هل قصة سفينة نوح خرافة؟ وكيف استوعبت أعداد هائلة من الحيوانات؟!

لا يخفى أنّ الإشكال المذكور مبني على أنّ نبي الله نوحاً (عليه السلام) قد اصطحب معه في سفينته اثنين من كل زوجين من حيوانات الأرض – كما ذهب إليه جملةٌ من المفسرين – استظهاراً من قوله تعالى: {حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِیهَا مِن كُل زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَاۤ ءَامَنَ مَعَهُۥۤ إِلَّا قَلِیل} بضميمة ما جاء في الكتب السماوية السابقة أو الروايات الشريفة من تفسير الزوجين بالزوجين من الحيوانات، وإلا فإنّ نفس الآية لا صراحة لها في ذلك، وإن كان قد يُتوصل إليه من خلال أداة العموم.

ولكنّ الصحيح أنّ هذا الاستظهار مما لا مجال له إلا أن نكون بمعزل عن بيانات الراسخين في العلم (عليهم السلام) الذين هم عدل القرآن والثقل الثاني ولسان الله الناطق، وأما بعد الرجوع إلى بياناتهم من خلال الروايات الواردة عنهم – إذ لا سبيل لفهم مشكلات القرآن وغوامض آياته إلا منهم (عليهم السلام) – فإنه يتضح أنّ مفردة (كل زوجين) في الآية المذكورة لا يراد بها زوجان من كل أجناس الحيوانات، بل يراد بها زوجان من أجناس معهودة ومحددة، وهي التي تتكفل بمعيشة مَن بقيَ مِن قوم نوح (عليه السلام) واستمرار حياتهم بعد انتهاء الطوفان.

وهذا ما ورد صريحاً في خبر العيّاشي بسنده عن إسماعيل الجعفي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ” صنعها في مائة سنة، ثم أمره أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين الأزواجَ الثمانية الحلال التي خرج بها آدم من الجنة، ليكون معيشة لعقب نوح في الأرض، كما عاش عقب آدم، فإنّ الأرض تغرق وما فيها إلا ما كان معه في السفينة.

فحمل نوح في السفينة من الأزواج الثمانية التي قال الله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين. . ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) ”.

والمتحصّل من هذا الحديث: أنّ هنالك ثلاث آيات قرآنية مترابطة، وهي:

قوله تعالى: {قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِیهَا مِن كُلࣲّ زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ}.

وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲۚ}.

وقوله تعالى: {ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَیۡنِۗ … وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَیۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَیۡنِۗ قُلۡ ءَاۤلذَّكَرَیۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَیَیۡن}.

وبيانُ وجه ترابط هذه الآيات الثلاث – على ضوء الرواية الشريفة المتقدمة وأمثالها – هو: أنّ المراد بالزوجين في الآية الأولى ليس الأزواج من مطلق أجناس الحيوانات، بل خصوص الأزواج الثمانية المعهودة المذكورة في الآية الثانية، والتي بها قوام المعيشة، وهي زوجان من الضأن وآخران من المعز ومثلهما من الإبل وكذلك من البقر، كما جاء بيانه في الآية الثالثة.

وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني بالنتيجة: أنّ ما حمله نبي الله نوح (عليه السلام) في سفينته لا يتجاوز ستة عشر حيواناً فقط، وقد تزيد قليلاً طبقاً لما تشير إليه بعض الروايات الأخرى، وبهذا البيان المستفاد من روايات العترة الطاهرة يسقط الإشكال من أساسه.

وإن أبى شخصٌ عن قبول هذا البيان للتشكيك في اعتبار الرواية المذكورة، فلنا أن نجيبه ببيانٍ آخر يفضي بنا إلى نفس النتيجة، وتوضيحه:

أنّ عموم العام قابل للتخصيص بكل ما يدل على التخصيص من القرائن، ولو كان من القرائن الخارجية، فمثلاً: لو أراد شخص أن يسافر بسيارته، فالتفت إلى ولده وقال له: (احمل معنا فيها من كل زوجين اثنين) فإنه لا ينصرف ذهن أحد إلى أنّ المراد بكل زوجين في كلامه: كلُّ زوجين من كل شيء في الدنيا، فإنّ القرينة الخارجية – وهي: عدم استيعاب السيارة لكل ذلك – تمنع من الانصراف المذكور، وتوجب تخصيص عموم العبارة المذكورة بالزوجين من كل شيء متوفر في البيت – مثلاً – أو مما يحتاجانه في السفر – كما هو مقتضى القرينة الحالية – ونحو ذلك من المحتملات.

