ممثل المرجعية العليا: على الحاكم والمحكوم مراعاة الحقوق

أيّها الإخوة والأخوات في هذا الأسبوع عشنا ذكرى استشهاد ورحيل الإمام السجّاد (عليه السلام)، وبهذه المناسبة يحسن بنا أن نتعرّض الى بعض ما تركه لنا الإمامُ السجّاد (عليه السلام)، من كنوز المعارف الإلهيّة التي غفلنا عن أهميّتها ودورها المهمّ في حياتنا الدنيا والآخرة، أهملناها في تعلّمها ودراستها ونشرها وكذلك تطبيقها، ألا وهي (رسالة الحقوق) التي تُعدّ من كنوز المعارف الإلهيّة العظيمة، التي ليس فقط ينبغي بل يجب أن نتعلّمها وندرسها ونعتني بها، ونطبّقها في حياتنا الدنيا ونحرص على تطبيقها.

(رسالة الحقوق) التي هي شاملة لجميع ما يتعلّق بحقوق الإنسان والمحيط الذي يحيط به، فيحتاج اليها الفردُ البسيط ابتداءً من الحاكم والمحكوم والراعي والرعيّة، وكلّ ما يتعلّق بشؤون الإنسان في مختلف مجالات حياته، لذلك إخواني أدعوكم هنا ونحن نعيش ذكرى رحيل الإمام السجّاد(عليه السلام)، احفظوا هذا الحديث دائماً -إخواني- ونحن سبَقَ أن أكّدنا مراراً وتكراراً على أهميّته، الإمام الرضا(عليه السلام) يقول: (رحِمَ الله من أحيا أمرنا)، أبو الصلت الهرويّ يسأله: كيف نُحيي أمركم؟ بأيّ وسيلةٍ نُحيي أمركم؟ قال: (تتعلّمون علومنا وتعلّمونها الناس، فإنّهم لو علموا محاسنَ كلامِنا لاتّبعونا).

من الوسائل المهمّة في إحياء ذكرى الأئمّة(عليهم السلام) إقامة المجالس للتذكير والتعريف بعلومهم، أيضاً نحن ندرس علومهم ونتعلّم علومهم ومعارفهم، نفهم هذه العلوم ونحرص على تطبيقها، فمن الكنوز العظيمة التي تركها لنا الأئمّةُ(عليهم السلام)، (نهجُ البلاغة) لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) و(رسالة الحقوق) للإمام السجّاد(عليه السلام).

هذا شيء والشيءُ الآخر إخواني ندقّق قليلاً، ما هي تلك الأسباب الأساسيّة في أغلب مشاكلنا ونزاعاتنا وخلافاتنا في الحياة الدنيا؟ نحن لو ندقّق في الأسباب الأساسيّة والجوهريّة لوجدنا أنّها إهمالُنا للحقوق، حقوق بعضنا على البعض الآخر، حقوق الإنسان مع كلّ موجودٍ حوله، حقّه مع الله وحقّ الله تعالى عليه وحقوقه مع الآخرين، أحد المشاكل الأساسيّة إخواني نحن نلاحظ على كلّ واحدٍ منّا، أنّ الواحد منّا دائماً يطالبُ برعاية حقوقه من الآخرين، ويرتّب المشاكل والنزاع والآثار الأخرى إذا لم تُراعَ حقوقُه من قبل الآخرين، ولكن هذا الإنسان هل يُراعي بنفس الدرجة حقوق الآخرين عليه أم لا؟!

لاحظوا إخواني نبتدئ بواحدةٍ واحدة، الكلّ منّا يطلبُ من الله تعالى أن يعطيه كلّ شيء، ولكن هو هل يراعي الأمور -ولو بعضها- التي يريدها الله تعالى منه؟ في داخل الأسرة الزوج دائماً يطالبُ بجميع حقوقه من الزوجة، وإذا لم تُراعِ بعض الحقوق يرتّب المشاكل والنزاع والكثير من الآثار، والزوجة تُطالب الزوج بكلّ الحقوق وترتّب الآثار والمشاكل السلبيّة إن لم يُراعِ الزوج هذه الحقوق، ولكن هي هل تُراعي كلّ الحقوق التي للزوج؟

