عطاء إنساني: كيف حدّت ’العتبات المقدسة’ من الرحلات العلاجية؟

الاستشفاءُ وراءَ الحدود.. ألمٌ آخر

كثيرةٌ هي المُنغِّصات التي تُعكِّرُ صفوَ حياةِ هذا المُجتمع، وقليلةٌ هي السُبُلُ التي يسلكُها للخروجِ من أزماته (الاقتصادية، والاجتماعية، والصحية، والتعليمية.. وحتى النفسية) وغيرها الكثير ممّا يستحقُّ التوقُّفَ عندَه والتأمُّلَ فيه بحثًا عن حلولٍ أو رجاءٍ لانقضاءِ حلقاتِ البلاء فيه، حتى أنَّ بعضَ السُبُلِ للخلاصِ من مُشكلةٍ بعينِها ترتقُ فتقًا وتفتحُ آخرَ، من بابِ اختيارِ أهونِ الشرّين، أو من بابِ الأولويةِ في إعارةِ الاهتمامِ، وإنِ انعدمتْ فيها فرصُ المفاضلة.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

من الأمثلةِ على ذلك الاضطرارُ إلى مُراعاةِ الجانبِ الصحي على حسابِ الجانبِ المادي، فالأولويةُ هُنا للصحةِ خصوصًا إذا تعلّقَ الأمرُ بخطورةٍ بالغةٍ على الحياة.

العراقيون، ومع انتكاسةِ الواقعِ الصحي في البلد وتهالُكِ مؤسساتِه، لجأوا إلى الاستشفاءِ وراءَ الحدود، فأصبحتِ الرحلاتُ الجويةُ والبريةُ تأخذهم نحو شرقِ الأرضِ تارةً، وأخرى نحو مغربها، يحملونَ معهم العملةَ الصعبةَ لهدرِها في محلها! عندَ شركات السياحةِ والطيرانِ وفي الفنادق، و في مشافي الدولِ الأخرى وجيوبِ أطبائها، فهي عملةٌ صعبةٌ لا بمعنى كونها (الملاذ الآمن) الذي عرفتْ به اقتصاديًا، ولكن هي عملةٌ يصعبُ الحصولُ عليها عند طلبِها في مثلِ هذه الظروف التي مرَّ ويمرُّ بها العراقُ مُنذُ عقودٍ من الزمن، أوهي صعبةُ الصرفِ؛ لأنّ أغلبَها يُشكِّلُ كدحَ سنواتٍ طوالاً لعاملٍ بسيطٍ ربما ادخرها لأمرٍ آخر غير العلاجِ في الغربة، وربما هي صعبةٌ بمعنى مشقةِ ردِّها إنْ كانتْ ممّا يُقترضُ لهذا الأمر، فلم يبقَ للمُضطرِّ حيلةٌ إلا ركوبها.

تجاربُ الرحلاتِ العلاجيةِ التي خاضَها أبناءُ هذا المُجتمع، تكادُ أنْ تكونَ بطعمٍ واحدٍ ولونٍ واحد -وإنْ تعدّدتِ الوجهاتُ والمقاصدُ، واختلفتِ العللُ بل والمُستوى المعيشي-، فهي رحلةٌ يكتنفُها الغموضُ بالنسبةِ لمن يشدُّ الرحالَ فيها لأول مرة، وتتعدَّدُ فيها التساؤلاتُ حدَّ امتلاءِ الذهنِ بها وعجزِ اللسانِ عن تكرارِها المُمل، .. وممّا يزيدُ من المشقّةِ والعناءِ فيها أنْ يكونَ الشخصُ بسيطًا لا يمتلكُ تلك الأدواتِ التي تُمكِّنُه من الوصولِ لمُرادِه بسهولةٍ فيكونُ اللجوءُ إلى حكاياتٍ عن تجاربِ الآخرين من أصدقاء وأقارب هي الحلَّ الأمثلَ لاطمئنانِه وإزاحةِ تلك الضبابيةِ التي تكتنفُ رحلته، رغم أنَّ الكثيرَ ممّا يروى له من حكاياتٍ تختلفُ تفاصيلُها، لكنّها ستنفعُه بعضَ الشيء ولو بتفتيتِ القلقِ الكبيرِ لديه إلى أجزاء يسهلُ التعامُلُ معها، وسيكونُ العبءُ الأكبرُ على المُرافقِ للمريضِ الذي عادةً ما يكونُ وِترًا لا يُعينه في الصُحبةِ أحدٌ رعايةً للتكلُفةِ الباهظة.

