المرجعية العليا تعبّر عن امتعاضها من «التجاوز على حرمات الناس»

إخوتي أخواتي أعرض بخدمتكم السؤال التالي وسنحاول أن نجيب عنه بشكلٍ موجز، ألا وهو: كيف تتشكّل المنظومة المعرفيّة عند الإنسان؟

الإنسان عندما يولد ويأتي الى هذه الدنيا قطعاً سيتعلّم ويكون حاله ليس كحال بدايات حياته وولادته، السؤال هو كيف تتشكّل هذه المنظومة المعرفيّة عنده؟ طبعاً أنا لا أتحدّث عن المدارس الفكريّة والثقافيّة وليس الكلام في هذا الجانب، وكما تعلمون أنّ المدارس الفكريّة تختلف في مضامينها وتختلف في الأُسُس الفلسفيّة التي تشيّد نفسها بها، الكلام ليس في ذلك وهذا ليس محلّه، وإنّما حتّى يكون حديثنا حديثاً اجتماعيّاً عامّاً فلابُدّ أن يكون حول الآليّات التي تتشكّل فيها المنظومة المعرفيّة عند كلٍّ منّا.

الكتاب

لعلّ أوّل آليّةٍ هي الكتاب، أنّ الإنسان يقرأ في كتابٍ ما ويستفيد ممّا هو موجودٌ فيه، ولذا ترى الناس يتسابقون على اقتناء الكتب وقراءتها وربّما مناقشة ما في الكتاب، وكان البعض وما زال يعقد مجالس عامّة لمناقشة هذا الكتاب الذي قرأه زيدٌ أو عمروا، فالكتاب كان ولا زال يمثّل ركيزةً مهمّة في تشكيل المنظومة المعرفيّة.

المعلم

ثانياً: المعلّم، أنّ الإنسان يتعلّم من معلّمه، كيف يختار المعلم هذا ليس من شأننا، لكن أداة زيادة المنظومة المعرفيّة تكون من قِبل المعلّم، ويبقى يستفيد من هذا المعلّم بالمقدار الذي يتيحه له الوضع العامّ، وهذا التعليم أيضاً تختلف درجاته، لكن لا زال المعلّم يمثّل الركيزة المهمّة في الأداة المعرفيّة، صار عندنا كتاب وعندنا معلّم.

ومن جملة ما عندنا من آليّات هي التربية التي يتربّى عليها هذا الشخص، سواءً كان في بيئته أو أسرته، والأسرة لها الأولويّة في صقل شخصيّته المعرفيّة، فهو يتعلّم منها من تجارب الأب أو تجارب الجدّ أو تجارب الأمّ ويتعلّم منهما، فكما يأخذ من أسرته الأكل والشرب الذي يأخذه في البيت كذلك يأخذ منها الزاد المعرفيّ، ولعلّ هذه الأمور من الأمور الشائعة، قديماً عندما بدأ الإنسان يسطّر ويكتب الأفكار، والمعلّم أيضاً قديماً قبل آلاف السنين هناك معلّم يعلّم ويعطي وهناك الأسرة، هذا التكوين القديم الذي تكوّن وهذا هو الوضع الطبيعيّ في الأدوات المعرفيّة.

مصادر معرفية ضارة

اليوم بالإضافة الى هذه الأشياء بدأت ثقافتُنا المعرفيّة تدخل على آليّاتها وأدواتها أشياءُ أخر لم تكن سابقاً موجودة، وهذه الأشياء الأخر أيضاً أشياء مؤثّرة وتدخل في ثقافتنا المعرفيّة، بل هذه الأشياء اختصرت كثيراً من أدوات المعرفة ووضعتها أمامنا بشكلٍ واضح، وأقصد من هذه الأدوات هي الثورة المعلوماتيّة الحديثة المتمثّلة سواءً بالأنترنت أو عموم صفحات التواصل الاجتماعيّ، طبعاً هذه الحالة لا يُمكن للإنسان أن يغفلها أو يغفل مدى التأثير فيها، لكن أحبّ أن أنوّه هنا الى مسألة -وطبعاً أنا لا أعمّم الحكم- وإنّما أقول هذه الأدوات المعرفيّة فيها النافع وفيها الضارّ كالكتاب، الإنسان يُمكن أن يقرأ كتاباً نافعاً أو يُمكن أن يقرأ كتاباً ضارّاً، لكن هذه الأدوات المعرفيّة فيها شيء آخر ألا وهو حالة عدم المعرفة الخاصّة لمن يحاول أن يأخذ ثقافته العامّة منها.

