القصّة المفصّلة لأصحاب الكهف

بعد أن ذكرت الآيات بشكل مختصر قصّة أصحاب الكهف، بدأت الآن مرحلة الشرح المفصّل لها ضمن (١٤) آية و كان المنطلق في ذلك قوله تعالی:

‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ‌ كلام خال من أي شكل من أشكال الخرافة و التزوير. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدیً‌. و كما قلنا فإنّ (فتية) جمع‌ (فتی) و هي تعني الشاب الحدث. و بما أنّ الجسم يكون قويا في مرحلة الشباب، فهو علی استعداد لقبول نور الحق، و منبع للحب و السخاء و العفة. و لذا كثيرا ما تستخدم كلمة (الفتی و الفتوة) للتدليل علی مجموع هذه الصفات حتی لو كان أصحابها من المسنيّن.

‏و تشير الآيات القرآنية- و ما هو ثابت في التأريخ- إلی أنّ أصحاب الكهف كانوا يعيشون في بيئة فاسدة و زمان شاعت فيه عبادة الأصنام و الكفر، و كانت هناك حكومة ظالمة تحتمي مظاهر الشرك و الكفر و الانحراف.

‏مجموعة أهل الكهف- الذين كانوا علی مستوی من العقل و الصدق- أحسّوا بالفساد و قرروا القيام ضدّ هذا المجتمع، و في حال عدم تمكنهم من المواجهة و التغيير فإنّهم سيهجرون هذا المجتمع و المحيط الفاسد.

‏لذا يقول القرآن بعد البحث السابق: وَ رَبَطْنا عَلی‌ قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً.

‏فإذا عبدنا غيره: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.

‏نستفيد من تعبير رَبَطْنا عَلی‌ قُلُوبِهِمْ‌ أنّ بذرة التوحيد و فكرته كانت منذ البداية مرتكزة في قلوبهم، إلّا أنّهم لم تكن لديهم القدرة علی إظهارها و التجاهر بها. و لكن اللّه بتقوية قلوبهم أعطاهم القدرة علی أن ينهضوا و يعلنوا علانية نداء التوحيد.

‏و ليس من الواضح فيما إذا كان هذا الإعلان قد تمّ أوّلا أمام ملك زمانهم الظالم (دقيانوس) أو أنّه تمّ أمام الناس، أو أمام الاثنين معا (الحاكم الظالم و الناس) أو أنّهم تجاهروا به فيما بينهم أنفسهم؟

‏لكن يظهر من كلمة (قاموا) أنّ إعلانهم كان وسط الناس، أو أمام السلطان الظالم.

‏(شطط) علی وزن (وسط) تعني الخروج عن الحد و الإفراط في الابتعاد لذا فإنّ (شطط) تقال للكلام البعيد عن الحق، و يقال لحواشي و ضفاف الأنهار الكبيرة (شط) لكونها بعيدة عن الماء، و كونها ذات جدران مرتفعة.

‏و في الواقع، إنّ هؤلاء الفتية المؤمنين ذكروا دليلا واضحا لإثبات التوحيد و نفي الآلهة. و هو قولهم: إنّنا نری و بوضوح أنّ لهذه السماوات و الأرض خالقا واحدا، و أنّ نظام الخلق دليل علی وجوده، و ما نحن إلّا جزء من هذا الوجود، لذا فإنّ ربّنا هو نفسه ربّ السماوات و الأرض.

‏ثمّ ذكروا دليلا آخر و هو: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.

‏فهل يمكن الإعتقاد بشي‌ء بدون دليل و برهان؟: لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ‌.

‏و هل يمكن أن يكون الظن أو التقليد الأعمی دليلا علی مثل هذا الإعتقاد؟

‏ما هذا الظلم الفاحش و الانحراف الكبير:فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَری‌ عَلَی اللَّـهِ كَذِباً.

‏و هذا الافتراء هو ظلم للنفس، لأنّ الإنسان يستسلم حينئذ لأسباب السقوط و الشقاء، و هو أيضا ظلم بحق المجتمع الذي تسري فيه هذه الانحرافات، و أخيرا هو ظلم للّه و تعرض لمقامه العظيم سبحانه و تعالی.

‏هؤلاء الفتية الموحدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب الناس، و زرع غرسة التوحيد في مكانها، إلّا أنّ ضجة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد، و ظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدّة بحيث حبستا أنفاس عبادة اللّه في صدورهم و انكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم.

‏و هكذا اضطروا للهجرة لانقاذ أنفسهم و الحصول علی محيط أكثر استعدادا و قد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثمّ كان قرارهم: وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ فَأْوُوا إِلَی الْكَهْفِ‌. حتی: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً.

‏«يهيّئ» مشتقة من «تهيئة» بمعنی الإعداد. «مرفق» تعني الوسيلة التي تكون سببا للطف و الرفق و الراحة، و بذا يكون معنی الجملة وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً أنّ الخالق سبحانه و تعالی سيرتب لكم وسيلة للرفق و الراحة.

