وكيل السيد السيستاني يحذر من انشغال الأولاد بـ «الأجهزة الحديثة»

إخوتي أخواتي أودّ أن أتحدّث معكم حول موضوع ما يُتعارف عليه بالتواصل الاجتماعيّ، كمقدّمةٍ سريعة قطعاً الأمم تتفاخر بثقافاتها، وهذه الثقافات أيضاً بينها نوعٌ من التباين والتفاضل، وكلّما كانت تلك الثقافات تهتمّ بتربية الإنسان كانت أفضل، وأنتم تعلمون -كما تكلّمنا سابقاً- أنّ الثقافة التربويّة من أهمّ الثقافات عندنا، وتصدّى قديماً وحديثاً المتصدّون لبيان المدارس الثقافيّة، كلٌّ يرى أنّ هذا المنهج الثقافيّ هو الأفضل لحاجة المجتمع بشكلٍ ملحّ الى مسألة الثقافة، بماذا نتثقّف؟ ومن هو المسؤول عن ثقافتنا؟ وتبقى هذه الصراعات اجتماعيّاً تبرز بين فترةٍ وأخرى سمةً ثقافيّة وتأخذ حيّزاً كبيراً، والمجتمع الآخر يتأثّر أيضاً بهذه الثقافة، وهناك بصمةٌ ثقافيّة تمتاز بها كلّ أمّة عن الأخرى.

سأتحدّث الآن بما يتعلّق بنا وما سنقوله له علاقة على نحو الأسرة وعلى نحو الجانب السياسيّ والجانب الاجتماعيّ والجانب الاقتصاديّ والجانب الإداريّ، نتحدّث عن ثقافتنا من جهةِ وسيلةٍ من الوسائل، مثلاً الكتاب عاملٌ من عوامل الثقافة، وذكرنا سابقاً قبل أكثر من جُمُعة أنّ المعلّم والأب أيضاً من عوامل الثقافة، لكن يبدو أنّ هناك حالاتٍ تحتاج الى مزيدٍ من الكلام فيها، وهذا الكلام ليس لغرض الكلام وإنّما لغرض إيجاد المعالجة.

المسافة الزمنية أقل من طموحاتنا

لاحظوا الآن من وسائلنا الثقافيّة أصبحت، الشابّ والشابّة والشخص الكبير والصغير يقضي وقتاً كبيراً أمامه، لغرض ما يُتعارف أن أقضي وقتاً عند هذه الجهة المعيّنة التي سأتطرّق لها، أوّلاً نحن نحتاج أن نؤسّس مبادئ حقيقيّة ومبادئ اجتماعيّة، كلّ إنسانٍ منّا حريصٌ على وقته وحريصٌ على عمره، أن يقضي هذا العمر بما يلبّي بعض طموحه، الإنسان لا يستطيع أن يقول حقّقت كلّ ما أريد في فترة العمر، دائماً -إخواني- العمر مسافته الزمانيّة أقلّ من طموحاتنا، دائماً العمر هكذا فلابُدّ أن نأتي الى تلك الأولويّات في حياتنا، ونحصر هذه الأولويّات حتّى نقلّل من مساحة الاهتمام الزائد، ونجعل هذه الأولويّات بمقدارٍ ما تتماشى مع عمرنا ومع وقتنا، حتّى نستفيد من كلّ وقتٍ يمرّ بفائدةٍ تنعكس علينا.

أولادنا والتكنلوجيا الحديثة

بعض الناس يحبّ أن يستفسر في بداية حياته وفي بداية مراهقته، يبدأ يكتشف عالماً آخر يحبّ أن يستفسر ويحبّ أن يتوجّه، فإذا وجد من يوجّهه اختار الطريق الصحيح، وإذا لم يوفَّقْ لذلك يبدأ يتخبّط الى أن قد يحصل بنفسه على حلّ أو أنّه يبقى في حالة التخبّط الى حين، اليوم عندنا مشكلة أخرى تسبق مرحلة المراهقة، وهذه المشكلة هي مشكلة انشغال الأولاد بأعمارٍ صغيرة بما يُتعارف عليه بالأجهزة الحديثة، ويبقى هذا الطفل يأخذ هذا الجهاز مساحةً من حياته كثيرة في أن ينشغل، فتبدأ تنصهر عندنا شخصيّة جديدة لم نألفها سابقاً، بحيث إذا منعت عنه هذا الجهاز يبدأ بالصراخ والعويل، والعائلة تريد أن تُسكته فترجع الجهاز له مرّةً ثانية، طبعاً العائلة تشكو لكن لا تتّخذ تدابير -أتكلّم عن البعض-، لأنّ صوت الطفل في البكاء يُزعج العائلة فيُسكتوه بإرجاع الجهاز له، ثمّ ينتظرون سنتين أو ثلاث أو أربع أو عشر، هذا الطفل سيمرض نفسيّاً وستكون هناك مشكلة لا الأب يستطيع أن يعالجها ولا الأم تستطيع أن تعالجها، والأسرة عندما تشكو لأسرةٍ أخرى تجد تلك الأسرة تعاني أيضاً من نفس المشكلة، فيهون الخطب لكن المشكلة باقية، يهون الخطب لشياع المشكلة وعندما يكبر هذا الطفل يبدأ يعبّر عن هذه الثقافة، التي تؤخذ من الفيس بوك وتؤخذ من باقي مواقع التواصل الاجتماعيّ، حقيقةً هناك -كثقافة- شيء هجين، ماذا فيها هذه الثقافة؟

