من وجهة نظر إسلامية... أيهما الأفضل: بناء مستشفى أم الصرف على مآتم الإمام الحسين (ع)؟!

لا ينصرم يوم الا ونسمع او نقرأ تساؤلات حول قيمة هذا العمل او ذاك، كقول بعضهم: أليس الأجدى والأنفع تزويج الشباب من إنفاق المال في الحج؟!

او قول غيرهم: لو تم صرف الأموال المخصصة لبناء المساجد والحسينيات في سد حوائج الفقراء والمساكين ألم يكن أرضى لله ولرسوله؟!

او قول آخرين: لماذا هذا الصرف على مآتم الحسين، واطعام الزائرين، فلو صُرفت هذه الأموال في بناء المدارس والمستشفيات ألم يكن أفضل؟!

بل قد ينجر هذا البحث الى تساؤلات تمس صميم عقيدة المسلم، كقولهم: لماذا هدم النبي أوثان المشركين ولم يحتفظ بها كشاهد على طريقة تفكير جيل من الناس؟ ولماذا لم يهادن أمير المؤمنين معاوية حتى تقوى شوكته ثم بعد ذلك يعزله؟ لماذا لم يبادر مسلم بن عقيل الى قتل ابن زياد عندما حانت له الفرصة؟!

وهكذا عشرات الأسئلة تلوكها الألسن وعلى مختلف المستويات، وقد غفل هؤلاء عن طريقة الإسلام في اعتبار قيمة الفعل، ولابد من التأكيد على ان البحث يدور حول قيمة الفعل من الناحية الأخلاقية، بغض النظر عن قيمته اقتصادياً واجتماعياً اي ان هذه السطور غير معنية بالبحث عن الوجه الاقتصادي والاجتماعي للعمل في نظر الاسلام، والتي يعالج طبيعة العمل المأجور، ونصيب العامل العادل من الانتاج ونحو ذلك، وانما البحث عن قيمة العمل من الناحية الانسانية والقيمة الاخلاقية.

فما هي المعايير التي على اساسها يتم احتساب قيمة العمل من وجهة نظر الإسلام او باقي المذاهب الفكرية؟

ولابد ان نلفت نظر القارئ الكريم الى ان الجواب عن هذا السؤال يتبع طبيعة المفاهيم الخلقية التي يتبناها هذا المذهب الفكري او ذاك، والتي هي ـ المفاهيم الخلقية ـ تابعة بدورها الى الأهداف التي يسعى لتحقيقها في المجتمع، فمثلاً الرأسمالية بوصفها مذهب فكري يرى أن كل عمل يحقق مصلحة للمجتمع في أطار الحرية والمصالح المتبادلة هو عمل شريف ذو قيمة عليا، وكلما كانت الثمار والنتائج تجلب منفعة أكثر كانت قيمة العمل اهم وأرفع، فتعتمد قيمة العمل بحسب منافعه الناشئة منه، وإن كان ناشئاً من دوافع أنانية وخبيثة، فالعمل خيّر إن جاء بمنفعة للمجتمع وإن كان عن طريق الحروب، كما يشير الى ذلك الباحث الكسيس كارل.

ووفق هذا المقياس فمساعدة إنسان أعمى وارشاده في الطريق لا يعد شيئاً بالقياس الى فعل رجل الأعمال الذي بنى مدرسة او مستشفى. فمساعدة الأعمى وإن كان عملاً نبيلاً إلا أن قيمته لا تضاهي قيمة فعل رجل الأعمال.

وأما الماركسية فالمعيار الاخلاقي لديها يختلف بعض الشيء عن الرأسمالية، باعتبارها ترى أن الصراع الطبقي في داخل كيان المجتمع يجعل مصالح الطبقات متناقضة، فالطبقة القديمة ـ والمراد منها تلك الطبقة التي فقدت شرائط استمرارها تاريخياً كالإقطاعية ـ قد تدافع عن مصالح معينة على حساب باقي الطبقات، وهناك بإزائها مصالح أخرى للطبقة او الطبقات الجديدة التي نمت وتحاول الوقوف على قدميها لتصارع الطبقة القديمة وجهاً لوجه، وتطالب بحقوقها ومصالحها.

فقيمة العمل بحسبها يعتمد على ما يحققه الفعل من اهداف ومصالح الطبقة الجديدة فكل عمل يحقق مصلحة للطبقة الجديدة فهو خير وذو قيمة لأنه يساهم في تطوير التاريخ، وكل عمل يحقق مصلحة للطبقة القديمة ويعمق وجودها الاجتماعي ويطيل من فترة حياتها وبقائها ويسهم في تأخير الطبقة الجديدة فهو عمل رجعي دنيء مادام لا يتفق مع الأهداف العليا التي تؤمن الماركسية بضرورة تحقيقها، وهي انتصار الطبقة الجديدة وسحق الطبقة القديمة التي تأخر السير التاريخي للأمام.

ولأجل ذلك قال لينين كلمته المشهورة: لا وجود عندنا للآداب المعتبرة فوق المجتمع، إنها لأكذوبة سافرة، فالآداب خاضعة عندنا لمنفعة نضال الطبقة العمالية.