أقول هذه المنظومات الثقافيّة -أو أعبّر عنها الإلكترونيّة-، هذه الثقافة الإلكترونيّة قسمٌ منها غير معروف، يعني هويّة هذه الثقافة غير معروفة، ونحن قد نمرّ بحالةٍ من التشوّش الفكريّ المعرفيّ بل التناقض في بعض الحالات، لعدم قدرتنا على فرز ما فيها، ولذلك سيكون تأثيرها السلبيّ كثيراً خصوصاً على الشباب وبعض الإخوة الذين لم يتعلّموا في الوضع السابق، يعني ليس عنده معلّم وليس لديه كتاب وليست لديه أسرة في محلّ تعليمه، وإنّما فتح عينيه على هذا الرّكام والكمّ الهائل والمشوّش الذي فيه تناقض، لا شكّ هنا لا نحصل على منظومة معرفيّة واضحة المعالم بل سنحصل على منظومة مشوّهة.

المشكلة أنّ هذه الثقافة باتت أسهل تناولاً لكنّها أخطر تأثيراً، ولذلك لاحظوا الآن عندما نقرأ بعض ما في هذه بغضّ النظر عن المسمّيات، سنجد أنّ هناك ثقافةً في هذه المقاطع -أنا قلت لا أعمّم- سنجد ثقافةً هي أقرب ما تكون الى الجهل منها الى الثقافة، يعني الإنسان يتربّى على حالةٍ من الجهل وحالةٍ من المبتنيات الفكريّة غير الرصينة بل فيها -كما قلت- أشياء متناقضة، اليوم تقول لك كذا وبعد شهر تقول كذا على نحو التبنّي، وبعد شهر تقول على عكسه أيضاً على نحو التبنّي، وتجعل هذا المتصفّح في حيرةٍ من ذلك.

التجاوز على حرمات الناس

ثانياً إنّ هذه الأدوات فيها تجاوزات على حرمات الناس بطريقةٍ أصبح يسهل علينا رمي الناس بكلّ التهم الموبقة -والعياذ بالله- بلا أن نفكّر أو نراجع أنفسنا أو نعي خطورة ذلك علينا، وأصبحت هذه المسائل هي التي تزكّي وهي التي تمدح وتقدح وهي التي تذمّ وتجرح بطريقةٍ في منتهى العشوائيّة، خطورة هذه الثقافة هي عبارة عن ثقافة لا أصل لها إنّما هجينة ومركّبة من خليطٍ يجعل الإنسان غير سويّ، يجعل ثقافته ثقافة مهزوزة وثقافة غير واقعيّة، ويجرّئ الناس على أن يتكلّم بعضهم على بعض بألفاظٍ نابية وألفاظ لا يستحسنها الذوق العامّ، وخرجت كثيرٌ من الأمور عن الجادّة الوسطى وأصبحت معركة للكلام النابي والتصرّفات غير اللائقة الى آخره، بل أصبح البعض يملك أكثر من مصدرٍ لهذا، لغرض إحداث جوٍّ -مثلاً- لإرباك مسألة معيّنة، خصوصاً في حرمات وثقافات وأدبيّات الناس.

