العلمانية والدين.. قواسم مشتركة

المقدس أو القداسة واحدة من أهم مفردات الجدل الدائر بين العلمانية والدين أو تكاد هذه المفردة أن تكون هي الحجر الأساس الذي يقوم عليه كلا الاتجاهين الفكريين، فالتكوين الديني مبني على وجود نص علوي مطلق يرقى في ثرائه الفكري على الحدود البشرية, وفي الفارق بين مطلقية النص ونسبية الإنسان تكمن حكمة التشريع وضرورة الانقياد، فيما تنطلق العلمانية معلنة الثورة على كل ما يمكن أن يكون حدودا يعيق التفكير البشري لتجعل بعد ذلك من الواقع حَكَما أوحَدا في صلاحية الحكم أو القانون، وتجعل من إصلاح الواقع الغاية الأهم للمشروع الفكري بشكل عام.

مقدسات جديدة!

لو تأملنا تاريخ الصراع لوجدنا أن العلمانية إنما ثارت على مقدسات الدين ونصوصه الثابتة وحسب, ناسية أنها قد شكلت لها من شخوصها وخطوطها الفكرية العامة مقدسات جديدة راحت تذود عن ساحتها، فالنقطة الأساس التي اعتبرتها العلمانية قصورا في الدين هي تعامُله مع الواقع على ما يحدده له المقدس من مسار وادّعت أنها سدت ذلك القصور, في حين أنها لم تفعل شيئا والواقع المسكين ظل كما هو.

على سبيل المثال فقد قدست العلمانية ـ خصوصا في الغرب ـ الحرية الشخصية في الفكر والسلوك وحرمت الثوابت المقسَرة كالقيم الأخلاقية وغيرها وحين اجتاحت الواقع الغربي تلك الأرقام المخيفة لضحايا الأمراض الجنسية وعلى رأسها الايدز، لم تمس مقدسَها وتعاملت بما يفرضه عليها مع الواقع, وراحت تبحث في أروقة الطب عن العلاج مستنزفة المال والوقت ورصيدُ الضحايا يّطّرد أثناء ذلك إلى مالا يعلمه إلا الله، وهي تعلم أن الحل الناجع يكمن في تقنين العلاقة بين الرجل والمرأة.

إن الحرية الشخصية تحولت الى طوطم مقدس فلا أجد في هذا المثال اختلافا يذكر عن مشهد يحدث الآن في مجتمع كالهند، حيث يفتك الطاعون بالملايين لأن في مقدسهم عدم التعرض للقوارض.  

ومن جهة أخرى فقد ذكر الفيلسوف المدرسي المعروف الأب أوغسطين في منهجه في الإيمان أن على الإنسان أن يعقل ليؤمن ثم يؤمن ليعقل وليس في هذا المنهج ما هو مقتصر على الفكر الديني دون الوضعي بشيء .. فالتعقل في الايمان كما يرى أوغسطين يتمثل بإتّباع الأنبياء والصديقين بعد البرهنة على مصداقيتهم وهذا ما هو كائن في أي اتجاه وضعي أيضا فالمجتمعات التي تدين بالنظريات الوضعية إنما تسلم شعوبها بمقررات تلك النظريات من خلال الايمان بأهلية بُناتها من الفلاسفة والمفكرين من دون استيعاب تلك الشعوب لمفردات النظرية , وربما قيل أنها العبقرية التي تختلف عن الغيب, ولكن المناط يبقى هو الواقع الذي سيحدد لي عبقرية ماركس في حتمية  تولد المجتمع الاشتراكي من الرأسمالي،  ويحدد مصداقية محمد (ص) الذي يقول قرآنه قبل أربعة عشر قرنا: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} المؤمنون 14 .  

وربما عابت العلمانية على الدين تجّارَه واستغلالهم الغيب كمناخ خصب للأباطيل وما لا  يخضع للعلم وهي في هذا تشترك مع الدين أيضا, فالعلمانية حين قامت دولتها بفعل النهضة الأوربية كانت الرأسمالية واحدة من نتائجها, باقتصادها الحر أو كما يعبر عنه بالليبرالية الاقتصادية التي انطلقت في حريتها المفرطة في سبيل الهدف الأوحد المتمثل بالربح المادي إلى إطلاق العنان للوسائل الإعلانية والدعاية بعد أن أولتهما أهمية كبرى ويطالعنا التاريخ بما جناه رجال الاقتصاد  في سبيل الدعاية والترويج لمنتجاتهم  على الثوابت الاجتماعية وحقائق العلم . إذن فتجار الدين وتجار الاقتصاد على السواء في العبث بمقررات العلم ودلائل الخير .

وبالنسبة للسلطة ومستلزماتها فليس في تاريخ الدين ما ليس في حاضر العلمانية, فعلى مثال الايدز نفسه لماذا لا تقر السلطات الغربية بضرورة التقنين في علاقة الرجل بالمرأة عملا بالقاعدة التي لا يشذ واحد من سكان هذا الكوكب عن الإيمان بها في أن الوقاية خير من العلاج، ولماذا لا تعمل على نشر ثقافة التقنين للتخلص من الوباء كما تنشر الثقافة الصحية والمعقمات للتخلص من الفايروسات المرضية.

ربما لا نجد لذلك سببا إلا لان في ذلك إقرارا بتفوق الإسلام  بتشريعه المعتمد قبل أربعة عشر قرنا على حل ما أخفقت به الآلة العلمانية المتطورة، ولاسيما أن العلمانية تعتمد في حملتها الدعائية لتصويب آرائها إلى حد كبير على القدرة الذاتية في المعاصرة والحداثة والعجز الذاتي للتراث, إضافة إلى أن الاختلاط المفتوح بين الرجل والمرأة الذي ربما كان من ابرز مظاهر الحرية الشخصية هو الأقدر على تعزيز الروح المادية وعليه فإن نشر ثقافة التقنين  بما يستتبعها من شيوع المناخ الروحي  يؤدي إلى صورة إن تحققت فهو الإسلام الذي تقضي الاستراتيجية الأمريكية في وقتنا الراهن أن تعمم فكرة افتقاده القدرة على مواكبة العصرنة والحداثة وتجعل من تلك الفكرة الحقيقة المطلقة فيجب عزله كحضارة إنسانية ليتوحد العالم تحت لواء الليبرالية والحداثة الأمريكية . 

إن سلطات العلمانية في الغرب اليوم تمارس نفس الدور الذي مارسته الكنيسة في طمس الحراك العلمي بغية الحفاظ على سلطتها ومصالحها الاستراتيجية.