لماذا نزور مراقد الأئمة (عليهم السلام)؟

أعوذُ باللّه السميع العليم من الشّيطان اللّعين الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرحيم، الحمدُ لله الذي لا ينقطعُ منُّه، ولا يُخلَفُ وعدُه، ولا يُغلَبُ جندُه، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) عبدُه ورسولُه، ذو الحسب الكريم، والخُلق العظيم، والقلب الرحيم، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله أئمّة الحقّ وأدلّة الصدق، الذين ارتضاهم اللهُ تعالى وانتجبهم، وأوجب على البريّة حبّهم واتّباعهم.. أوصيكم عبادَ الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله تعالى، الذي منّ عليكم بمعرفته، ودلّكم على موجبات رحمته ودواعي نقمته، واعلموا أنّكم لن تُدركوا مرضاة الله تعالى إلّا بطاعته، ولن تستوجبوا غضبه إلّا بمعصيته ومخالفته، وقد جعل لكم الوسيلةَ إليه وهم أهلُ بيت نبيّه الأطهار (عليهم السلام)، فاتّبعوا منهجهم واقتفوا آثارهم، وتخلّقوا بأخلاقهم وآدابهم وتفقّهوا بمنهجهم، تهتدوا سواءَ السبيل وصراطَ الله القويم.

أيّها الإخوة والأخوات عليكم منّي سلامُ الله جميعاً ورحمةُ الله وبركاته.. تمرّ علينا في هذا اليوم الثالث من شهر رجب ذكرى استشهاد الإمام أبي الحسن الثالث علي الهادي(عليه السلام)، وبهذه المناسبة لابُدّ أن نستلهم من إحياء ذكرهم الدروسَ والعِبَر، وندقّق في تلك الأساليب التربويّة والأخلاقيّة والعقائديّة التي ربّوا بها المسلمين وأتباعَهم، وهنا إذا ما لاحظنا ما وصل إلينا من الآثار عن الإمام علي الهادي(عليه السلام) وبقيّة الأئمّة (عليهم السلام)، نجد أنّ هناك تركيزاً في جانبين، الجانب الأوّل هو العلميّ والعقائديّ، والجانب الثاني هو إصلاحُ النفوس وتهذيبها وتربيتها، لذلك ورد في الحديث عن الإمام الرّضا(عليه السلام) قولُه: (رحم اللهُ من أحيى أمرَنا) فقال أحد أصحابه: وكيف نُحيي أمركم؟ قال (عليه السلام): (تتعلّمون أحاديثَنا وتعلّمونها الناسَ، فإنّهم لو عَلِموا محاسنَ كلامِنا لاتّبعونا)، ولذلك حرص الأئمّة(عليهم السلام) على تربية أتباعهم على التحصين العلميّ والعقائديّ، وذلك بأخذ هذه العلوم والمعارف من أهل العلم الذين يُطمأنّ الى مقامِهم الدينيّ والعلميّ، ويُطمأنّ الى تقواهم وورعِهم وأخلاقِهم وزهدِهم في الدنيا، من هؤلاء تؤخذ هذه العلومُ والمعارف مع الاهتمام أيضاً بإصلاح النفوس.

ونأخذ هنا بعضاً ممّا ورد عن الإمام الهادي (عليه السلام) ونأخذ حديثاً واحداً يُعدّ من الأساليب التي ينبغي اعتمادُها في تشخيص العيوب والخلل في شخصيّة الإنسان، ففي كثيرٍ من الأحيان الإنسان وإنْ كان هو على بصيرةٍ من نفسه، ولكن في كثيرٍ من الأحيان بسبب بعض الظروف والأحوال يغفل ولا يشخّص الخللَ والعيوبَ في شخصيّته، أخوك المؤمن يرى بعض هذه العيوب والنواقص والخلل في شخصيّتك، فيُهدي إليك بيان هذه العيوب لكي تُصلحها، وما عليك إلّا أن تقبل وتسلّم بهذا التشخيص إذا كان نابعاً عن نيّةٍ صحيحة وكان دقيقاً في تشخيص هذه العيوب، ولأنّ الكثير منّا لا يقبل بهذا التشخيص ويرفض التسليمَ له، بل أحياناً يحتدّ مع الشخص الآخر وربّما يؤدّي الى القطيعة وغير ذلك من هذه الأمور، لأنّ هذا التشخيص يعتبره انتقاصاً من شخصيّته وإظهاراً لعيوبه، لذلك الأئمّة(عليهم السلام) في كثيرٍ من الأحاديث نبّهونا الى أهمّية اتّباع هذا الأسلوب، لذلك ورد في بعض الأحاديث (لا يزال المؤمنُ بخيرٍ ما كان له توفيقٌ من الله، وواعظٌ من نفسه، وقبولٌ ممّن ينصحُه).

