’الدفاع عنه’ و ’رفع شأنه’.. هذه واجباتنا تجاه الوطن

{أولاً- إعلاء كلمة الله في بلدك: يطمح الإنسان إلى إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى فوق كل الأرض، وفي جميع أنحاء العالم ولكن الأرض التي يعيش فيها هي أقرب إليه، وهو الأقدر على أن يمارس هذا الدور فيها، صحيح أن واجب الدعوة والهداية هو واجب الإنسان المسلم تجاه العالم كله، ولكنه يجب أن يبدأ بالأقرب إليه (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ) [طه: 132].. (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6]. (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، فواجب الإنسان المسلم أن يحاول في إعلاء كلمة الله، أول ما يحاول في بلده ووطنه، فينشر فيه الخير والمعروف، ويدعو إلى الصلاح والإصلاح.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ثانياً- الدفاع عن الوطن أمام المعتدين: يجب على الإنسان إذا ما تعرض وطنه وبلده إلى الاعتداء، أن يتحمل كامل المسؤولية في الدفاع عن أرضه، والذود عن حياضه، وإذا لم يدافع عن بلده ووطنه فمن الذي يدافع عنه، هل سيدعو الآخرين إلى أن يدافعوا عنه ويحموه، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يخاطب أولئك المتخاذلين عن الدفاع عن ديارهم وبلدانهم فيقول: (أي دار بعد داركم تمنعون)، ويقول (عليه السلام): (فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا).

ثالثاً- التعاون مع المشاركين لك والمشتركين معك في وطنك: لا يعيش الإنسان منا في وطنه وعلى أرضه وحيداً كفرد، ولكن هناك آخرون يعيشون ويشتركون معنا في ظلال هذا الوطن لنا ما لهم، وعلينا ما عليهم، وهم يحبون الوطن كما نحب، وينشدون إليه كما نحن منشدون إليه وعلاقتنا بأرض الوطن هي علاقتهم به أيضاً، وهي القاسم المشترك بيننا وبينهم، وأن كانت العقيدة هي القاسم الأكبر والأعظم في إطار علاقتنا جميعاً، ولكن حتى لو لم تكن العقيدة واحدة، فالاشتراك معهم في العيش على أرض واحدة ووطن واحد، يوجد علاقة معينة، وارتباطاً إنسانياً لا بد منه، مع اختلاف العقيدة والدين.. ولذلك نرى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما هاجر إلى المدينة، وأقام المجتمع الإسلامي هناك، عمل صحيفة معروفة في السير والتاريخ (بصحيفة المدينة)، الصحيفة التي تحدثت عن علاقة المسلمين فيما بينهم ثم عن علاقتهم مع بطون اليهود المقيمين آنذاك في المدينة، ومما جاء في تلك الوثيقة الصحيفة.

قال ابن اسحاق: وكتب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم : (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس... وانه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم... وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم... وإن اليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتغ إلا نفسه وأهل بيته... وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم...).

قال الدكتور وليم سليمان قلادة المحامي ونائب رئيس مجلس الدولة المصري سابقاً في محاضرة ألقاها في مركز اتحاد المحامين العرب للبحوث والدراسات القانونية في القاهرة وطبعت ضمن كتاب (التسامح الديني والتفاهم بين المعتقدات) سنة 1986 م قال تعليقاً على صحيفة المدينة:

(هذا نص اعتقد أنه لا يختلف مطلقاً عن النص الذي يقول إن هناك وحدة وطنية مع تعدد الأديان).

وللعلامة المعاصر الشيخ محمد مهدي شمس الدين دراسة قيمة حول هذه الصحيفة تناولها فيها من حيث السند والمصادر ومن حيث المتن والفقرات ومن حيث المعاني والدلالات ضمن كتابه القيم (في الاجتماع السياسي الإسلامي).

فمع كونهم يهوداً ولكن الرسول أجرى معهم عقداً وطنياً ملزماً لماذا؟ لأنهم يشتركون مع المسلمين في وطن واحد يريد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجعل من هذا العيش المشترك على أرض المدينة محمياً من أي تصدع وخلاف، فألزم الجميع بتلك الوثيقة النموذج للعيش المشترك على أرض المدينة لأنها وطن الجميع من مسلمين وغيرهم.

وفي مثال آخر نجد قضية الجوار فحق الجار وحسن الجوار الذي هي في التشريع الإسلامي ليست مقيدة بالاتفاق في الدين، ويعني ذلك أن الجار له حقوق علينا بغض النظر إن كان مسلماً أو غير مسلم، فليس ضرورياً أن يكون جارنا يدين بنفس الدين لكي يصدق عليه ذلك العنوان فحتى لو كان لنا جار غير مسلم فنحن ملزمون بعلاقة حسن الجوار وبكامل الحقوق له من قبلنا فقد روي أن غلاماً لابن عباس ذبح شاة، فقال له ابن عباس: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي.

ثم كررها حتى قال له الغلام: كم تقول هذا؟ فقال: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل يوصينا بالجار، حتى خشينا أنه سيورثه. فابن عباس بنص هذا الخبر كان مجاوراً ليهودي، وكان يهتم بالإهداء إليه، كما يهتم بسواه مراعاة لحرمة الجوار، ومعنى هذا أن الإسلام لا يفرق في مكارم الأخلاق وحقوق الاجتماع بين مسلم وأي مخالف آخر فالكل في نظره سواء.

