المرجعية العليا تدعو «الحكّام» إلى الشعور بالمسؤولية

 النص الكامل للخطبة الثانية من صلاة الجمعة بإمامة ممثل المرجعية العليا سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في الـ 10 آب/ أغسطس 2018 م

نتعرّف في الخطبة الثانية الى مبدأٍ اجتماعيّ وتربويّ مهمّ في حياة الفرد والمجتمع، ألا وهو مبدأ الشعور بالمسؤوليّة، هذا المبدأ في الواقع هو من المبادئ الفطريّة بل هو مبدأ ٌفطريّ ومبدأٌ مكتسب في الحقيقة، المبادئ الفطريّة التي أودعها الله تعالى في كثيرٍ من عباده، وذلك لتقدّم مقدّمة مهمّة من مهمّات التكليف الإلهيّ، الإنسان مكلّف بأداء الواجبات والابتعاد عن المعاصي والمحرّمات، وأن يكون لديه شعور بأنّه مسؤول عن أعماله وأفعاله وسلوكه أمام الله تعالى، وأنّ هناك محاسبة وثواباً وعقاباً، هذا الشعور يدفعه ويحرّكه نحو الالتزام بالتكليف الإلهي وهذا الشعور هو الذي يدفعه للنهوض بالأعباء الاجتماعيّة والمادّية تجاه نفسه وتجاه أسرته وتجاه أصحابه، وهذا الشعور هو الذي يدفعه لمراعاة نظام الحقوق والواجبات، هناك حقوق للآخرين عليه وهناك واجبات عليه، وهذه الحقوق أداؤها فيه المشقّة وفيه كلفة، كيف أؤدّي وألتزم بهذه الحقوق للآخرين عليّ وأؤدّي الواجبات التي عليّ للآخرين، لابُدّ أن يكون لديّ شعور بالمسؤوليّة، النهوض بالأمّة والارتقاء بالأمّة بالازدهار بالتقدّم بتغيير الواقع المعاشي إنّما يأتي من الشعور الحيّ بالمسؤوليّة، والالتزام بالمواثيق والوعود للآخرين إنّما يأتي بالشعور بالمسؤوليّة.

هذا المبدأ موجود عند كلّ إنسان، الله تعالى أودعه في كلّ إنسان في فطرته، نعم.. تأتي المؤثّرات الخارجيّة والبيئة تنمّي وتحفّز هذا الشعور أو تُضعف هذا الشعور، وهو موجود في أصل خلقة الإنسان لكن أحياناً لا تتوفّر البيئة التي تُحافظ على هذا الشعور وتجعله فاعلاً مؤثّراً فيضعف وينعدم وتصبح لدى الإنسان روح الاتّكال وروح الكسل والتراخي وعدم القيام بالواجبات أمام الآخرين، عدم النهوض بالمسؤوليّة أحيانا تأتي البيئة الخارجية إمّا أن تحافظ على هذا المبدأ الفطريّ أو أنّه لا يؤدّي الى إضعاف هذا الأمر الفطريّ عند الإنسان، طبعاً تنمية هذا الشعور بالمسؤوليّة له الكثير من الإيجابيّات على مستوى الفرد والمجتمع، ضعف الشعور عند الفرد بالمسؤوليّة روح الاتّكال والتواكل على الآخرين نفسية إلقاء اللوم على الآخرين يؤدّي الى مجموعة من السلبيّات الخطيرة على مستوى الفرد والمجتمع، منها حلول الفوضى: -مثلاً- أنا إنسان لا أشعر بالالتزام بالمسؤوليّة في حفظ النظام والمسؤوليّات الاجتماعيّة والفرديّة والمجتمعيّة والسياسيّة تجاه الآخرين، فيؤدّي ذلك الى حدوث الفوضى ويؤدّي الى ضياع حقوق الآخرين ويؤدّي الى تراجع الأمّة وتخلّفها واضطراب أمورها، لأنّ الفرد ولأنّ المؤسّسة لا تشعر بالمسؤوليّة بالنهوض والتقدّم بهذا المجتمع، حينئذٍ هذه الأمّة أو هذا الفرد يتخلّف ويرجع الى الوراء، لذلك يجب أن يكون لدينا هذا الشعور وهذا المبدأ لأهمّيته في حياة الفرد والمجتمع، وقد أكّدت الآيات القرآنيّة وهي دائماً تنبّه وتحاول الحفاظ على هذا المبدأ الفطريّ، وتؤكّد على الإنسان أنّه أنت المسؤول عن كلّ فعل وكلّ تصرّف وكلّ قول أنت مسؤول عنه، الواجبات عليك أنت المسؤول عنها ستُسجّل عليك وستُحاسب عليها وستعاقب عليها، عددٌ من الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة تبيّن هذا المبدأ وتحاول الحفاظ عليه، الله تعالى يُقسم (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الله تعالى يقول الجميع سوف يُسأل سواءً كانت عليه التزامات لبقيّة المخلوقين أو لا، أيضاً في آية أخرى ولاحظ التوكيد وأساليب التوكيد في هذه الآية (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) يعني نحن سوف لا نترككم، الله تعالى لا يترككم بل كلّ عملٍ يصدر منكم سوف تُسألون عنه سواءً كان كبيراً أو صغيراً.