من الأشياء التي أحبّ أن أُلفت النظر اليها، لاحظوا الآن -مثلاً- لو تحدّث شخصٌ بالسوء عن شخصٍ آخر أو عن جهةٍ أخرى، مجموعةٌ كبيرة لا تعرف ذلك الشخص ولا تعرف تلك الجهة تكون مع هذا الذي يتكلّم بسوء، فتجد السُباب والشتيمة والكلام اللاذع والكلام غير المؤدّب، والإنسان بدأ يثقّف نفسه على الكلام النابي، تحوّلت حالة الثقافة الى حالة سبٍّ وشتم، طبعاً لا أحد يُنكر -أسريّاً- أنّنا نحن مَنْ هيّأنا المجال كأسرة أن تنفلت بعض الأمور منّا ونعاني منها، وهذا الذي يشتم يتصوّر أن لا أحد يعرفه فيُعطي العنان للسانه أن يتكلّم بما يشاء، المقابل يردّ له الشتيمة بعشرة والسباب يتجاوز الشخص ويذهب الى الأمّ والأب والعشيرة، ويعيش الإنسان ساعات من هذا العمر الذي قلنا في البدء هو عمرٌ محدّد، يعيش الإنسان هذا العمر بسبابٍ وشتيمةٍ بحيث يقضي هذا العمر حتّى أنّ هذا اللّسان يتعوّد على أن لا يتكلّم إلّا بالكلام النابي، وهذه الأُذُن تتعوّد على سماع الفحشاء من القول، مع أنّه واقعاً هذه الوسائل وسائل ممتازة لو استغلّت الاستغلال الأمثل.

الإنسان الآن ربّما ليس له مجالٌ أن يقرأ الكتب كما كان يقرأ سابقاً، من المُمكن أن يستعيض عنها بثقافةٍ رصينة وهي مبثوثة، لكن كيفيّة إدارة وقته -انتبهوا إخواني- كيفيّة إدارة وقت الإنسان تحتاج الى مربٍّ، كيف للإنسان أن يشغل وقته؟ هذه الأشياء تشغل الإنسان لساعاتٍ وساعات حتّى يصبح هذا الإنسان كسولاً، حتّى قيل لي -والله العالم- إنّ في بعض مؤسّسات الدولة بعض الموظفين يأتي متأخّراً لعمله، لأنّه واقعاً لا يكتفي من النوم ليلاً، لماذا؟ لأنّه شغل نفسه بهذه التُرُّهات!!

إخواني يُمكن أن نتعلّم من بقيّة مخلوقات الله تعالى، الله تعالى جعل الليلَ سَكَناً جعله للراحة، نحن قلبنا الأمور فلا نعرف كيف نتصرّف وفق عقولنا بشكلٍ جيّد، هذا الوقت الثمين للإنسان يقضيه بتُرُّهات لا تُسمن ولا تُغني من جوع؟! أو يقضيه بأمورٍ أخرى عواقب هذه الأمور وخيمة، وكم من مشكلةٍ وكم من فتح نافذةٍ لمشاكل حصلت بهذه الأمور، أنا لا أتكلّم الآن عن جزئيّات لو أبدأ لا أنتهي، وهذه جزئيّات أصبحت مقلقة بالنسبة للجميع، أيّ أحدٍ تتكلّم معه يشكو، إذن من المسؤول عن الحلّ؟

ثقافة البلد

بعد ذلك كشفت هذه الحالةُ شيئاً آخر وهو بصراحة الجهل الكبير عند مستخدمي هذه الأدوات، في الكتابة فيها جهلٌ وفي الإملاء فيه جهلٌ وفي الثقافة فيه جهلٌ، وهو يملك شهادة وعندما ترى بعض ما يتحدّث عنه حقيقةً تجده كلاماً يُضحك الثكلى!!، لا توجد ثقافةٌ حقيقيّة بل حالةٌ من الجهل وحالةٌ من التواضع في الفهم، فإذا كان هذا مستواه فكيف يفهم معقّدات الأمور؟! قيل في حقّ فلان كذا...، اندفع العشرات شتيمةً وسباباً!! من أين تعرفونه؟ لماذا هذه الطريقة؟ تصدّقون كلّ ما يُقال سلباً في الآخرين!! الإنسان عليه أن يتروّى إذا كان متديّناً (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) أمام الله أمامك يومٌ عبوسٌ قمطرير، الآن الكلمة لا أتكلّم بها بيني وبين نفسي فكيف يراها عشراتٌ آخرون وينقلونها الى عشراتٍ آخرين، من المسؤول عن ذلك؟ إذا كنت غير متديّن هناك لياقات في التعامل، لماذا تلجأ الى الأساليب الشاذّة في التعامل؟! هذا السُباب له وجه وهذه الطريقة من الشتيمة؟!

البلد يحتاج أن يرقى بثقافته وبطريقة كلامه، الإنسان مأمورٌ أن يتكلّم بودّ حتّى الناس تستفيد لا أن تتكلّم دائماً بالسوء والكلام النابي وثقافتك أصبحت هجينة، الإنسان عندما يجلس أمام آخر حتّى وإن جاءه بهندام أو بشيءٍ يسحر الألباب يبقى ينتظر حتّى يتكلّم، تكلّمْ لأراك هل أنت إنسانٌ جيّد تملك عقلاً جيّداً وتملك ديناً وتملك أدبيّات وتملك لياقات؟ أو لا أنت مجرّد هذا الهيكل ولا تعقل من كتاب الله شيئاً ولا تعقل من الألفاظ شيئاً ولا تفهم إلّا السُباب؟ اكتبْ لأراك، هذه الثقافة إخواني أصبحت شائعة وهي ليست ثقافتنا، البلد معروفٌ عنه أنّه بلد ثقافةٍ وأدبٍ وبلد فكرٍ وعقلاء وبلد عقولٍ ناضجة، هؤلاء الشباب بالنتيجة سيطفحون على سطح ثقافتنا بسبب إهمال الأسرة وإهمال المعلّم وإهمال الصديق، ولا أعتقد أنّ أحداً منّا يرضى أن يوصم بلدُنا بهذه الثقافة الهجينة، ثقافة السُّباب والشتيمة والكلام النابي وشتم الأعراض، لا تعرف مجرّد أنّ فلاناً قال!!

نحن عندما نتكلّم واقعاً نتكلّم من منطلق أنّ الإنسان يحبّ بلده ويحبّ أهل بلده، بلدٌ تحمّل ما تحمّل وزهرةُ شباب البلد ذهبت في أيّامٍ خلت، طحنتها طواحينُ القتل والاضطهاد وهذا تاريخٌ تعرفونه، ثمّ جاءت هذه الفتنة الداعشيّة وبحمد الله تعالى تصدّى لها أبناءُ البلد، بلدٌ مملوءٌ بالعطاء والتضحيات لابُدّ أن يتناسب هذا المستوى، لا نفسح المجال ولا نسمح لأبنائنا أن يحطّوا من قدر أنفسهم، الإنسان الذي يسبّ هو مَنْ ينزل قدره والذي تسبّه قد يرتفع، والتاريخ هكذا كشف لنا وعلّمنا أنّ الإنسان الذي يشتم هو مَنْ تقلّ قيمته، فلنحافظ على أبنائنا ونُبعدهم عن هذا اللون من التعامل، أيّها الأب تكلّمْ مع ولدك قلْ له: اكتبْ لأراك ماذا تكتب، هذا عقلُك ما الشيء الذي غذّاه، المغذّي للعقل ما هو؟.

إخواني هذه مسؤوليّةٌ تضامنيّة وجماعيّة، ونحن نثير إثاراتٍ هنا، وقطعاً المسألة لا تنتهي بخطبةٍ ولا بمائة لكن تحتاج الى جهدٍ من الجميع، هذه ثقافةٌ متدنّية لو تُقارن بثقافة بعض البلدان حقيقةً نحن نخجل منها، سبّ وشتيمة وقذف وقدح ... على كلّ حال، نسأل الله سبحانه وتعالى الستر، وأن يجعل الله تعالى هذه الألسنة ألسنةً تتحدّث بالبرّ والخير، هذه أمانةٌ إخواني، هذه الأعضاء التي نمتلكها الله تبارك وتعالى يحاسبنا غداً عليها، لم يخلقها عبثاً، الإنسان مسؤولٌ عن اللّسان، كلّ كلمةٍ يتكلّم الإنسان بها سيرى أثرها يوم القيامة فضلاً عن الدنيا.

نسأل الله تعالى أن يقوّم ألسنتنا جميعاً وأن يجعل أعضاءنا لا تتصرّف إلّا في طاعته، أخذ الله تعالى بأيدينا وأيديكم لما فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة، وحفظ اللهُ البلادَ والعبادَ من كلّ سوءٍ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

*النص الكامل لخطبة صلاة الجمعة التي ألقاها وكيل المرجعية العليا السيد أحمد الصافي (دام عزه)