كتب للفائدة وأخرى للمتعة!

من الكتب ما يُقرأ للفائدة، ومنها ما يُقرأ للمتعة، ومنها ما يُقرأ للفائدة والمتعة معاً، وأريدُ لك أن تقرأ هذين الكتابينِ وأنت في راحة بال، وعطَلَةٍ من أعمال.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ذلك أنَّ هذين الكتابين اعتمدا في البرهنة على رؤيتيهما العلميَّة، والاستدلال على نظرتيهما المعرفية على حشد جحافل القرائن الزمانيَّة، وسوق قوافل الإثباتات التاريخيَّة لتقوية قوليهما.

وأنا أُحبُّ هذا النَّوع من البحوث التي تستمدُّ من القرائن التاريخيَّة مددها البرهانيَّ  لتشييد النَّظريَّة.

ولعلَّ أول عهدي بهذا النوع من الكتب ما يرجع إلى نحو ثلاثٍ وثلاثين سنة يوم قرأتُ كتاب (مصادر الشعر الجاهليّ وقيمتها) للأستاذ الأردني ناصر الدين الأسد، وكان أول كتابٍ صدر عن سلسلة (مكتبة الدراسات الأدبيَّة) عن دار المعارف/ مصر، فكنتُ أعجَب كيف استدلَّ على بطلان رواية تحاكم الخنساء وحسَّان بن ثابتٍ إلى النَّابغة، وهو يُنشدُها:

لنا الجَفَناتُ الغرُّ يلمعنَ في الضحى** وأسيافُنا يقطرنَ – من نجدَةٍ - دما

وتقول له: أقلَلْتَ أسيافك وجفانك!......الخ الرواية.

فقال المؤلّف: إن جمع القلَّة والكثرة مصطلحان صرفيان جاءا بعد هذه الرواية بعقودٍ من الزمن فكيف فاهت بهما الخنساء؟

وإن كان للنّقاش في هذه الجزئيَّة بالذَّات ذرعٌ وسيعٌ، ومشعبٌ بطين؛ لاحتمال أن جمعي القلَّة والكثرة جريَا على لسان الخنساء لا بكونهما اصطلاحين عِلمِيين، بل تعبيراً من الخنساء عمَّا أدركتْه منهما بسليقتِها، والشَّاهد أنَّ حسَّان بن ثابت أقرَّ فهمها. نعم، لك أن تُكذِّب الرواية عن طريقٍ أخرى ذُكرت في غير موطنٍ من كتب النَّقد والأدب.

وعلى أيٍّ هذه اللفتات البارقة في سماء الفكر، واللامعة على أفق الذهن تُنبيك عن جهد الكاتب في بحثه، وتنقيبه في سطوره.

ومن هذا الجهد ما رأيتُهُ في أول هذين الكتابين اللذين أدعوك إلى قراءتهما، وهو كتاب (نشأة النَّحو) للشيخ محمد الطنطاوي (ت1959) ومن أبرز تلامذته محمد متولي الشَّعراوي المفسّر المعروف.

وهو يميل – تبعاً لابن خلدون – أنَّ أسباب وضع النَّحو لا بُدَّ أن تكون عديدة، لا أنَّها مناسبةٌ واحدةٌ اقتضت الوضع ، يُريد بذلك أن يتخلَّص من رواية أنَّ أمير المؤمنين علياً – عليه السلام – هو واضع النَّحو، وعرض رواياتٍ غير معارضةٍ لتلك الروايات القائلة بأنَّ الإمام علياً – عليه السلام – وضع علم النَّحو، عن أبي بكرٍ وعمر وغيرهما – وإن صحَّت هذه الروايات – فليست معارضةً للروايات المعروفة ؛لأنَّ غاية ما تُثبتُهُ هذه الروايات التي جاء بها عن زيدٍ وعبيد أنَّهما استاءا ومن معهما من اللَّحن في الكلام، ولكنَّهما وغيرهما لم يُبادِرا إلى سنِّ قانون، وتشريع قاعدةٍ في النَّحو، فأين المعارضة للروايات القائلة أنَّ الوصيَّ – عليه السلام - من وضَع النَّحو؟

ثم شفع ما زعمه تهافتاً في الروايات بدليلٍ عقليٍّ، ومفاده أنَّ وضع النَّحو وتأسيسه يحتاج إلى هدوءٍ واستقرارٍ، وأين حياة الإمام عليٍّ – عليه السلام – من ذلك كلّه وقد تشظَّت قطعُ أيَّامه في الحروب، وتقضَّت ساعاتُ حياته في الهموم، فمن أين له الراحة ليفكر في وضع أسس النَّحو؟

أقول: وقد دأب كثيرٌ من أمثاله على هذا الديدن البغيض من إنكار هذا السَّبق لأمير المؤمنين – عليه السلام – من أمثال شوقي ضيف، وخديجة الحديثي وأحمد أمين في ضُحى إسلامه المُظلم الذي هو أساس هذه الحرب في العصر الحادث، وإلَّا فهي قديمةٌ من قرون، وقد وقع بين يدي كُتيبٌ صغير لبعض العلماء يردُّ به على هذه الفريَة نفسها لعالِم آخر مضت عليهما القرون، ولكنّي نسيتُ اسم الكتاب والكاتب والعالِم العامّي.