لاحظوا إخواني القضيّة مهمّة فالحقوق متبادلة، ليس عندنا حقوقٌ من طرفٍ واحد، دائماً إذا نلاحظ في مسألة الحقوق هي متبادلة بين الطرفين، بمعنىً آخر كلّ طرفٍ لابُدّ أن يُراعي حقوق الطرف الآخر، والطرف الآخر لابُدّ أن يُراعي حقوق الطرف الأوّل، الآباء والأولاد -مثلاً-، الأولاد يطالبون آباءهم وأمّهاتهم بجميع حقوقهم، ولكن هل الأولاد يُراعون حقوق آبائهم وأمّهاتهم؟! الواحد منّا يطلب من أبناء مجتمعه أن يراعوا كلّ حقوقه الماديّة والمعنويّة، ولكن هل هو يُراعي حقوق الآخرين كما هو يطلب من الآخرين أن يُراعوا هذه الحقوق؟! هذه مشكلة أساسيّة.

أحدُ المشاكل الأساسيّة وأحدُ الأمور الأساسيّة في مشاكلنا في نزاعاتنا في تخلّفنا في أن نعيش هذه الحالة من التعاسة ومن التخلّف ومن الشقاء ومن المعاناة، أحدُ الأمور الأساسيّة هو أن كلّ واحدٍ يطلب من الآخرين أن يراعوا حقوقه بأجمعها، لكن هو لا يراعي حقوق الآخرين، لو أنّنا وازنّا -حالة التوازن- أنا أطالب الآخرين بهذه الحقوق وعليهم أن يُراعوا الحقوق التي لي عليهم، وأنا أيضاً لو كنتُ بنفس الدرجة ألاحظ وأُراعي وأطبّق حقوق الآخرين عليّ، لما حصلت هذه الأمور في حياتنا الدنيا.

لذلك إخواني -أُلفت نظركم- اهتمّوا ولو بعض الشيء القليل برسالة الحقوق للإمام السجّاد(عليه السلام)، اقرأوها ولو شيئاً يسيراً، إضافةً الى ذلك علينا حقيقةً أن نهتمّ بهذه الرسالة الإلهيّة في الحقوق، في مدارسنا في جامعاتنا في مؤسّساتنا، نثقّف ثقافةً جماهيريّة في داخل الأسرة وفي داخل المدرسة وفي الجامعة وفي الدوائر وفي كلّ مكانٍ، أن نعرّف ونعلّم هذه الحقوق في مجالسنا وحتّى في المجالس الحسينيّة نعرّف بهذه الحقوق، الإمام ماذا قال في إحياء الأمر؟ قال: (تتعلّمون علومنا وتعلّمونها الناس)، في المجالس حينما نُحيي ذكرى الإمام السجّاد(عليه السلام) نعرّف الناس بجزءٍ من رسالة الحقوق التي تضمّنت جميع ما يحتاج إليه الإنسان في الحقوق مع ما يُحيط به، ابتداءً يبيّن الإمام (عليه السلام) أنّ أصل الحقوق هو حقّ الله تعالى على الإنسان، ثمّ بعد ذلك حقوق النفس وحقوق الجوارح وحقوق المجتمع وغير ذلك من هذه الحقوق.

ونذكر هنا إخواني مثالَيْن من هذه الحقوق المهمّة، الإمام (عليه السلام) في بعض هذه الحقوق بيّن حقوق التعايش الاجتماعيّ الصحيح ابتداءً من داخل الأسرة، الإمام (عليه السلام) يبيّن حقوق الزوج على الزوجة وحقوق الزوجة أيضاً على الزوج وحقوق الأبوَيْن، أنا أُلفت نظركم خصوصاً في هذه الأيّام نلاحظ عدم مراعاة حقوق الأبوَيْن حقّ الأب وحقّ الأمّ، لاحظوا نذكر شيئاً يسيراً من ذلك ماذا يقول الإمام (عليه السلام) أُلفت نظر الأبناء، طبعاً الأبناء ليس فقط الشباب أحياناً الابن كبير وأبوه أكبر منه، حتّى هذا الابن الكبير الذي بلغ الأربعين أو الخمسين لا يُراعي حقوق أبيه ولا يُراعي حقوق أمّه، فمسألة مراعاة هذه الحقوق شاملة للجميع وليست مقصورة على الأبناء الشباب، مثلاً يقول الإمام (عليه السلام) في بيان حقّ الأب -والتفتوا الى هذه النقطة المهمّة-: (وحقّ أبيك أن تعلم أنّك لولاه لم تكنْ...) ما معنى هذه العبارة؟ الإمام يُلفت نظرنا أنّ الله تعالى جعل الأب الواسطة والطريق التكوينيّ وفق إرادته في أن يكون وجودُك.

