إن الطموح السياسي والطمع بالسلطان عند فقير يرعى الأغنام في مكة الموغلة في الجاهلية بما فيها من خضوع للدولتين العظميين الروم وفارس، لن يتجاوز حدود الوصول إلى ما وصل اليه ملوك الحيرة أو الغساسنة.
ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن يفكر ذلك الفقير بانتزاع ملك كسرى أو قيصر. فالتراث الأدبي الذي وصلنا عن العصر الجاهلي والتاريخ الاجتماعي لتلك الفترة يضعنا أمام صورة واضحة لوعي أبناء ذلك العصر في جزيرة العرب..
يقول الشاعر الجاهلي:
ولقد شربت من المدامة بالصــغير وبالكبــــير
فإذا انتشــيت فإنــــــني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنــــــنيرب الشويهة والبـــعير
إنه سيحاول أن يتسيّد مكة من خلال امتلاك مفاتيح الكعبة وخدمة الحاج والغلبة في إخضاع بيوتاتها كما فعل جده قصي بن كلاب. وإذا جمح به طموحه إلى الرغبة بتوحيد العرب تحت سلطانه، فلابد له ـ بفعل وعيه كجاهلي في الجزيرة العربية والظروف المحيطة به ـ من أن يتجه إلى القبيلة، المكوّن الأساس لذلك المجتمع. فبعد أن يتسيّد مكة كخطوة أولى، يعمد إلى بث التآلف والتخالف بين القبائل حسبما تمده به قدرته حتى تتوحد تحت سلطانه كما فعل جنكيز خان ـ مثلا ـ في توحيد المغول. ولو فرضنا أن طموحه قد تجاوز الممكن فوصل به إلى تصميم على منازعة الروم أو الفرس فلن يكون له ـ حينها ـ من وسيلة سوى القبيلة وما فعله جنكيز خان حين غزا الأرض. وآخر ما يمكن أن نعقله لطامح كهذا هو أن يتكلف مؤونة الخوض في قضايا العقائد والسلوك التي نلمس أنّى سرنا في ثنايا سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من الجهد والمثابرة في الدعوة لها والعمل على غرسها في النفوس حتى جعلها (صلى الله عليه وآله) القضية الأم في دعوته حيث قال (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
إن النظرة التحليلية لمجريات السيرة النبوية في الفترة المكية تجعلنا نتبيّن مايلي:
إننا نلاحظ في نبوة مزيفة كالتي ادعاها مسيلمة الكذاب كيف سارع إلى تملق أتباعه وإرضائهم كي يتبعوه، بأن وضع عنهم الزكاة وعدداً من الفرائض وأباح لهم الخمر والنساء.
يتبع...
[1] البداية والنهاية - ج 2 ص 355
[2] المسد 1
[3] تفسير مجمع البيان 7: 322
[4] كان قد حرم على نفسه الخمر في الجاهلية ويأنف من عبادة الاصنام وفيه قال أمير المؤمنين عليه السلام ()كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يُعظمه في عيني صِغرُ الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتاً، فإنّ قال بدّ القائلين ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاءَ الجِدّ فهو ليثُ غابٍ وصِلُّ وادٍ، لا يدلي بحجّة حتّى يأتي قاضياً، وكان لا يلومُ أحداً على ما يجد العذر في مثله حتّى يسمع اعتذارَه، وكان لا يشكو وجعاً إلاّ عند برئه، وكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، وكان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الأخلاق فالزموها وتنافسُوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خيرٌ من ترك الكثير ((، الشبكة العنكبوتية، مؤسسة الإمام علي عليه السلام، لندن
[5] العلق 1ـ 5