وفي آيةٍ أخرى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) حتى يُسأل كلّ إنسان عن هذه الأعمال التي هو مكلّف بها والتي صدرت منه، وفي الحديث المشهور لدى الجميع (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته) ماذا نفهم من هذا الحديث؟ أنّ كلّ إنسان في هذا المجتمع مسؤول، وإنّ كلّ إنسان لديه رعيّة، تارة لديه رعيّة كبيرة كالحاكم ورعيّته الشعب، وتارة دائرة ومديرُها راعٍ والموظّفون رعيّته، وتارة مدرسة والمدير راعٍ ومسؤول عن الطلبة، وتارة عندنا ربّ الأسرة وربّ الأسرة مسؤولٌ عن أسرته وعن ما موجود داخل أسرته وعن تربيتهم، وهكذا في كلّ نواحي المجتمع الإنسان يكون مسؤولاً عن رعيّته، نحن هنا لابُدّ أن نبيّن ما هو المطلوب في الوقت الحاضر؟ من أهمّ الأمور التي يعتمد عليها الفرد والتي يحتاج اليها هي ثقافة الشعور بالمسؤوليّة، هذه الثقافة هي التي لابُدّ أن تكون الشائعة والمنتشرة بين الناس، في المقابل الثقافات الأخرى التي تنتشر أحياناً في المجتمع وتسبّب تعطيلاً لدى الفرد ولدى المجتمع، ولا شكّ أنّ المنبع الأوّل والقيمة التي تفعل لدى المجتمع ومدى شعور الفرد بتلك المسؤوليّة في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، الذي يؤسف له أنّ هناك ثقافات مضادّة لهذه الثقافات هي التي تنتشر في المجتمع، من جملتها ثقافة إلقاء اللوم على الآخرين وثقافة التقصير على الآخرين وثقافة الاتّكال على الآخرين وثقافة التبعيّة للغير، عدم الشعور بالثقة بالنفس والاعتماد على النفس هذه من الأمور التي تُضعف هذا المبدأ الأساسي في حياة الإنسان، لذلك نحن نحتاج أن نشيع هذه الثقافة بين أفراد المجتمع حتى ينمو هذا الشعور ويترسّخ في المجتمع، وهنا نقطة مهمّة أودّ أن أبيّنها وهي أنّ مرتبة الشعور بالمسؤوليّة والتثقيف لهذا المبدأ تختلف بحسب موقع الشخص الوظيفي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كلّما كان موقع الشخص أهمّ وأوسع في المجتمع كلّما كان هذا الشعور يجب أن يترسّخ عنده أكثر من الآخرين، فالحاكم مثلاً يجب أن تكون هذه الثقافة راسخة عنده أكثر من الآخرين، الراعي أكثر من الرعيّة، ربّ الأسرة أكثر من ابن الأسرة، بحسب موقع الإنسان في المجتمع يجب أن يكون هذا الشعور أقوى لديه.