واختلفت بعد ذلك أعذارُهُم في إبعاد هذا السبق التاريخيّ لأمير المؤمنين – عليه السَّلام – مرةً بدعوى أن تقسيم الكلام إلى اسمٍ وفعلٍ وحرف يحتاج إلى عقليَّة لم تكن عند العرب وكانت عند اليونان الذين أبدعوا في التقسيم والمقسَم، وأخرى أن من طبيعة العلوم أن تتدرَّج في الرُّقيِّ فلا تنشأ دفعةً واحدة، وتقسيم الكلمة إلى أقسامها الثلاثة لا يأتي مرةً واحدةً فتكون كالطفرة، بل لا بُدَّ من تدرُّجٍ، وكان هذا التدرّج على يد علماء كثيرين حتى وصل النَّحو ذروته في عهد الخليل الفراهيديّ.

ثم زعم الكاتبُ أنَّه لكي يجمع بين الآراء فإنَّ للإمام عليه السلام فضل الهداية والإرشاد، وللدؤليّ فضل الوضع والتأسيس.

وهو يرى أنَّ العراق - وبه البصرة والكوفة - يجب أن يتقدَّم البلادَ الإسلاميَّة في هذا العلم، وذكر لذلك عللاً وأسبابا، ثم قال: وإنَّما نُريد بالعراق البصرة والكوفة لا بغداد! واستشهد بقول أبي الطيب النَّحويّ: (وأمَّا بغدادُ، فمدينةُ ملكٍ وليست بمدينة علم).

والحق، ما كنتُ انتظرُ من يقول هذا، ولستُ أدري أبخس حقَّه من العلم إذ بخس بغداد حقَّها منه، أم لم يقرأ التاريخ جيدا؟

نعم، قد لا يكون هناك مذهبٌ بغداديٌّ في النَّحو، إذ يتقوَّم المذهب بخصائص ومزايا تجعل منه مذهباً مبايناً لمذهب الكوفيين والبصريين، وهذا رأيٌّ رآه الطنطاوي من قبل، وقال به المخزوميُّ من بعد، ولكن هذا لا ينفي أن تكون بغداد داراً للعلم، وموئلاً للعلماء، فقد تنوَّعت فيها العلوم الأدبيَّة والطبيَّة والفلسفيَّة وحتى الهندسيَّة والتكنلوجية، وكانت كعبة الوفَّاد، ومرتبع القصَّاد..

وأنا أنتقل بك – بعد ذلك – إلى كلامه عن كتاب سيبويه، فهو كلام دارسٍ للكتاب، يعرف زواياه وخباياه، ويدري شواهده وقياسه، وعدد الأبيات التي استشهد بها والآيات، وينتقل بك في كلامه إلى خزانة الأدب تارةً للاستدلال، وإلى شرح الرضيّ أخرى للاستشهاد، فهو يحفظ موضع الشاهد، والبيت، والمثل السَّائر كما يحفظ القارئ أي القرآن، ومواضعها، ومواضع السجدة فيها، والجزء والحزب والربع.

وهو بعد أن يسرد لك كلَّ الأبيات المجهولة القائل التي وردت في كتاب سيبويه، ويضرب لك أمثلةً ثلاثةً مما أخطأ سيبويه في روايته من الشّعر،  ويعرض لك صراع المدافعين عنه من ابن الانباري والاصمعي وثلّةٍ معهم، ومن المعترضين عليه كالمبرّد، وابن قتيبة والعسكري في التصحيف والتحريف.

ثم يُعرّفك بالأبيات الموضوعة في الكتاب، ويسوق قوافلها بعصا الدليل حتى تبركَ حُججُها في مجثَم الحقّ ، ويجعجع بركائبها حادي البرهان، حتى تحطَّ رحالها في مُنَاخ الصواب.

وأراني أطلتُ جدَّاً دون أن أُدلّلَ على زعمي الذي زعمتُ أول الأمر؛ لذلك أرجئ ذلك إلى مقال آخر قريباً، غداً أو بعد غد، حتى أشفعه بعد ذلك بذكر مقال ثالثٍ في ذكرِ الكتاب الثاني إن شاء الله.