وهكذا يُقال في المقام، فإنّ الآية المباركة – محل الاستشهاد – وإن كان لسانها لسان العموم، ولكنها مخصصة بالقرينة الخارجية، وهي عدم استيعاب السفينة لاثنين من الأزواج من كل أجناس الحيوانات، وبالتالي فلا ينصرف ذهنُ أحدٍ إلى ما انصرف إليه ذهن المستشكل أو صاحب الشبهة من إرادة اثنين من كل أزواج حيوانات الأرض وبالأرقام المذكورة في السؤال، لمنع القرينة المذكورة من هذا الاحتمال، وإيجابها تخصيص عموم الآية بخصوص الأزواج التي يحتاجها نبي الله نوح (عليه السلام) ومَن معه في الطوفان وبعده، أو بالأزواج التي كانت متاحة له في حدود المنطقة التي كان يعيش فيها ؛ إذ أنّ جمع جميع أزواج الحيوانات من كل بقاع الأرض وأطرافها يتطلب خرق العادة، ولا دليل على أنّ نبي الله نوحاً (عليه السلام) قد استفاد من الإعجاز أو الولاء التكويني في قضيته، ومقتضى كونه قد جمع الأزواج بشكل اعتيادي أنه جمع ما يتيسر له من الأزواج التي كانت متوفرة بين يديه حينها.

والحاصل: فإنّ القرينة الخارجية تقضي بتخصيص عموم الآية الكريمة إما بأزواج الحيوانات محل حاجة النبي وأتباعه أو بأزواج الحيوانات المتاح لهم جمعها، وعلى كلا التقديرين فإنّ هذا المقدار من الأزواج ليس مما يمتنع حمله في سفينة كبيرة.

هامش:

قِصَّةُ نُوحٍ هِيَ مِنْ إِحْدَى القَصَصِ المَلْحَمِيَّةِ المَلِيئَةِ بِالمُغَالَطَاتِ المَنْطِقِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الوَاضِحَةِ، مُخْتَصَرُ القِصَّةِ أنَّ قَوْمَ نُوحٍ عَصَوا اللهَ فَأمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أنْ يَبْنِيَ سَفِينَةً فِي الصَّحْرَاءِ بِشَكْلٍ مُعَيَّنٍ وَيَخْتَبِئَ هُوَ وَحَيَوَانَاتُ الأرْضِ بِدَاخِلِهَا إِلَى حِينِ انْتِهَاءِ عِقَابِ اللهِ. أَوَّلًا: هُنَاكَ مَا بَيْنَ 10.000.000 إِلَى 100.000.000 فَصِيلَةٍ مِنْ الحَيَوَانَاتِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَبِمَا أنَّ اللهَ أمَرَهُ أنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فَهَذَا يَعْنِي أنَّهُ أخَذَ مَعَهُ مَا بَيْنَ 20.000.000 وَ 200.000.000 حَيَوَانٍ، هَلْ تُقِرُّ بِمَنْطِقِيَّةِ هَذَا الكَلَامِ؟ ثَانِيًا: مَاذَا عَنْ الدَّيْنَاصُورَاتِ؟ هُنَاكَ مَا بَيْنَ 300 إِلَى 550 فَصِيلَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ الدَّيْنَاصُورَاتِ، هَلْ أخَذَ نُوحٌ مَعَهُ زَوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ فَصِيلَةٍ؟ هَلْ تَدُرِكُ المَسَاحَةَ المَطْلُوبَةَ لِحَشْرِ 1100 دَيْنَاصُورٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ؟ ثَالِثًا: هُنَاكَ 25.000 فَصِيلَةٍ مِنْ الفَرَاشَاتِ، 10.000 فَصِيلَةٍ مِنْ الطُّيُورِ، وَحَوَالَيْ 5.000 فَصِيلَةٍ مِنْ الخَنَافِسِ.. هَلْ أخَذَ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أيْضًا؟ رَابِعًا: هَلْ أخَذَ مَعَهُ النَّمْلَ؟ الذُّبَابَ؟ الصَّرَاصِيرَ؟ النَّامُوسَ؟ الفِئْرَانَ؟ خَامِسًا: هَنْدَسِيًّا، هَلْ يُمْكِنُ أنْ تَتَحَمَّلَ سَفِينَةٌ مَصْنُوعَةٌ مِنْ الخَشَبِ هَذَا الكَمَّ الهَائِلَ مِنْ الحَيَوَانَاتِ وَالدَّيْنَاصُورَاتِ؟