الوجود بذاته هو نعمةٌ عظيمة للإنسان، أنّه يكون مخلوقاً من قِبل الله تعالى وأن تكون له نعمة الوجود، الله تعالى جعل الأب هذه الواسطة والطريق التكوينيّ بمشيئته وإرادته لوجودك في الحياة الدنيا، ولولا الأب أنت أصلاً لم تكنْ موجوداً في الحياة الدنيا، ثمّ يقول: (...فمهما رأيتَ في نفسك ما يُعجبك، فاعلمْ أنّ أباك أصلُ النعمة) نعمة الوجود هذا واحد، نعمةُ التربية، ولا يقصد بالتربية التربية التي نفهمها تربية النفس وغير ذلك، إنّما التربية بمعنى النموّ سواءً كان النموّ الجسديّ، النموّ التربويّ، العلميّ، التعليميّ وغير ذلك من هذه الأمور هي من الأب والأمّ، هذا الأب أصل النعمة إنّما هو سببُها فإحسانه عظيمٌ عليك، أنت عليك أن تردّ له شيئاً من هذا الإحسان.

ثمّ في حقّ الأم يقول (عليه السلام): (فحقّ أمّك أن تعلم أنّها حملتك، حيثُ لا يحمل أحدٌ أحداً، وأنّها وقَتْك بسمعِها وبصرِها ويدِها ورجلِها وشعرِها وبشرِها وجميعِ جوارحِها)، يقول هذه الأم تحمّلت من المعاناة وكابدت من المشاقّ ما لا يتحمّله أحدٌ في الكون بإزائك، هي حملتك تسعة أشهر ثمّ بعد ذلك أتعبت نفسها وجوارحها وكلّ كيانها في سبيل أن تكبر وتنمو وتصل الى هذه المرتبة، لا يكون في يومٍ من الأيّام تحمل شهادةً عُليا أو تكون لك سلطة أو يكون لك جاهٌ ومنصب وموقع في المجتمع أو مالٌ كثير، وأبوك فقير أو أمّك في حالٍ آخر وتنسى تلك النعم أو تنسى ذلك الإحسان العظيم، لابُدّ أن تلتفت الى أصل نعمة الوجود ونعمة التربية والنموّ الى أن وصلت الى هذه المرتبة وأنت ما فيه، إنّما يعود الفضل فيه الى الأب والأم، لا تنسَ هذا الإحسان لا تعجبْك نفسُك إنْ وصلت الى ما وصلت من منصبٍ وجاهٍ ومالٍ وقوّةٍ وسلطة وغير ذلك من هذه الأمور، لا تنسَ أبوَيْك وهذا الفضل العظيم، كما تطالب أبوَيْك بحقوقك فعليك أن تلاحظ هذه الحقوق التي لأبوَيْك عليك.

ثمّ يبيّن الإمام (عليه السلام) حقّ خازن العلم وراعي العلم، ونحن نبتدئ سنةً دراسيّةً لهذا العام في الجامعات والمدارس لابُدّ أن نلاحظ هذا الحقّ، الله تعالى بفضله -والإمام (عليه السلام) هنا يبيّن- بفضله ومنّه جعل هذا الأستاذ وهذا المعلّم وهذا المدرّس جعله خازناً لهذا العلم وحافظاً لهذا العلم، لا يتصوّر أحدٌ أنّه بذكائه وبشطارته وبجهده وصل الى هذه المرتبة، الله تعالى أعطاك العقل الله تعالى أعطاك الذكاء الله تعالى وفّر لك الأجواء حتّى وصلت الى هذا المقام، فجعلك خازناً وحافظاً للعلم، وهذا العلم أمانةٌ في عنقك فعليك أن توصل هذا العلم الى الآخرين، كما جعل الآخرين -إخواني وأعزّائي- الأستاذ كان له أستاذٌ علّمه، والمعلّم كان له معلّمٌ علّمه، والمدرّس كان له مدرّسٌ علّمه، وكانت له مدرسة وكانت له أسرة، هذه الأجواء التي توفّرت له الله تعالى منّ عليه بتوفير هذه الأجواء ومنّ عليه أن هيّأ له أساتذةً آخرين ومعلّمين آخرين علّموه ووفّروا له هذه الأجواء.