الآن ما هي المحرّكات والمناشئ لتفعيل هذه الثقافة والمبدأ؟ في الواقع هناك عدّة محرّكات ومناشئ لابُدّ أن نحصل عليها لكي ننمّي هذا الشعور، الأوّل هو المحرّك الداخلي والفطرة السليمة والضمير الحيّ والوجدان النقيّ، هذه الأمور إن بقيت داخل الإنسان تنمّي هذا الشعور وتدفعه الى الخير والامتناع عن الشرّ، لذلك في بعض الأحيان عندما تجد إنساناً يصدر منه شيءٌ سيّئ يسأله يقول له: أسألك بوجدانك هل تقبل أن هذا الأمر يصدر؟ هذا السؤال إنّما يعبّر عن أنّ الوجدان إن كان نقيّاً والفطرة سليمة لدى الإنسان تدفعه للشعور بالمسؤوليّة عن عمله وسلوكه، والوازع الدينيّ الذي هو من أقوى المحرّكات للشعور بالمسؤوليّة باعتبار أنّ الوازع الديني نابعٌ من رقابة الله تعالى للإنسان وما يترتّب على ذلك، ومن المحرّكات التربية والتنشئة التي تبدأ بالأسرة، ابتداءً يبدأ هذا الشعور في الأسرة، الأب الذي يشعر بمسؤوليّته تجاه زوجته وأولاده وأن لا يكون متقاعساً ومتكاسلاً ومهملاً أو متّكلاً على الغير، ويتحرّك نحو الشعور بالمسؤوليّة ينمّي هذا الشعور لدى الطفل، وأيضاً من المبادئ المهمّة أن يربّي الأب الطفل على حبّ الوطن وحبّ الآخرين والشعور بمعاناة الآخرين والعطف والرحمة بمعاناة الآخرين، أيضاً في المدرسة حينما يقوم المعلّم والمدرّس بتنمية هذا الشعور لدى الطلبة، أو المدير حينما ينمّي هذا الشعور لدى الموظّف تارةً من خلال القدوة وتارةً من خلال المحاسبة والمراقبة، وتارةً يكون هو المدير المسؤول عن الشعور بالمسؤوليّة ويؤدّي هذه الوظائف على أكمل وجه، وأيضاً المؤسّسات التربويّة للمجتمع تقوم بهذا الدور على أكمل وجه.

المحرّك الآخر أيضاً المهمّ أن يمارس المجتمع دوره في المحاسبة والمراقبة، كيف يكون ذلك؟ حينما يكون لدينا إنسان له تأثيرٌ اجتماعيّ ويلاحظ على الآخرين الأخطاء ينبّههم على هذه الأخطاء، رجل الدين ينبّه الآخرين على الأخطاء، كذلك الآخرون الذين لديهم تأثير اجتماعيّ ينبّهون الآخرين إذا كانت لديهم أخطاء، أيضاً في داخل الدائرة حينما يأتي المسؤول ويحاسب الموظّف حينما يعمل حينما لا يكون لديه تقصير بالمسؤوليّة هذا أيضاً من محرّكات الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين.

فقط نبيّن في آخر هذه الخطبة ما هي أنواع المسؤوليّة؟ الإنسان أوّلاً: مسؤوليّة الإنسان تجاه أسرته تجاه زوجته وأرحامه تجاه المستضعفين تجاه المساكين، المسؤوليّة المهنيّة التي تتضمّن مسؤوليّة الإنسان في إتقان العمل وإكماله، في التعاون والتضامن مع الآخرين في إكمال العمل، والمسؤوليّة الأخلاقية التي تتضمّن معاشرة الإنسان مع البقيّة ومعاشرته، والمسؤوليّة القانونية التي تشمل احترام القوانين والأنظمة والعادات والتقاليد الحسنة في المجتمع، والمسؤوليّة السياسية الأهمّ وهي مسؤوليّة الحاكم عن رعيّته وحسن إدارته لشؤون رعيّته، وتتضمّن الاستقرار والازدهار والتقدّم وخدمتهم، وأيضاً حمايتهم وصدّ الخطر عنهم والالتزام بالوعود والوفاء بالوعود التي تُقدّم والالتزام بكلّ ذلك، الالتزام لهم بالوعود الدستوريّة والوطنيّة والأخلاقية، هذا النوع من المسؤوليّة هو أهمّ من المسؤوليّات التي ينبغي لأيّ شخص في هذا الموقع أن يفي بها لرعيّته.

هذه الأنواع من المسؤوليّة إنّما تؤدّى على أفضل وجه إذا كان هناك شعور لدى هذه الطبقة بالمسؤوليّة، كما بيّنّا أنّ المسؤوليّة والشعور بالمسؤوليّة لها مراتب، ونحن نحتاج أن نبيّن ثقافة الشعور بالمسؤوليّة لا أن تشيع ثقافة اللوم والاتّكال على الآخرين دائماً، الاتّكال على الآخرين والركون الى الراحة والتعطيل ومثل هذه الأمور التي تمنع حقيقة الفرد والمجتمع من التقدّم والازدهار وما هو عليه.

نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لما فيه رضاه، وأن يأخذ بأيدينا الى ما فيه الخير إنّه سميعٌ مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.