فحتى لو خالفنا جارنا في الدين، إلا أن ذلك لا يمنع أن يكون له نفس الحقوق التي للجار المسلم إذ العيش المشترك على أرض واحدة، وفي جوار واحد، يوجب تلك العلاقة المشتركة في طبيعة التعاون والحقوق المتبادلة، وكلما كان الشعور بهذه العلاقة أكثر نضجاً، كان المواطنون أقدر على تحقيق الوحدة الوطنية، وبالتالي يكونون أكثر فاعلية في خدمة وبناء وطنهم، فبين أبناء الوطن الواحد تكون الآمال والآلام مشتركة ومتوحدة لذا نجد الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) يتألم للمرأة غير المسلمة -المعاهدة- كما يتألم للمرأة المسلمة على حد سواء وذلك حينما بلغه غزو جيش معاوية للأنبار واعتدائه على أهاليها يقول (عليه السلام): (ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ووَرِعَاثَهَا ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ".

فالإمام علي يذكر آلام المرأة المسلمة إلى جانب المرأة المعاهدة من غير المسلمين، لأن الإمام علي (عليه السلام) يريد أن يبين أن اشتراكهم في أرض واحدة ووقوعهم تحت نير ظلم وغزو واحد من قبل جيش معاوية، جعل مصير الآلام واحدة أيضاً، وإحساس الإمام (عليه السلام) تجاههم واحداً أيضاً، فاللازم أن يكون شعورنا واحداً تجاه من يشتركون معنا في وطن واحد، مبنياً على التعاون الذي من شأنه أن يرفع عزة أوطاننا وبلداننا. فالوطن للجميع، المصالح واحدة، والخطر مشترك، والوطن كالسفينة الواحدة التي إذا تعرضت لأي خطر فالخطر على الجميع والنجاة للجميع. إذاً ما دام الوطن للجميع والخطر والخير للجميع أيضاً، فهذا الشعور المشترك بالخير والخطر، يجب أن يجعل الجميع في حالة تعاون دائم لدرء الخطر والعمل من أجل حصد الخير والمكاسب الحسنة، ومن السخف بمكان أن يؤدي اختلاف الرأي أو اختلاف المذهب أو اختلاف التوجه، للانقسام والصراع داخل البلد الواحد، هذا غير صحيح وهو خلاف للدين والعقل، فالدين والعقل يدعوان للتعاون ولتظافر الجهود من أجل الخير، كما يدعوان أيضاً إلى التوحد والوحدة، ما دام هناك سبب مشترك، وحتى لو لم يكن هناك عقيدة كاملة مشتركة في كل التفاصيل، فالاشتراك في الأرض الواحدة والوطن الواحد لابد أن يخلق علاقة طيبة وإيجابية، والحكومات الواعية المخلصة لمصلحة الوطن ووحدته، هي التي يجب أن تعزز من شأن التعاون والوحدة بين المواطنين، تدعيما لأمن الوطن من الخلافات الداخلية، ولاستقراره الدائم، الذي ينعكس على عزة ونمو البلد ورفعته وتقدمه، ورد في الحديث (خير الولاة من جمع المختلف، وشر الولاة من فرق المؤتلف).

رابعاً- أن يعمل الإنسان في سبيل تقدم وطنه ورفعة شأنه: الأوطان تعز بأبنائها، وتتقدم بهممهم وسواعدهم، فإذا ما تحرك أبناء الوطن وتفجرت طاقاتهم المبدعة، وكفاءاتهم العالية وخدموا وطنهم فلابد أن يتقدم الوطن ويعلو شأنه، أما إذا بخل أبناء الوطن، وتخلفوا عن ذلك، فسيؤدي ذلك التخلف، إلى التأخر والانحدار على المستويين الخاص والعام. فالواجب يحتم أن يتقدم الإنسان بعمله، لأجل أن يتقدم بلده ووطنه في شتى المجالات، فالعالم لا بد أن يظهر علمه ويعمل به من أجل خدمة وطنه وأبناء وطنه، والتاجر وصاحب المال لا بد وأن يستثمر أمواله وثروته لصالح بلده ووطنه، فإنشاء المشاريع وسد الاحتياجات الاقتصادية التي يحتاج إليها الوطن من تصنيع وإقامة الأعمال الناجحة والفاعلة كل ذلك من شأنه أن يؤدي إلى خير الوطن اقتصادياً وصناعياً، أما إذا تكدست الأموال وتجمدت في المصارف والبنوك، فسيؤدي ذلك إلى تخلف وتأخر هذا الوطن، إذاً فعلينا جميعاً أن نسعى كأفراد وجماعات لإجادة العمل وإتقانه، ورفع كفاءتنا المتخصصة علمياً وفنياً في جميع المجالات، من أجل ذلك الهدف النبيل السامي وهو خدمة الوطن والمساهمة الحقيقية والناضجة في رفعته وتقدمه.

من كتاب: الوطن والمواطنة الحقوق والواجبات