‏و ليس من المستبعد أن يكون (نشر الرحمة) الوارد في الجملة الأولی إشارة إلی الألطاف المعنوية للّه تبارك و تعالی، في حين أنّ الجملة الثّانية تشير إلی الجوانب المادية التي تؤدي إلی خلاصهم و نجاتهم.

‏ملاحظات‌

‏١- الفتوة و الإيمان‌

‏تتزامن روح التوحيد دائما مع سلسلة من الصفات الإنسانية العالية، فهي تنبع منها و تؤثّر فيها أيضا، و يكون التأثير فيما بينهما متبادلا. و لهذا السبب فإننا نقرأ في قصّة أصحاب الكهف أنّهم كانوا فتية آمنوا بربّهم.

‏و علی هذا الأساس قال بعض العلماء: رأس الفتوة الإيمان.

‏و قال البعض الآخر منهم: الفتوة بذل الندی، و كف الأذی، و ترك الشكوی.

‏و البعض الثّالث فسّر الفتوة بقوله: هي اجتناب المحارم و استعمال المكارم.

‏٢- الإيمان و الإمداد الإلهي‌

‏في عدّة مواقع من الآيات أعلاه تنعكس بوضوح حقيقة الإمداد الإلهي للمؤمنين، فإذا وضع الإنسان خطواته في طريق اللّه، و نهض لأجله فإنّ الإمداد الإلهي سيشمله، ففي مكان تقول الآية: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدیً‌.

‏و فی مكان آخر تقول: وَ رَبَطْنا عَلی‌ قُلُوبِهِمْ‌. و في نهاية الآيات كانوا بانتظار رحمة الخالق:يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ‌. الآيات القرآنية الأخری تؤيد هذه الحقيقة بوضوح، فعند ما يجاهد الإنسان من أجل اللّه، فإنّ اللّه يهديه إلی طريق الحق: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا

[العنكبوت، الآية الأخيرة.]

١ و في سورة محمّد صلّی اللّه عليه و آله و سلّم آية (١٧) نقرأ قوله تعالی: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدیً‌.

‏إنّ طريق الحق ملي‌ء بالموانع و الصعوبات، و من العسير علی الإنسان طي هذا الطريق و الوصول إلی الأهداف من دون لطف اللّه و عنايته.

‏و نعلم أيضا إنّ لطف اللّه أكبر من أن يترك العبد في طريق الحق لوحده.

‏٣- ملجأ باسم الغار

‏إنّ وجود (أل) التعريف في كلمة «الكهف» قد تكون إشارة إلی أنّهم (أصحاب الكهف) كانوا مصممين علی الذهاب إلی مكان معين في حال عدم نجاح دعوتهم التوحيدية، و ذلك لإنقاذ أنفسهم من ذلك المحيط الملوّث.

‏(الكهف) كلمة ذات مفهوم واسع، و تذكرنا بنمط الحياة الابتدائية للإنسان، حيث ينعدم فيه الضوء، و لياليه مظلمة و باردة، و تذكرنا بآلام المحرومين، إذ ليس ثمّة شي‌ء من زينة الحياة المادية، أو الحياة الناعمة المرفّهة.

‏و يتّضح الأمر أكثر إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أنّ التأريخ ينقل لنا أنّ أصحاب الكهف كانوا من الوزراء و أصحاب المناصب الكبيرة داخل الحكم. و قد نهضوا ضدّ الحاكم و ضدّ مذهبه، و كان اختيار حياة الكهوف علی هذه الحياة قرارا يحتاج إلی المزيد من الشهامة و الهمّة و الروح و الإيمان العالي.

‏و في هذا الغار البارد المظلم الذي قد يتضّمن خطر الحيوانات المؤذية، هناك عالم من النور و الإخلاص و التوحيد و المعاني السامية.

‏إنّ خطوط الرحمة الإلهية متجلية علی جدران هذا الغار، و أمواج لطف‌ الخالق تسبح في فضائه، ليس هناك وجود للأصنام من أي نوع كانت، و لا يصل طوفان ظلم الجبارين إلی هذا الكهف.

‏هؤلاء الفتية الموحدون تركوا الدنيا الملوثة الواسعة و التي كان سجنا لأرواحهم و ذهبوا إلی غار مظلم جاف. و فعلهم هذا يشبه فعل النّبي يوسف عليه السّلام حين أصروا عليه أن يستسلم لشهوة امرأة العزيز الجميلة، و إلّا فالسجن الموحش المظلم سيكون في انتظاره، لكن هذا الضغط زاد في صموده و قال متوجها إلی ربّه العظيم: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ‌٢.

*مقتطف من تفسير الأمثل

الهوامش:

‏١ العنكبوت، الآية الأخيرة.

‏٢ يوسف، ٣٣