الحسين (ع) موقفٌ.. لا شعار

أيّها الإخوة والأخوات سلامٌ عليكم جميعاً من ربٍّ رحيمٍ غفورٍ ورحمةٌ منه وبركات، ما زلنا في الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في الخطبة السابقة، وهو: ماذا يجب علينا أن نتعلّمه من الحركة الإصلاحيّة للإمام الحسين (عليه السلام)؟ وماذا يريد منّا الإمام الحسين (عليه السلام) في عصرنا هذا؟ وماذا تريد منّا كربلاء برمزيّتها الحسينيّة؟ وكيف نكون حسينيّين حقّاً في هذا العصر؟ ونحن أجبنا عن بعض ما يجب علينا أن نتعلّمه. فذكرنا أوّل الأمر وأهمّه وهو الشعور بالمسؤوليّة، والشعور بالمسؤوليّة على أنواع، من جملتها الشعور بمسؤوليّة الوعي الثقافي والاجتماعي، ومسؤوليّة الكلمة، ما الذي نقصده بالوعي الثقافي والوعي الاجتماعي ومسؤوليّة الكلمة؟

نعني بالوعي الثقافي أن يتسلّح الحسينيّ -لاحظوا إخواني عندنا مؤمنٌ وعندنا مؤمنٌ حسينيّ- أن يتسلّح المؤمنُ الحسينيّ في عصرنا هذا بسلاح المعرفة الفقهيّة والثقافة الإسلاميّة التربويّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة وجميع مناهج الإسلام، ولا يقتصر في معارفه وثقافاته على المعارف والثقافات الأكاديميّة التخصّصيّة والثقافات العامّة، نجد البعض يهتمّ ويصرف كلّ جهده ووقته وأفكاره في تحصيل المعارف الأكاديميّة التخصّصيّة، وهذه وإن كانت مهمّة كالمعارف الطبيّة والهندسيّة والكيميائيّة والفيزيائيّة والاجتماعيّة والتربويّة الاقتصاديّة المعاصرة، نعم.. هي مهمّة في حياتنا، ولكن ذلك لا يكفي لكي نبصر الموقف الحسينيّ المطلوب في عصرنا هذا، كيف نجسّد مبادئ النهضة الحسينيّة في عصرنا هذا؟ لابُدّ أن يتسلّح المؤمن الحسينيّ بالمعرفة الفقهيّة وثقافات الإسلام، في الإسلام ثقافة تربويّة وثقافة اجتماعيّة وثقافة روحيّة وثقافة سياسيّة في كلّ مجالات الحياة، لأنّ هذه الثقافات هي المفتاح لبصيرة القلب، عندنا بصرٌ نرى به الأشياء وحقائق الأشياء، فلابُدّ أن يكون لدينا قلبٌ لنرى بعين البصيرة ما هو المطلوب منّا من الموقف الحسينيّ بالاتّجاه الذي نعيشه وفي المجتمع الذي نعيشه، ولابُدّ أن يكون هناك اهتمامٌ أيضاً بأن يتسلّح المؤمنُ الحسينيّ بالثقافة والمعرفة الفقهيّة وغير ذلك من ثقافات الإسلام، هذا أوّلاً.

وأن تكون لديه ثقافاتٌ معاصرة وإلمامٌ بالثقافات المعاصرة، وأن يكون لديه إلمام بأوضاع مجتمعِهِ، فليس من الصحيح أن يكون اهتمام المؤمن الحسينيّ بنفسه فقط، بل يحاول أن يتعرّف على ما هو مطلوبٌ منه من علوم بنفسه وخاصّته، بل لابُدّ أن يكون لديه إلمام بأوضاع مجتمعه ولو إلماماً إجماليّاً، وأن يأخذ -وهذه النقطة مهمّة- هذه المعرفة الفقهيّة والثقافة الإسلاميّة أن يأخذها من منابعها الصحيحة التي حدّدها أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، حينئذٍ تكونُ لدينا البصيرة في أمور ديننا.

من الأمور المهمّة التي أوصلت أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) أن يقفوا الى جانبه مع أنّ الكثرة الكاثرة خذلت الإمام الحسين(عليه السلام)، من جملة الأسباب أنّ هؤلاء كانت لديهم البصيرة، كما عُبِّر عنهم من أعدائهم بـ"أصحاب البصائر".

لذلك ورد في الحديث: (تفقّهوا في دين الله فإنّه مفتاحُ البصيرة وتمامُ العبادة والسببُ الى المنازل الرفيعة والمراتب الجليلة) التفقّه في دين الله، مع أنّ التفقّه هنا هو الفهم الصحيح والواعي والعميق لثقافات الإسلام المتعدّدة، حينئذٍ يستطيع الإنسان على ضوء هذه الثقافات والمعرفة ومن منابعها، -نؤكّد على ذلك- أحياناً لدينا مؤمن يصلّي ويصوم ومتديّن ولكنه لا يأخذ هذه المعارف من منابعها الصحيحة ويتوهّم أنّ فلاناً وفلاناً ربّما هم منابع هذه المعرفة، فيضلّ ويُخطئ الطريق الصحيح، فلابُدّ أن تكون لديه المعرفة الصحيحة، أنا أصرف سنين من عمري وأبذل كلّ جهدي في تحصيل علوم الطبّ والفيزياء والكيمياء والهندسة والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك من الأمور، وهي مهمّة في حياتنا ونوليها الاهتمام، ولكن في نفس الوقت علينا أن نولي اهتماماً عظيماً بمعارف الفقه والثقافات الإسلاميّة، حتى تكون لديّ البصيرة والمعرفة بالموقف الصحيح الذي يجب أن أتّخذه حينما يمرّ مجتمعي بالمخاطر وغير ذلك من هذه الأمور.

الوعي الاجتماعي: هناك وعي ثقافي ووعي اجتماعي ما المقصود بالوعي الاجتماعي؟ هو أن يعي الإنسان المؤمن ما هي مسؤوليّاته تجاه مجتمعه الذي يُحيط به، مسؤوليّاته تجاه أسرته تجاه عشيرته تجاه زملائه في العمل تجاه مجتمعه، كثيرٌ من الناس همّه نفسه فقط لا يستشعر المسؤوليّة تجاه المجتمع الذي يحيط به، ابتداءً من الأسرة -المجتمع الصغير- ثمّ العشيرة -المجتمع الأكبر- ثمّ زملاء العمل ثمّ المجتمع الأكبر الذي يُحيط به.

الوعي الاجتماعي الحسينيّ أن يكون لديّ وعيٌ بطبيعة المسؤوليّة تجاه مجتمعي، فإذا ما رأيت انحرافاً في مجتمعي ثقافيّاً أو أخلاقيّاً أو سلوكيّاً أو غير ذلك من هذه الانحرافات عليّ أن لا أكون متفرّجا أمامها، بل لابُدّ أن يكون لديّ اطّلاع وإلمام بطبيعة المخاطر والمشاكل والأزمات التي يمرّ بها المجتمع، وأحاول بالتعاون مع الآخرين أن أضع لها الحلول من خلال العلم والمعرفة الصحيحة، لابُدّ أن يكون الطريق هو العلم والمعرفة الصحيحة وإلّا فالجهل يعقّد المشاكل ويؤزّم الأزمات أكثر، العلم هو الذي يشعّ بأنوار الحلول للمشاكل والأزمات المستعصية، وهذه لابُدّ أن تؤخذ من منابعها الصحيحة.

وأمّا مسؤوليّة الكلمة أيضاً نلتفت اليها، -إخواني وأخواتي- الكلامُ سلاح الأنبياء والمصلحين في هداية الناس وإرشادهم الى الطريق الصحيح، لاحظوا الآن كلمات الإمام الحسين(عليه السلام) كيف أنّها على مرّ العصور والأزمنة منهاجُ الاصلاح للفرد والمجتمع، الأنبياء كانوا يستعملون سلاح الكلام والكلمة، ولكنّ هذا الكلام والكلمة إذا ما أُسيء استخدامُهُ أصبح وسيلةً للفتن والأحقاد والصراعات بين أفراد المجتمع، وأصبح محطّماً للفرد والمجتمع، لذلك على الإنسان المؤمن الحسينيّ أن يعي أنّ عليه مسؤوليّة الكلمة ومسؤوليّة الدعوة الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة من خلال الكلام، مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الكلام وفق الشروط المطلوبة، مسؤوليّة مواجهة الفساد والانحراف الأخلاقي والسلوكيّ في المجتمع بالكلمة أيضاً، وغير ذلك من هذه الأمور التي يمرّ بها المجتمع.