كما تجدها ثقافة تفتقر لأبسط مقوّمات اللغة والفهم والكلام الذي يُسبك بشكلٍ صحيح، خرجت هذه المسألة نهائيّاً، وطبعاً كما تعلمون أنّ وجود المعلّم -ألفت نظر الإخوة أنّي أتحدّث عن الآليّات-، وجود المعلّم يقوّم الخلل الذي يُمكن أن يكون عند التلميذ، سواءً خلل اللّسان أو خلل الكتابة أو خلل الفكرة، هذه الأشياء أصبحت غير مقوّمة وإنّما تشجّع على الابتعاد عن اللّغة الأصيلة، بوجود أخطاء لغويّة، بدأت ثقافتنا الحقيقيّة تنسلخ شيئاً فشيئاً، احترام بعضنا للبعض أصبح أيضاً ينسلخ شيئاً فشيئاً، لأنّ هذا قد يستحي أن يتكلّم أمام الناس بكلامٍ نابٍ، لكن عندما يأتي الى هذا الجهاز يتكلّم كلاماً نابياً لأنّه في بعض الحالات غير معروف، فهو أمام نفسه -انتبهوا- سلخ الحياء عن نفسه، والإنسان إذا سلخ الحياء عن نفسه كما يعبّرون: (إذا كنت لا تستحي فافعلْ ما شئت).

نحن إخواني عندما نقول إنّ هذه الأمور تحتاج الى مزيدٍ من المتابعة نعني ثقافة الاستعمال، أقول هذه الأمور من حقّ الإنسان أن يطوّر وسائله المعرفيّة وهذا شيءٌ حسن وجيّد والناس استفادت كثيراً، لكن أيضاً يحتاج الى ثقافة في تناول أدوات المعرفة، هذا نوع من الأدبيّات، المشكلة أين؟ أنّ المجتمع والعرف يُمكن أن يكون مصدّاً للكثير من الانزلاقات، لكن إذا حيّدنا المجتمع وبدأ هذا يتعبّد بهذا الجهاز وما يقول له، فهذه المصدّات ستغيب عنه ويفعل ما يشاء، وبالنتيجة يوماً بعد يوم ستكون ثقافته ثقافة شوهاء عمياء عرجاء، ويدّعي أنّ هذا من صميم ثقافته، طبعاً أنا لا أتحدّث عن المخاطر الأخرى، المخاطر الأخرى اللاأخلاقيّة هذا بابٌ واسع جدّاً وعلى الجميع أن يلتفت وينتبه اليه.

نعم.. هذه مشاكل كثيرة وبعضها يجرّ الى بعض، لكن لأنّ عنوان ما قلت هو (وسائل المنظومة المعرفيّة) أجد لابُدّ من وجود ثقافة، فإنّنا حتّى في هذا الباب نحتاج الى مرشد ونحتاج الى معلّم ونحتاج الى الأب أن يوجّه ولده في كيفيّة الاستعمال، ونحتاج الأم أن توجّه ابنتها في كيفيّة الاستعمال، لا تُتركُ هذه الأمور بدعوى أنّ هذا يزيد من اطّلاعه ومن ثقافته، فهذا أمرٌ في منتهى الخطورة.

هناك ثقافةٌ مشوّهة ولعلّه بعد كم سنة نرى أشياء غير الأشياء الموجودة، وهذه كلّها تهدّد منظومتنا الفكريّة والثقافيّة بسبب سوء استخدام هذه الآليّات، الكتاب مطلوب والمعلّم مطلوب والأسرة أن تربّي مطلوبة، هذه الأمور حسنة لو أُديرت بشكلٍ جيّد، أمّا إذا أُديرت بشكلٍ عشوائيّ حقيقةً لا نسلم على ثقافتنا أبداً، بل ستكون هناك ثقافة شوهاء عرجاء عمياء، وهذا أمرٌ لا يُمكن أن يُغضّ النظرُ عنه حفاظاً على مورثنا الثقافيّ أو أصالة ثقافتنا، عموماً هذا ما يسمح به الوقت ولعلّه هناك أحاديث أخرى تتعلّق بهذا الموضوع.

نسأل الله سبحان وتعالى أن يوفّقنا وإيّاكم لخدمة أبنائنا وإخوتنا، اللهمّ أرنا في كلّ ما يتعلّق بنا وما نتعلّق به كلّ خير، اللهمّ احفظ بلادنا من كلّ سوء، اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات وتقبّل منّا ومنهم صالح الأعمال بمحمدٍ وآله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

  • النص الكامل لخطبة صلاة الجمعة بإمامة وكيل المرجعية العليا السيد أحمد الصافي ألقيت بتاريخ 03/05/2019 الموافق 27/شعبان/ 1440هـ