من الحكاياتِ التي سيعيشُها المريضُ ومُرافقُه والتي يشتركُ فيها الجميعُ دونَ استثناءٍ في الرحلةِ العلاجيةِ، حكايةُ البحثِ عن طبيبٍ خلفَ الحدودِ، والسؤالِ عن إمكاناتِه، وتجاربِ الآخرين معه، والاتصالِ به لمعرفةِ وقتِ وجوده، وتكلفةِ ما يُقدِّمُه من استشارةٍ أو عمليةٍ جراحيةٍ لينتقلَ بعدَها لحكايةِ إصدارِ الجوازِ وما يُرافقُه من إجراءاتٍ فيما لو كانتْ بعضُ المُستمسكات التي يحتاجُها لإصدارِه قديمةً أو باليةً او ضائعةً، فالأمرُ بحاجةٍ إلى تجديدِها بمُراجعاتٍ لدوائرَ عِدّةٍ والدخول في دوامةِ أضابيرِها الورقيةِ و(روتينها) القاتل، ثم الانتقال إلى مرحلةِ السفرِ وحجزِ الفندق، ثم السفر الفعلي والدخول في دوامةٍ جديدةٍ من مُحاولاتِ سبرِ أغوارِ هذه الغربةِ والتعايُشِ معها بنحوٍ آمنٍ لا مجالَ فيه للابتزازِ من قبلِ أيّ شخصٍ يتمُّ التعامُلُ معه هناك حيث يكونُ هذا الأسمرُ القادمُ من أرضِ الرافدين محطًّ أنظارِ كُلِّ لاهثٍ وراءَ الدولارِ لسدِّ عجزِ ميزانيةِ جيبِه الذي جعله التضخُّمُ فارغًا إلا من بعضِ العُملاتِ المعدنية، فكثيرٌ من البلدانِ التي يقصدُها العراقيُّ للعلاجِ تُعاني من التضخُّمِ وارتفاعِ سعرِ صرفِ الدولارِ فيها، ممّا يدفعُ بالبعضِ إلى استخدامِ أبشعِ الأساليبِ في مُحاولاتِ ابتزازِ الغرباء، ممّا يستدعي بذل جهدٍ مُضاعفٍ من قبلِ الزائرِ لتلافي الوقوعِ في مطبّاتِ الاستغلالِ، فيتحتمُ عليه بذلُ جهدٍ في الوصولِ لشخصٍ موصى به من قِبلِ الأصدقاءِ أو الأقرباء ممّن زاروا تلك البلدانَ في وقتٍ سابق، وبذل جُهدٍ آخر في مُحاولةِ تعلُّمِ بعضِ الكلماتِ الشائعةِ الاستخدامِ لغرضِ الاستعانةِ بها في فهمِ أو إفهامِ المُقابل، كذلك بذل جهدٍ كبيرٍ في التعرُّفِ على فرقِ السعرِ بينَ العملاتِ ومُقارنتها بالدينارِ العراقي وأنْ تكونَ لديه سُرعةُ البديهةِ في الحسابِ دون الاستعانةِ بالآلةِ الحاسبةِ أو سؤالِ شخصٍ معينٍ عن فرقِ السعر.

سيتعرَّضُ المُسافرُ لأغراضِ العلاجِ لمواقفَ عديدةٍ ترِدُ عليه للمرّةِ الأولى، ثم سيتعاملُ معها بشكلٍ طبيعي فيما بعد، مع الأخذِ بنظرِ الاعتبارِ عدمُ الوقوعِ في مطبّاتِها، ولحين انتهاءِ رحلتِه العلاجيةِ سيكونُ خبيرًا بعضَ الشيء بطبيعةِ الحياةِ في هذا البلد أو ذاك، ممّا كانَ يقصدُه من بلدانٍ، ويكفيه ذلك أنْ ينضمَّ لقافلةِ الخُبَراءِ بشأنِ هذه السياحةِ وسيكونُ قادرًا على روايةِ تجربتِه لشخصٍ يستشيرُه بالذهابِ وسيكونُ حريصًا على نقلِ أدقِّ التفاصيلِ، وسيكونُ حريصًا على إخفاءِ المُحرجةِ منها، فهو ناصحٌ بالمقدارِ الذي يجعلُه بطلًا في عيونِ الآخرين.

العلاجُ في الخارجِ طامةٌ كُبرى تستدعي من المسؤولين وقفةً جادةً ومُراجعةً دقيقة، وبحساباتٍ حكوميةٍ ترقى لمُستوى مسؤولياتِ حكومةٍ تجاه شعبِها لإيقافِ هذه المأساةِ التي يتعرّضُ لها المواطنُ وهو يشدُّ رحالَه بينَ الحينِ والآخر نحو بلدانٍ أخرى من أجلِ تشخيصٍ دقيقٍ للمرضِ، أو عمليةٍ جراحيةٍ ناجحة، فأطباءُ العراقِ الذين يعملون في المُستشفياتِ الأوربيةِ أولى من غيرِهم في خِدمةِ شعبِهم هُنا في العراقِ في منشآتٍ طبيةٍ حديثةٍ، والأموالُ التي تُنفقُ في الرحلاتِ العلاجيةِ أولى بأنْ يقضيَ بها المواطنُ حاجتَه ووطره، فيُخفِّف عن كاهله ذلك الحملَ الثقيلَ وهو يقفُ في مُفترقِ طُرُقٍ كُلّها شائكة ليختار منها ما يؤنسه بسلامةِ مريضٍ يهمُّه أمرُه وإنْ أدمى الشوكُ قدميه..

عتباتنا المقدسة أدت هذا الدور وكفت العراقيين مؤونة السفر للعلاج، فأنشأت من المستشفيات ما يغنيهم عن هذه المشقة، لكن إعلاما مغرضا عمد إلى تشويه هذه الصور الناصعة -ورغم تدليساته- لم يمنعها عن عطاء إنساني يتجدد في كل عام.

*حسين فرحان