في الجنة أم في النار: ما مصير النصارى واليهود يوم القيامة؟!

ينبغي علينا أولاً التطرّق الى النصوص القرآنية المشار اليها كاملةً قبل بسط الكلام في معناها وتفسيرها، وهي كما يلي:

1- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» [1].

2- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» [2].

3- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» [3].

يمكن التصور أول وهلة أن هذه الآيات الشريفة بصدد إثبات أن أتباع تلك الأديان يفلحون برضا الله جلّ وعلا إن هم حافظوا على إيمانهم بالله واليوم الآخر وواظبوا على أداء الأعمال الصالحة، ما يعني أن أديانهم لم تنسخ بعد حتى مع مجيء الاسلام، بل كل واحد منها يمثل سبيلاً الى الله تعالى، وبوسع الإنسان سلوك أي واحدٍ من تلك السبل المتعددة ليصل اليه تعالى ولا يتعين عليه اتبّاع شريعة بعينها كالإسلام مثلاً.  هذا ما يكرره من لا يمتلك من القرآن إلا معلومات سطحية.

لكن ينبغي الالتفات الى أن أساس تفسير آيةٍ ما لا يبتني على النظر اليها بمفردها وبمعزلٍ عن باقي الآيات القرآنية، بل لا بدّ من الرجوع الى شأن نزول تلك الآية والأخذ بنظر الاعتبار الآيات السابقة والتالية لها، بل يجب أخذ كافة الآيات القرآنية بالحسبان.

واذا كان من الصحيح البقاء على الأديان السماوية السابقة للإسلام -ففضلاً عن لغوية تشريع دينٍ جديدٍ باسم الإسلام- تنتفي الغاية من إرسال النبي (ص) مكاتيب الى ملوك زمانه وأمراء عصره وبعث الرسل إليهم لدعوتهم الى الدين الاسلامي الحنيف، معتبراً دينه ديناً عالمياً وشريعته شريعةً خاتمةً للشرائع.

إن كتب النبي (ص) ودعواته المتواصلة وجهاد المسلمين المضني لأهل الكتاب في عصر النبي (ص) وبعده وما وصلنا من أحاديث مستفيضة عن أئمة أهل البيت (ع) في هذا المجال، تكشف جميعاً عن أن ظهور الاسلام ختم ما قبله من الأديان، ولم يعد هناك رسالة سوى الرسالة الاسلامية ونبوة غير نبوة النبي محمد (ص).

أما الآن فيجب استجلاء الهدف من نزول تلك الآيات القرآنية، وهي في الحقيقة تبيّن حقيقتين، الأولى إجمالية والأخرى تفصيلية:

1- إن كان اليهود والنصارى يؤمنون بالله والقيامة حقاً ولا يراؤون في تدينهم، يلزم عليهم الايمان بنبوة نبي الاسلام النبي محمد (ص) وفقاً لما جاء في كتبهم من توراة وإنجيل وغيرها؛ لأنها بشّرت بظهوره وذكرت علامات ذلك حتى أنهم صاروا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [4].

والطريف أن القرآن الكريم أوضح هذه الحقيقة في سورة المائدة قبل الآية المذكورة آنفاً فقال تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكمْ مِنْ رَبِّكمْ» [5].

فالمقصود بإقامة هذه الكتب السماوية العمل بمحتوياتها، وأحد محتوياتها نبوة النبي محمد (ص) ورسالته العالمية التي طالما ذكرها القرآن الكريم.  ولو كان أولئك يؤمنون بالله واليوم الآخر بحقٍّ لكان عليهم الإيمان بالرسالة النبوية التي تعتبر جزءاً من التعاليم الالهية في كتب العهدين، وفي هذه الحالة يصبحون من المسلمين بلا شك ويؤجرون على اتّباعهم تعاليم النبي (ص).

وباختصار: لا ينفك الايمان بالله تعالى واليوم الآخر عن الايمان بالكتب السماوية المساوق للإيمان بنبوة خاتم الأنبياء الرسل؛ ومن يؤمن بذلك يغدو مسلماً ولا يمكنه البقاء على المسيحية.

2- مع الأخذ بنظر الاعتبار الآيات السابقة للآية المذكورة من سورة البقرة يتضح أن هذه الآية تتعلق بتلك الفئة من الناس الذين كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر في عصر الأنبياء السالفين ويسيرون في ضوء تعاليمهم، في مقابل من زاغ عن جادّة الصواب وأخذ بعبادة العجل حتى بلغت بهم الجرأة أن يقولوا للنبي موسى (ع) وبكل صراحة: «يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» [6].  ونتيجة لهذا السلوك الشائن شملهم الغضب الالهي فقال تعالى : «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِك بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِك بِمَا عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» [7].

فلأجل أن يبين الله تعالى أن حساب من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من أهل الكتاب يختلف عن غيرهم وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أنزل تلك الآيات على نبيه الكريم (ص).

وفي هذه الحالة لا تشمل الآيات الآنفة من يعيش في عصر الرسالة النبوية، بل تقتصر على من تتوفر فيه الشروط المذكورة من أهل الكتاب ممن كان موجوداً قبل البعثة النبوية الشريفة.

ومن ناحية أخرى فان شأن نزول الآية يلعب دوراً أكبر في معرفة المراد منها؛ فبعد نزول القرآن وبعثة نبي الرحمة (ص) تساءل بعض المسلمين عن أجدادهم الذين كانوا يعتنقون ديناً آخر بعد أن علموا أن الاسلام هو الدين الحقّ وطريق النجاة الأوحد!

هنالك نزلت هذه الآية الشريفة لتعلن أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ونبي زمانه وعمل صالحاً هو من أهل النجاة والفلاح ولا بأس عليه.

لما أسلم سلمان على يدي النبي (ص) تحدث له عن رفاقه من الرهبان في دير الموصل فقال له: كان جميع الرهبان هناك ينتظرون بعثتك لكنهم توفوا قبل وقوعها، فقال له أحد الحاضرين في المجلس: أولئك من أهل النار.  فاغتمّ سلمان من ذلك، فنزلت تلك الآية الشريفة على النبي (ص) موضحةً أن من آمن بالأديان السابقة ايماناً حقيقياً لا خوف عليه من دخول النار، وان لم يدرك عصر الرسالة النبوية.

وباختصار: من عاش قبل الاسلام وآمن بالدين الموجود آنذاك ايماناً راسخاً سينجو من أهوال يوم القيامة، وعليه لا تمتّ الآية بصلةٍ الى القول بأن أتباع كافة الأديان الأخرى سينجون يوم القيامة، وهكذا تفسير يعكس مدى الجهل بمفاد هذه الآية والآيات الأخرى ذات الصلة.

وبقطع النظر عن كل ذلك، فان الآية الثالثة (الآية 17 من سورة الحج) لا ترتبط من قريب أو من بعيد بادعاءٍ كهذا؛ فلا تدلّ على أكثر من أن الله تعالى يفصل بين أتباع الديانات المختلفة يوم القيامة، ولا دلالة فيه على نجاة معتنقي جميع الأديان إذ ذاك [8].

الهوامش:

[1] البقرة :62.

[2] المائدة :69.

[3] الحج :17.

[4] انظر: البقرة /146 والأنعام/ 20.

[5] المائدة :68.

[6] البقرة: 55.

[7] البقرة: 61.

[8] لمزيد من الايضاح يرجى مراجعة "التفسير الأمثل في كتاب الله المنزّل" لسماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي.