المرجعية الدينية ومقاومة الاستعمار

لقد أخذت المرجعيات الدينية على عاتقها أن تقوم بكل ما من شأنه أن يحفظ وحدة وتماسك المسلمين على إختلاف مشاربهم، فليس غريباً أن يتحفنا التاريخ بمواقف المرجعيات الدينية المناهض لدول الإستعمار التي جثمت على بلاد المسلمين، من دون ملاحظة الخلفية الطائفية لسكان تلك البلاد، وهذا الموقف إن دل على شيء فإنما يدل على الشعور بالمسؤولية الكبيرة والجسيمة إتجاه أهل القبلة عموماً.

ويبرز موقف تلك المرجعيات في محاربة هذا الشكل من الهيمنة في مرحلة الغزو الذي قادته الدول الأوربية للسيطرة على منطقة الشرق المسلم، والذي برزت معالمه عقب التاسع عشر والعشرين من قرون الألفية الثانية، حيث كانت بيانات ورسائل مراجع الشيعة آنذاك تعطي الإنطباع الواضح والصريح أنهم يلاحظون بدقة وعناية حجم المؤامرة التي تحوكها قوى الإستعمار العالمي للهيمنة على مقدرات أهل الإسلام، وهذا التصور يقطع الطريق على كل المشككين بمواقف الزعامة الدينية للتشيع، والذين لا زالوا يصرون على اتهام المرجعيات بأنها وقفت موقف المتفرج من المستعمرين.

ومن النماذج البارزة في استنهاض الشعوب المسلمة للتكاتف ونصرة بعضها لتحرير أرضها من الغاصبين، ما خطته أنامل مجموعة المراجع والعلماء الكبار على راسهم أستاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ محمد كاظم الخراساني (الآخوند) وشيخ الشريعة الأصفهاني والسيد محمد سعيد الحبوبي، وغيرهم من أساطين ذلك الزمان، حيث أبرقوا رسالة تضامنية مع أبناء الشعب الليبي المسلم الذي تعرض للغزو الإيطالي، جاء فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى كافة المسلمين الموحدين وممن جمعتنا واياهم جامعة الدين والإقرار بمحمد سيد المرسلين، السلام عليكم ايها المحامون عن التوحيد والمدافعون عن الدين والحافظون لبيضة الإسلام لا يخفى عليكم ان الجهاد لدفع هجوم الكفار على

بلاد الإسلام وثغوره مما قام اجماع المسلمين وضرورة الدين على وجوبه. قال الله سبحانه:

(انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ)

هذه كفرة ايطاليا قد هجموا على طرابلس الغرب التي هي من أعظم الممالك الإسلامية

وأهمها فخربوا عامرها وأبادوا أبنيتها وقتلوا رجالها ونسائها واطفالها مالكم تبلغكم دعوة الإسلام فلا تجيبون، وتوافيكم صرخة المسلمين فلا تغيثون، أتنتظرون أن يزحف الكفار الى بيت الله الحرام، وحرم النبي والأئمة (عليهم السلام) ويمحوا الديانة

الإسلامية عن شرق الأرض وغربها وتكونوا معشر المسلمين أذل من قوم سبأ، فالله الله بالتوحيد، الله الله في الرسالة، الله الله في نواميس الدين، وقواعد الشرع المبين، فما بعد التوحيد إلا التثليث، ولا بعد الإقرار بمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) إلا عبادة المسيح، ولا بعد استقبال الكعبة إلا تعلق الصليب، ولا بعد الآذان إلا قرع النواقيس فبادوا الى ما أفترضه الله عليكم من الجهاد في سبيله، واتفقوا ولا تفرقوا، وأجمعوا كلمتكم وابذلوا اموالكم وخذوا حذركم (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم)  لئلا يفوت وقت الدفاع وأنتم فاعلون، وينقضي زمن الجهاد وأنتم متثاقلون.

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

البرقية التي أبرقها المرجع الأعلى السيد محمد كاظم اليزدي لأمير عربستان (الأحواز) الشيخ خزعل بن جابر الكعبي، والتي يحثه فيها على مقارعة الغزاة الإنكليز الذين نزلت طلائع جيوشهم الغازية بلدة الشعيبة من أرض البصرة، جاء فيها :

سلام على السردار الأرفع معز السلطنة الشيخ خزعل دام إجلاله

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يخفى أن من أهم الواجبات المحافظة على بيضة الإسلام والدفاع بالنفس والنفيس عن ثغور المسلمين ضد مهاجمة الكفار.

وأنت في ثغر من تلك الثغور، فالواجب حفظ ذلك الثغر عن هجوم الكفار بكل ما تتمكن، كما يجب ذلك على سائر العشائر القاطنين في تلك الجهات، واللازم عليك تبليغ ذلك إليهم، كما أنه يحرم على كل مسلم معاونة الكفار ومعاضدتهم على محاربة المسلمين، والأمل همتك وغيرتك إذ تبذل جهدك في محاربة الكافرين، والله يؤيدك بالنصر على أعدائه إن شاء الله تعالى .

1 محرم الحرام 1333 هـ = تشرين الثاني 1914 م

محمد كاظم الطباطبائي

أخيراً، إن الزعامات الشيعية المتمثلة بـ "المرجعية الدينية العليا" تولي اهتماماً بالغاً لأمور المسلمين على اخلاف مذاهبهم وقومياتهم، وهي أيضا تتفاعل دائماً مع الأحداث والواقع السياسي وتتدخل دائماً في اللحظة الحاسمة قبل فوات الأوان.