كيف يمارس الإعلام المضلل عملية ’التضليل’؟

جواب هذا السؤال يتطلب بسطاً في الحديث، فإن موضوع الإعلام وكيفية تأثيره، ومقدار ما ينجزه في تغيير الشعوب وبالتالي فتح أبواب تدفق القيم والأفكار وتبديل المزاج العام ومحو الهويات المختلفة أصبح اليوم من الموضوعات المهمة جداً، والتي تقع في أوّليات قائمة اهتمام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والباحث الديني.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وكل شخص يريد أن يبرمج غيره ببرمجة تساهم في تحقيق أهدافه، وقد قدمت دراسات، وجملة من البحوث والكتب، كما أن الإعلام تداخل اليوم مع نشاطات جميع المؤسسات، وصار الإعلامي على مستوى الصوت والصورة وكلام المكتوب وجوداً أساسيّاً، وكل يوم تطالعنا توصيات خاصة، وتزداد على ضوئها الأموال المتدفقة في دعم وتطوير الإعلام، لما له من تأثير كبير على تغيير القناعات، وبالتالي تغيير السلوك، فإن سلوك الإنسان مرهون بما يملك من أفكار.

إن ترويج الأفكار بطريقة جذابة وحِرفيّة لا يدرك فيها عامة الناس مواطن الخلل والأهداف البعيدة، وعملية التلقين المتكررة، مع التنوع، واستثمار جميع طرق الإيصال من المقالات المكتوبة والقصص والروايات، إلى المحاضرات والأفلام والمسرحيات و المسلسلات، وإيجاد شخصيات لها جوانب إيجابية، أو عمل الإعلام على جعلها شخصيات محبوبة ذات تأثير كبير في وجدان الناس، إن كل ذلك أصبح اليوم من أقوى القوى الضاغطة، ولكن بطريقة ناعمة جداً، فمن يستهدف حضارة لجعلها تابعة له، ليس بحاجة اليوم إلى أن يكشف عن أنيابه، ويهدد بالسلاح أو الحرب بالحديد والنار، لأنه أدرك أن من السنن الحاكمة تأثير القناعة على السلوك، والقناعة لا تخلق بإظهار العداوة، والاصطدام مع المألوف و المحبوب، وعرض الفكرة بطريقة مباشرة مع منافاتها للقيم والأفكار المبرهنة والحاكمة في المجتمع، وعليه لابد من لعبة الإعلام، لتكون عملية التغيير والاستحواذ من الداخل، و إن أغبى طريقة يمكن أن يسلكها الإعلامي في غزوه للمجتمعات والتوجهات الفكرية والدينية الطريقة التي يسلكها القائمون على مثل قناة وصال وقناة صفا السلفيتين، فإن طريقة الكذب على الطرف الآخر واستخدام الأسلوب الجاف والحاد، وانتقاء الوجوه المنفرة، والطعن والسب، والكشف عن المخططات والأهداف بنحو سافر، من أهم أسباب فشل الإعلامي، والحمد لله هم يفشلون، وسوف يفشلون، و لن ينجحوا، لأنهم لن يغيروا طريقتهم، ولو غيروها، فإنهم سوف يقعون في أزمة غلبة الفكر المقابل الذي يستثمر النعومة وفسح المجال، مع وضوح منهجه وقوة برهانه في التأثير وبالتالي كسب مساحات جديدة.

غير أن الإعلام المضلل في نظري لا ينحصر في الإعلام المختلف من حيث الأسلوب، والذي يقوم عليه من لا يملك خبرة كافية ودوائر للبحث والتقويم لإحداث التطوير في كيفية التأثير وتحقيق الأهداف المطلوبة.

لقد أدرك المروجون لقيم ومبادئ وأفكار وسلوكيات الحضارات المتصارعة اليوم، وبعد تطور وسائل الإعلام والتواصل، وتحولها إلى منصات بث عامة وفردية، يمكن الانزواء فيها بآحاد المجتمع، وفصلهم عن الآخرين الذين قد يشكلون رافداً معرفياً مقابلاً، ضرورة توظيف الإعلام بطريقة تنتج المطلوب على نحو التدريج، ومن دون لفت نظر، ولهم في هذا تكتيكات وأساليب سريعة التأثير، وهنا أذكر بعض الأمور التي تجعلهم أكثر قدرة على تحقيق أهدافهم:

الأمر الأول: هو عرض الأفكار على أنها أمور فطرية يطلبها الإنسان، وهم إنما يروجونها، ويدعون إليها لمصلحتنا، وهذا هو السر وراء أنسنة كل شيء، و الدعوة إلى الحرية للحرية، والمطالبة بإعطاء كل متكلم الحق في أن يقول ما يشاء، ويعتقد بما يشاء، ويفعل ما يشاء، فإن المطالبة بذلك بعنوان أنه حق، وأساس الكرامة الإنسانية، التي ينبغي أن يطلبها الإنسان لأن هذا شيء لمصلحته، وهو القيمة العليا في الوجود، يقنع عامة الناس بأن كل ما يصب في إطلاق العنان للإنسان فهو خير، والشر المطلق ما يقابله، وعلى هذا تسوق الديانات والأفكار الباطلة، والسلوكيات المنحرفة كالشذوذ، ويكون عامة الناس أكثر تقبلاً لها، لأنهم يرونها مطلباً إنسانياً.

