيِّه؟

تلك آفة الرجوع إلى الكوكل لا إلى الكتب.

وفَّق الله الجميعُ للخدمة الحسينيَّة.