وأما الإسلام فلعل أهم ما يختلف به مع باقي المذاهب الفكرية هو الأهداف التي يسعى لتحقيقها ويستوحي منها المفاهيم الاخلاقية، والتي تختلف جوهرياً مع أهداف سائر المذاهب. والتي هي الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح هو العمل الذي ينسجم مع هذا الهدف، فبمقدار اشتماله عليه تكون له قيمة اخلاقية، فالإسلام يهتم بدوافع العمل لا بمنافعه، ويرى ان الفعل يستمد قيمته من القصد والغاية التي من أجلها جاء بالفعل، فالأعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى كما ورد عن الإمام الهمام موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله أغزى عليا عليه السلام في سرية وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريته، فقال رجل من الأنصار لأخ له اغز بنا في سرية علي، لعلنا نصيب خادما أو دابة أو شيئا نتبلغ به، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله قوله، فقال إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله، فقد وقع أجره على الله، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى. أمالي الشيخ الطوسي: ص619، الحديث: 1274.

فليس المهم في نظر الإسلام اشتمال الفعل على قيمة اقتصادية او اجتماعية ان كانت ناشئة من منبع فاسد، وإنما المهم ان يصنع انساناً نظيفاً ويشيد علاقات اجتماعية نابعة من جوانب ذاتية مشرقة.

فالإسلام يستهدف أولاً وقبل كل شيء المحتوى الداخلي والروحي للإنسان وصياغته صياغة تنسجم مع أهدافه السامية، بينما تتخلى باقي المذاهب الفكرية عن هذا الهدف وتترك الإنسان ليصنع نفسه بنفسه، وتهتم بالنتائج والمنافع دون الدوافع والرصيد الروحي للإنسان.

فهو يزرع بذرة هي الإيمان بالله واليوم الآخر لتثمر اعمالاً صالحة تؤتي أكلها كل حين، من هنا نفهم التمثيل القرآني لهذه الحقيقة كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً، الفتح: 29، وقوله ايضاً:

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً الاعراف: 58.

وعلى هذا الأساس رفض القرآن المقايسة والمقارنة بين العمل الذي يأتي به الإنسان وفق الإطار الإيماني وبين العمل الذي يوجد بعيداً عن هذا الإطار وينبع من ميول ودوافع أخرى، فإن هذا العمل وفق المفهوم القرآني لا يمكن ان يقارن بذاك العمل، مهما كانت نتائجه ومنافعه الاجتماعية والاقتصادية، قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ  التوبة: 19.

فرغم ان هذه الأعمال لها منافعها الاقتصادية والاجتماعية العظيمة على المجتمع إلا ان القرآن رفض مقارنتها مع عمل المؤمن بالله واليوم الآخر، وسجل رفضه واعتراضه على كل عمل لم يراع فيه هذا القصد وإن كان من أكثر الأعمال نفعاً، كقوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.. التوبة: 17 ـ 18.

ومن هنا نفهم حرمة الرياء واستحباب صدقة السر وغيرها.

وكذا نفهم الإجابة عن جميع ما تقدم من الأسئلة، فقيمة العمل في الإسلام بقدر اشتماله على هذا القصد الشريف، فقيام المسلم بواجب الحج ايماناً منه بالله واليوم الآخر لا يقاس ببناء المستشفيات وتزويج الشباب، وإن كانت له منافعه الكبيرة، ولا يسأل عن سبب فعل أمير المؤمنين عليه السلام او مسلم بن عقيل طالما كانا نابعين من هذا الإيمان، وإن كان فعل الخلاف له منافعه.

وفي هذا الضوء قد يكون العمل البسيط في مظهره أرفع وأسمى من عمل يدوي له التاريخ، فقد تكون انكسارة لقلب مؤمن شفقة على يتيم أفضل ألف مرة من تضحية يترتب عليها أهم المصالح الاجتماعية لكنها بدافع من الدوافع المادية.

وبكلمة واحدة: المدار في قيمة الفعل من الناحية الأخلاقية من وجه نظر الإسلام تعتمد على حرص المسلم على تنفيذ الوظيفة الشرعية بغض النظر عن المنافع المترتبة على هذا الفعل، فقد يكون تكليفه بناء مشفى او مساعدة يتيم، وقد يكون التكليف بتوزيع الطعام على الزائرين، وهنا تتضح ضرورة الرجوع للفقيه ليبين لنا الوظيفة الشرعية، فكما قالوا في الفقه: عند التزاحم يقدم الأهم في نظر الشريعة، والذي يحدده الفقيه الجامع للشرائط.

وقد يتبادر الى الأذهان: ان النظريات غير الإسلامية في تقييم الفعل أكثر واقعية من النظرية الإسلامية، فالمهم هو توفير مصالح المجتمع أولاً، وكل عمل يحقق هذه الغاية فله القيمة الأعلى، ويجب تشجيعه ليرغب الآخرون بالإتيان بمثله، فماذا يهمنا لو بنى الغني مدرسة للفقراء حتى لو كان بدافع أناني ونية سيئة!.

ولكن في الحقيقة هذه نظرة سطحية لأن الإسلام لا ينكر أن العمل الذي لا ينبع من منابع صالحة قد يكون عملاً مفيداً ونافعاً، بالرغم من كونه عملاً نابعاً من طمع شخصي وغرض خبيث، ولكننا إذا سمحنا لتلك الإطارات غير الصالحة تنمو وتترعرع فمن يضمن لنا أنها سوف تدفع الفرد الى العمل المفيد والنافع دائما؟! فإذا كان المدار في قيمة العمل على مقدار ما يحققه من المنفعة فماذا لو تعارضت هذه المنفعة مع الغرض الإلهي من الخلقة؟!

وهكذا نعرف أن ربط الفعل بالمحتوى الروحي والداخلي هو الطريقة الواقعية الوحيدة التي تضمن استمرار العمل النافع بين افراد المجتمع.