الأمر الثاني: عدم إظهار الفكر الوافد الجديد على أنه مناف للسائد، وذلك بطرح الفكر الجديد على أنه شيء ينسجم مع السائد غير أن السائد دخلت عليه بعض الشوائب بسبب أفكار الناس والعادات والتقاليد، وبهذا يضرب الحجاب، والجهاد، وحرمة جملة من الأفعال، لأنها مجرد قراءة أطبق عليها جميع المسلمين في القرون السالفة إلا من شذ، وتوجد قراءات أخرى، صحيح تخالف نصوص الدين ـ مثلاً ـ بنحو صريح، إلا أن هذه المخالفة مجرد قراءة.

وطبعاً هم لا يروجون الأفكار كقراءة جديدة إلا بعد إيجاد أشخاص عمل الإعلام على تقديمهم كمفكرين، ولكن بطراز جديد منفتح، ولهم قدرة عالية على البيان، ويقدمون دراسات جيدة في بعض الجوانب التي لا تنافي مصلحة الغازي الفكري، وهؤلاء يعملون على تقديم القراءة الجدية بصبغة إنسانية تدغدغ مشاعر البسطاء.

الأمر الثالث: محاولات تعميم القبول. إن الإنسان البسيط يخضع عادة لتأثير العقل الجمعي، ويعيش حالة من التبعية للغير، وهذا ما جعل القرآن الكريم يؤكد على أن الكثرة ليست عصمة عن الوقوع في الخطأ، يقول تعالى: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) سورة الزخرف آية 78، ويقول: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) سورة الأنعام آية 116، غير أن الإعلام الجديد يستثمر هذه التبعية ليصور أن الفكرة الوافدة منتشرة ومقبولة عند الأكثر أو الكثير، وهنا تأتي لعبة الاحصائيات، التي تصدرها جهات يظن عامة الناس أنها محايدة.

الأمر الرابع: استثمار المشاعر والأحاسيس، لإسقاط النفور الاجتماعي العام، فلكي يروج الإعلام الجديد فكرة الزنا كحق شخصي، أو الشذوذ كطبيعة سوية، لن يقول للناس مباشرة: (الزنا والسحاق واللواط و مقاربة البهائم والحشرات أو الجمادات أمر حسن، وهي حريات شخصية)، فهذا هو الأسلوب الإعلامي الفاشل، والذي كان معمولاً به في القرن المنصرم، و إنما سوف يقومون مثلاً بصناعة مسلسل من حلقات متعددة قد تصل إلى 250 حلقة أو أكثر، وتقدم بطريقة متقطعة ـ مثلاً في كل أسبوع تعرض حلقة ـ لخلق روح الترقب والانتظار في مدة أطول يعيش فيها الناس أجواء المسلسل، وسوف يهتمون بالإخراج و يطبقون أعلى معايير الحرفيّة، ويستخدمون أكثر الممثلين شهرة و قبولاً، ويضمنون المسلسل أحداثاً تشغل المجتمع، وتلفت عنايته، كما يعرضون جملة من المشاكل مع علاجها، و يروجون بعض القيم، ولكن يمررون من خلال هذا فكرة أو فكرتين تشكل خوارزمية تتبعها تداعيات متعددة على الفكر والسلوك، كأن يقدمون شخصية امرأة جميلة  وبسيطة وعفوية، تقوم بدور رعاية أسرتها، حيث يعيش أبوها المقعد المصاب بأزمة قلبية بلا عمل، وكذلك أخوها الكبير القاسي عليها، وهكذا تستمر الحلقات المتعددة تبرز لنا مآثر و تضحيات هذه المرأة، و تبين لنا تسامحها ومحبتها للناس حتى نحب هذه الشخصية و نندمج معها و نتمنى أن لنا مثل ما عندها من الصفات الجميلة و الأخلاق الحسنة، غير أنه في الحقلة بعد 100 يحدث تغير، وهو أن هذه المرأة المضحية والمثابرة حدث عندها ميول إلى جارها المتزوج، وزميلتها في العمل، فوجدت في العلاقة الحميمة معهما متنفساً من صعوبات الحياة و ضغوطاتها، غير أن اطلاع والدها الذي لا يُقدر حالتها قد يودي بحياته، كما أن معرفة أخيها قد يؤدي إلى أن يقتلها أو يضربها فتزداد معاناتها، وهذا ما لا يريده المشاهدون البسطاء لهذه الشخصية المحبوبة طلية 100 أسبوع، فيتمنى المشاهدون أن لا يطلع أبوها فيموت، أو أخوها فيضربها، وإذا كان في حلقة ما اقترب أخوها الكبير من غرفتها الخاصة في وقت إقامة العلاقة الحميمة الشاذة، يتوتر المشاهدون، و يتمنون أن لا يفتح الباب، ولربما يعقد بعضهم نذراً لسلامتها، لأنه لا يريد لهذه الشخصية المحبوبة السوية المستقيمة المضحية أن تضرب!

وبهذا يكون الشذوذ أمراً طبيعياً قد تمارسه الشخصية الفاضلة، وكون الشخص شاذاً لا ينافي المحبة والتعاطف ولا يسوق العقوبة، ويتبرمج المجتمع على إعطاء الشواذ حقوقهم في ممارسة الشذوذ، ويتقبل الذوق العام، ثم يسهل على هذا الذوق العام أن يرفض الدين أو يراه قراءة متوحشة لما أنزله الله تعالى، وهكذا تحقق لهم ما يريدون ولكن بطريقة ناعمة مشوقة لا تكلفهم الشيء الكثير.

من هنا نحن بحاجة إلى مؤسسات استراتيجية إعلامية ترصد حركة الإعلام بدقة، وتدرس منطلقاته، وتقوم ببيان مواطن الخلل فيه، وتقدم بدائل تغني، مستثمرة آخر ما توصل إليه العقل البشري للإعلامي في ترويج الحقيقة والفضيلة.