عقلية القطيع وضياع الحقوق

لم أقرأ (سيكولوجية الجماهير) لطيب الذكر غوستاف لوبون رغم أنَّ الكتاب عندي، ولكني سمعتُ عنه كثيراً من الذين قرأوه، وقرأتُ عنه قليلاً من الذين انتقدوه، فصار عندي من تلك النقود وهذا السَّماع شيءٌ من علم بمضمونه.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ولستُ أدري إلى الآن أكان يُريدُ بعنوان كتابه معنى (عقلية القطيع) أم لا، ولكن لمَّا كان التطبيق العمليُّ للشيءِ خيراً من التقريب النظري فأنا أشهدُ أنَّه لم يعرف الطريق إلى تلك العقلية غير الساسة، إنَّهم يشعرونَ بها كما يشعر الفنانُ بألوان لوحته، ويحسُّ الشاعر بقوافي قصيدته فكما أنه ليس من رجلٍ يبذُّ الفنان في الإحساس بمواطن الجمال في اللوحة، ولا من شخصٍ يبزُّ الشاعر في التمتع بأماكن الروعة في القافية فكذلك لا أحد – فيما أزعمُ – يفوق السياسيَّ بتحسس براعم هذه العقلية في نفوس الرعية، والشاهدُ على ذلك ما تراه منهم من تلاعبٍ في عقول الرجال والنساءِ من الشعب ظنَّاً منهم أنَّه يريد مصلحتهم ويعمل لصالحهم ،حتى إذا استوى ما خطط له على سوقه تلاعب مرةً أخرى بعقول النساء والرجال فعادوا من بعد كما كانوا من قبل.

ها هو معاويةُ يقول لأمير المؤمنين عليه السلام: إني أقاتلك بمائة ألفٍ لا يفرقون بين الناقة والجمل!! وهما أمران حسيَّانِ يُدركان بالبصر فكيف بالأمور المعنوية التي تُدركُ بالبصيرة؟

ولأجل هذه العِلَّة بالذات صار كثيرٌ من المسلمين يدخل المطاعم فيدفع ثمن (نفر كباب غنم) وهو يأكله (نفر كباب حمار)!

لقد كانت عائشةُ تقول في عثمان: اقتلوا نعثلاً قد كفر، فلما قتله المسلمون بتأثير صيحتها تلك وعلِمَت أن أمير المؤمنين عليه السلام سيتولى الخلافة بعده قالت: قُتِل - واللهِ - عثمانُ مظلوما!!

حتى قال لها ابن أمّ كلاب متعجباً وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا : إنه قد كفر

فالسياسةُ حين تريدُ لعثمان أن يكون نعثلاً، فهو نعثلٌ لامحالة، وحين تُريد أن يكون عثمانُ مظلوماً فهو مظلومٌ لامحالة، وعقلية القطيع لا تمانع أن يكون نعثل اليوم مظلوم الغد مادام السياسيُّ يتحسَّسُ مواطن الغفلة في عقلية هذا القطيع، ويعرف كيف يستغلَّها ويستمتع بها كما يستمتع عاشقٌ بوجه حبيب، أو يلتذُّ حالِمٍ بطلعة قمر.

والنَّاسُ رأت بعينها أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام نصح عثمانَ غير مرة، وحذَّره طوراً وخوَّفه تارة، وأنكرَ عليه أخرى، ولكنَّ النَّاصح الأمين كما رأته الناس بعينيها صار قاتلاً كما سمعته أذناها، فصدَّقت ما سمعت وكذَّبت ما رأت وتلك خصال عقلية القطيع!

 فخرجت عائشة زوجُ النبيِّ – صلى الله عليه وآله - تطلب الإصلاح من رقبة عليٍّ أمير المؤمنين – عليه السلام – وخرج معاويةُ يطلبُ بدم عثمان، وخرج ابنُ العاص يطلب بحكم المصاحف.

ولم تبدأ عقلية القطيع في هذا الجيل، بل كانت يوم اجتماع السقيفة وقول القائل منَّا أميرٌ ومنكم أمير، حتى قاد أبو حفصٍ عمر عقلية قطيع السقيفة بحركتين، الأولى لما زعم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله لم يمت فصدَّقت به النَّاس وجثمانه صلى الله عليه وآله - بين ظهرانيهم غير بعيد، والأخرى لما قال لأبي بكر امدد يدك ابايعك، فانعقدت البيعة

والحاصل أنَّه كلما كانت هناك عقلية للقطيع فاعلم أن هناك حقاً مضاعا.