فأنت الآن خازنٌ لهذا العلم وهذا العلم أمانةٌ عليك أن تُعطي لهذا العلم حقّه، الطالب أمانةٌ اؤتُمِن عندك من قبل أسرته ومجتمعه وبلده ووطنه، عليك أن تُعطي هذه الأمانة حقّها، الإمام (عليه السلام) يبيّن من خلال هذا الحقّ أن يتعاهد هذا العلم بأن يوصله الى طالبيه، ثلاث نقاط مهمّة ونحن نتبدئ العام الدراسيّ في كلّ مكانٍ فيه تعليم، الإمام يبيّن في هذا الحقّ ثلاثة أمور:

الأوّل: أن يوصل هذا العلم كاملاً تامّاً صحيحاً واضحاً بيّناً، هذا الكتاب -الكتاب الفلاني- عليّ أن أوصل ما فيه من العلوم تامّةً كاملةً غير ناقصة وواضحةً بيّنة، وأحرص على أن أوصل هذه العلوم والمضامين واضحةً بيّنةً لا لبسَ فيها ولا نقصَ ولا غموضَ ولا اشتباه، وعليّ أن أحرص وأتابع الطلبة هل أنّهم فهموا، هل أنّهم حفظوا، هل أنّهم أتقنوا هذه المادّة العلميّة، هذا الحقّ الأوّل.

الثاني: أن أكون رفيقاً متأنّياً صابراً، رحلة العلم شاقّة فأحتاج في الصيف وفي الشتاء أو في الليل وفي النهار أن أوصل هذه المادّة العلميّة -لما ذكرناه من مواصفاتٍ في النقطة الأولى- أن أوصلها وأجعل هذا الرفق بالطالب وهذا التأني والصبر في رحلة إيصال هذه المادّة العلميّة الى الطالب، حتّى إذا انتهيت من السنة الدراسيّة أو من الرحلة الدراسيّة أكون قد اطمأننت من خلال هذه الوسيلة، أمّا الأساليب الأخرى التي هي خلاف ذلك لا نصل منها الى نتيجة.

الثالث: وهي نقطة مهمّة نلفت نظر الإخوة الأساتذة ورئاسات الجامعات وإدارات المدارس والأسر، العلم والعلوم التخصّصية من غير تأديبٍ وتربيةٍ وأخلاقٍ وحكمة لا نفعَ فيها، تتحوّل الى شرّ وأداة ضررٍ للفرد والمجتمع، لابُدّ أن نحرص كما مطلوبٌ منّا أن نوصل مادّة الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء واللّغة الإنكليزيّة والعربيّة كاملةً تامّةً واضحة بيّنةً لا لبسَ فيها ولا غموض لعقل الطالب، علينا أن نهتمّ بتربية وتأديب الطالب وتخلّقه بالأخلاق الحميدة، ولابُدّ أن نُعطي قدراً من الاهتمام والعناية بتأديب الطلبة وترقّيهم في المبادئ الأخلاقيّة كما نُعطي اهتماماً بالمادّة العلميّة التخصّصية، وإلّا إن ركّزنا على المادّة العلميّة من دون أن نعتني بتربية هؤلاء الأولاد وتهذيبهم وتخلّقهم ونحرص على أن يكونوا من أصحاب الخُلُق الرفيع، سينحدر الكثير من الطلبة الى الانزلاق في مزالق المخدّرات والفجور والخروج عن المسار الأخلاقيّ الصحيح، وربّما يكونون أعضاء ضارّين في المجتمع مستقبلاً، لذلك هنا الإمام (عليه السلام) يؤكّد في هذه النقطة الثالثة (فإنّ العلمَ عِقادُه الأخلاقُ والحكمة)، لابُدّ أن يكون اعتناؤنا بالأمرَيْن معاً، لذلك الذي نرجوه من جميع المؤسّسات التربويّة على اختلاف مسمّياتها أن يكون الاهتمام كافياً بهذين المجالين الأساسيَّين.

نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لذلك إنّه سميعٌ مجيب، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

النص الكامل للخطبة الثانية من صلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في (27 محرّم 1441هـ) الموافق لـ(27 أيلول 2019م).