فلذلك نجد أنّ الذين اتّبعوا مبادئ الإمام الحسين(عليه السلام) بعد الإمام الحسين -لاحظوا- الكلمة والكلام هي التي أيقظت الأمّة الإسلاميّة، من خلال خطب الإمام زين العابدين(عليه السلام) وخطب السيّدة زينب، هذه الكلمة لها هذا التأثير، فالمؤمنُ الحسينيّ والمؤمنةُ الحسينيّة هي التي تعرف ما هو الكلام الذي ينبغي أن تتَكلّم به في مواجهة الفساد والانحراف في داخل المجتمع، وغير ذلك من هذه المسائل، وأن لا يقف المؤمن الحسينيّ ساكتاً أمام حالات الانحراف في مجتمعه، بل لديه الكلمة التي يدعو بها الى الله تعالى ويوعّي المجتمع بالمعرفة الفقهيّة والثقافات الإسلاميّة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وفق شرائطه، وغير ذلك من الأمور التي تُصلح مسيرة المجتمع.

أيضاً هناك مسؤوليّةٌ أخرى هي مسؤوليّة الموقف فلننتبه اليها، إخواني لندرس جيّداً مسيرة النهضة الحسينيّة وطبيعة شخصيّة الذين وقفوا مع الإمام الحسين(عليه السلام) والذين خذلوا الإمام الحسين(عليه السلام)، نجد أنّ جوهر تعلّمنا النهضة الحسينيّة أنّ الإسلام ليس مجرّد عبادات وطقوس تؤدّى، وليس مجرّد شعارات تُرفع وليس مجرّد هتافات تصدح بها الحناجر، بل الإسلامُ الحسينيّ الصادق موقفٌ يقفُه المؤمن إذا ما واجهت الأمّةُ خطر الانحراف، وإذا ما داهمت الأمّةَ عواصفُ التضليل والتجهيل والخطر على الأمّة الإسلاميّة.

إخواني ادرسوا بدقّةٍ هناك الكثير من الشخصيّات الإسلاميّة التي كانت لها غزارةٌ في العلم، وسنيّ عمرها مليئةٌ بالتعبّد والتهجّد والذكر لله تعالى، لكنّه حينما داهم الخطرُ الإسلامَ والأمّة الإسلاميّة بالانحراف والضلال الذي كان يهدّد الأمّة الإسلاميّة، انكفأت تلك الشخصيّات في زوايا بيوتهم ووقفوا على التلّ يتفرّجون ولم يكن لهم موقفٌ ينصرون به الإمام(عليه السلام)، وهؤلاء ما الذي نستفيده من قول الإمام(عليه السلام): (من لحق بنا فقد استُشهِد ومن لم يلحق بنا لم يدرك الفتح)، ومن خلال دراسة سيرة أولئك الذين خذلوا الإمام(عليه السلام) نعرف أنّ الإسلام والمبادئ الإسلاميّة والنهضة الحسينيّة تعني أنّ الإنسان الحسينيّ ليس مجرّد أن يؤدّي هذه العبادات والطقوس وليس مجرّد أن يرفع شعارات تصدح بها الحناجر، بل الإسلام والنهضة الحسينيّة موقفٌ يقفُهُ الإنسان إذا ما داهم الإسلام خطرٌ عظيم.

لذلك مَنْ وقف تلك الوقفة الشجاعة والمضحّية أمام خطر عصابات داعش وضحّى بنفسه أو بذل ماله، ذلك هو الذي ترجم مبادئ النهضة الحسينيّة، أمّا الذي يقف في مثل هذه الانعطافات الخطرة والحسّاسة موقفَ المتفرّج ويؤثر سلامة دنياه وسلامة نفسه وأهله وماله على سلامة دينه ومقدّساته وأعراض مواطنيه، فإنّه مهما كانت له من العبادات ومهما كان له من الذِّكر في الواقع لا يمثّل المنهج الحسينيّ الصادق، لذلك لابدّ للإنسان أن يعي ما هي تلك المبادئ للنهضة الحسينيّة وكيف يكون الإنسان حسينيّاً حقّاً.

*النص الكامل للخطبة الأولى من صلاة يوم الجمعة (28/9/2018)