الإمام الهادي (عليه السلام) في هذا المجال أيضاً ورد عنه هذا الحديث: (إنّ الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً إذا عوتِبَ قَبِل) مثلاً أنا يصدر منّي خللٌ أو نقصٌ أو شيءٌ غير مقبول فيُعاتبني أخي المؤمن على صدور هذا الأمر المرفوض، أنا لا أقبل وأرفض هذا العتاب المبنيّ على النصيحة وتشخيص العيب والخلل في الشخصيّة، الإمام الهادي(عليه السلام) يقول من الكواشف عن أنّ الله تعالى يريد بك الخير والصلاح أن تكون لك هذه الصفة، أي إذا عاتبك أخوك بأن شخّص عيباً أو خللاً في شخصيّتك وأراد أن يقيّم صفاتك ويؤشّر خللاً، إذا كنت تريد الخير لنفسك والصلاح لنفسك اقبلْ هذا التشخيص واذعنْ له واعملْ على إصلاحه، هذه من الوسائل المهمّة إخواني التي أشار اليها الأئمّة في كثيرٍ من الأحاديث، أسلوبٌ من أساليب تهذيب النفس (أنّ الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً إذا عوتِبَ قَبِل)، في مقابل ذلك الرفض وعدم القبول يؤدّي الى أنّ الإنسان يغفل عن هذا العيب وهذه النقيصة، وهذا العيب يتراكم ويكبر الى أن يصبح طبعاً متأصّلاً في شخصيّة هذا الإنسان، ويسبّب له الكثير من الأضرار في الدنيا والآخرة، لذلك من الأساليب التي لابُدّ للإنسان المؤمن أن يتّبعها أن يقبل تشخيص الآخرين، ما يكون في شخصيّتي من خللٍ ومن نقصٍ ومن عيب ثمّ بعد ذلك أعمل على إصلاح هذا الخلل.

لماذا نزور مراقد الأئمة (ع)؟

الأمر الآخر هي الأساليب العقائديّة التي اتّبعها الأئمّة (عليهم السلام) في تقوية الارتباط بالأئمّة(عليهم السلام)، لاحظوا إخواني تختلف أساليب الأئمّة في كيفيّة تقوية ارتباط أتباعهم بهم بحسب الظروف التي تحيط بالأئمّة وأتباعهم، من جملة هذه الأساليب هي الحثّ على زيارتهم وتكرار هذه الزيارة، لاحظوا إخواني ودقّقوا لا يكاد أن يمرّ أسبوع أو شهر إلّا وهناك زيارة لواحدٍ من الأئمّة (عليهم السلام)، كثرة المواسم التي ورد فيها الحثّ الشديد على الزيارات المليونيّة وطوال السنة، هناك زيارات متوالية لماذا إخواني؟ هل هو لمجرّد التواصل مع الأئمّة(عليهم السلام) والتعبير عن حبّهم؟ لا.. أبداً هم يعرفون أنّ أتباعهم سيتعرّضون الى المزيد من التضييق والتنكيل والمحاربة لإضعاف الولاء لهم، كيف يواجه أتباعُ أهل البيت هذه الأساليب من الحكّام والسلاطين الذين يريدون القضاء أو الإضعاف لهذا الارتباط والولاء؟ هل يكفي أن أقرأ علومهم ومقامهم وشخصيّتهم وفضلهم؟ لا يكفي بل لابُدّ من التواصل المستمرّ طوال أيّام السنة في زيارة قبورهم وإحياء أمرهم وذكرهم والتعرّف العقائديّ على مقامهم وفضلهم ومنزلتهم عند الله تعالى.

لذلك التفتوا إخواني الى مضامين هذه الزيارات، المُلفِت للنظر إخواني في الزيارات المشهورة المرويّة عن الإمام الهادي(عليه السلام) ومن جملتها الزيارة الجامعة الكبيرة، الذي قرأها اطّلَعَ على مضامينها والذي لم يقرأها فلْيقرأها ويطّلع على المضامين المهمّة التالية، أيضاً زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) في يوم الغدير، إخواني نلاحظ سمةً في زيارات بعض الأئمّة كالإمام الحسين(عليه السلام) مثلاً، هناك تركيز على مظلوميّته ومظلوميّة الأئمّة(عليهم السلام) وعلى قتلهم وانتهاك حرمتهم، لأنّهم أدّوا المهامّ الدينيّة فأدّى الى ذلك، وهناك مساحةٌ واسعة من الزيارة للتأكيد والترسيخ لمظلوميّة أهل البيت(عليهم السلام) في بعض هذه الزيارات، في الزيارات المرويّة عن الإمام الهادي(عليه السلام) ومنها الزيارة الجامعة الكبيرة تركيزٌ شديد على الجانب العقائديّ، وهو بيان مقام أهل البيت(عليهم السلام) ومنزلتهم وما هو دورهم في الحياة الإسلاميّة، لماذا؟ كأنّه في زمن الإمام الهادي وزمن الإمام الجواد وزمن الإمام العسكريّ(عليهم السلام) ازداد التضييق والتنكيل بأتباع أهل البيت وبالأئمّة(عليهم السلام) ازداد أكثر، يُراد منه إضعاف هذا الارتباط والولاء العقائديّ لأئمّة أهل البيت مع شيعتهم، جاءت الزيارة وتوسّعت وتعمّقت وكان هناك تفصيلٌ أكثر دقّةً وعمقاً في الجانب العقائدي والولائيّ لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام).

وهذا ممّا ينبغي بل ربّما يجب على المؤمنين أن يتعرّفوا على دقائقه، لذلك حينما نقرأ مقاطع من هذه الزيارة –الزيارة الجامعة الكبيرة- وزيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) في يوم الغدير أيضاً، لاحظوا ودقّقوا في فصول تلك الزيارة تجدوا الجانب العقائديّ والولائيّ له مساحة واسعة وهذه صادرة من الإمام الهادي(عليه السلام)، لذلك الذي نأمله من المؤمنين حينما يقرأون هذه الزيارة الجامعة الكبيرة أن يتأمّلوا في مضامينها، في مقابل محاولات مستمرّة لا تنتهي للحكّام والطواغيت لإضعاف بل القضاء على هذا الارتباط العقائديّ، تأتي محاولاتٌ مستمرّة من الأئمّة(عليهم السلام)، هم يحاولون دائماً إضعاف هذا الارتباط والأئمّة(عليهم السلام) يقابلون هذه المحاولات من الإضعاف بمحاولات التقوية وإدامة الارتباط العقائديّ والولائيّ لأهل البيت(عليهم السلام)، من خلال التعرّف -هذا العلم الذي أراده الأئمّة(عليهم السلام)- على تفاصيل مقام أهل البيت(عليهم السلام)، ولماذا دون غيرهم اصطفاهم الله تعالى للقيادة ولموقع الإمامة، هذا الوعي العقائديّ يستطيع من خلاله الإنسان أن يبني.

التفتوا إخواني، الفرد والمجتمع يستطيع أن يبني قدرةً ذاتيّة على مواجهة حملات التنكيل والمحاربة ومواجهة الأزمات والمصائب والابتلاءات التي يمرّ بها المؤمن، لذلك ورد في بداية الزيارة الجامعة الكبيرة قول: (السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، ومعدن الرّحمة، وخزّان العلم، ومُنتهى الحِلم، وأصول الكرم، وقادة الأُمم، وأولياء النِّعَم...) يبيّن الإمام (عليه السلام) بالتفصيل وليس على نحو الإجمال، هنا الإمام الهادي(عليه السلام) يبيّن أمرين، أوّلاً أنّ الأئمّة(عليهم السلام) بلغوا القمّة في صفات الكمال الإنسانيّ، وليس هناك نقصٌ في صفات الكمال الإنسانيّ لهم، ثانياً أنّ كلّ واحدٍ منهم مجمعٌ لصفات الكمال الإنسانيّ، حينما نقول الإمام الهادي(عليه السلام) لا يعني أنّه لا يتّصف بالجود والكرم والصدق وغير ذلك من الصفات الأخرى للأئمّة(عليهم السلام)، ولكن تظهر هذه الصفات أحياناً لدى بعض الأئمّة بحسب الأوضاع والظروف والأحوال، هم بلغوا القمّة أوّلاً ثمّ إنّهم مجمعٌ لكلّ صفات الكمال الإنسانيّ، الإمام (عليه السلام) يبيّن هاتين النقطتَيْن الأساسيّتَيْن، لذلك هم دون غيرهم بلغوا القمّة وبلغوا أنّهم جمعوا كلّ هذه الصفات.

لذلك الإمام(عليه السلام) يبيّن بالتفصيل هذه الصفات التي حصل منها الجَعْل الإلهيّ والاصطفاء الإلهيّ لهم، والذي أوجب محبّتهم واتّباعهم والتمسّك بمنهجهم، ثمّ يبيّن أيضاً ما هو السلوك العمليّ المطلوب من أتباع أهل البيت، فصولٌ كثيرة في هذه الزيارة لا يسع المجال لذكرها، يقول الزائر فيها: (بأبي أنتم وأمّي وأهلي ومالي وأسرتي) أيْ كلّي أنا وأهلي ومالي وأسرتي وكلّ ما فيّ لأنّكم تستحقّون هذا المقام الإلهي الذي جُعل لكم، تستحقّون مثل هذه التضحية ومثل هذا الموقف، (أُشهد الله وأُشهدكم أنّي مؤمنٌ بكم وبما آمنتم به، كافرٌ بعدوّكم وبما كفرتم به، مستبصرٌ بشأنكم وبضلالة مَنْ خالفكم، موالٍ لكم ولأوليائكم...) وهكذا الى أن يقول (عليه السلام): (مطيعٌ لكم عارفٌ بحقّكم مقرٌّ بفضلكم محتملٌ لعِلْمكم...) لا يكفي المحبّة المجرّدة والارتباط العاطفيّ بل الاتّباع لجميع المناهج التي جاء بها الأئمّة(عليهم السلام) وعدم اتّباع غيرهم، لأنّهم هم وحدهم الذين اصطفاهم الله تعالى لكي يحفظوا تمام الرسالة المحمّدية الأصيلة.

نسأل الله تعالى أن يوفّقنا أن نكون من المقتفين لآثارهم والمتّبعين لنهجهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

- النص الكامل للخطبة الأولى من صلاة يوم الجمعة 28/02/2020