هذه ’النجف’ يا سادة!

النَّجف التي يمتدُّ عمرها لأول حوزةٍ علميَّة كانت بذرةً غرسها الإمام الصادق في جامع الكوفة، واستطالت شجرةً مورقةً بالعلم، مزدانةً بالفقه، ومترعة بسحر القوافي، ممرعةً بربيع الآداب.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

النَّجف اليوم نجفان، النَّجف الحديثة وهي ما بعد ساحة ثورة العشرين إلى الكوفة وعلى يمين الشارع ويساره، والنَّجف القديمة التي هي المحلَّات الأربع المشراق، والبراق، والعمارة، والحويش وما يليها من الجديدات.

وهي التي أريد أن أحدّثُك عنها، في هذه المحلات غصَّ بلعوم المساجد بحلقات الدَّروس، وترنَّمت شفاه النُّور بقافية النَّهار، وتنفَّس صبح الفقاهة بفجر المرجعيَّة العُليا.

وهنا وُلِدَت من رَحِم المباحثة جملة: إن قلتَ قلتُ، تُقال بلهجةٍ علمائيَّةٍ مُحبَّبةٍ فيها مدٌّ حين يستطيل الاعتراض في أثناء المُباحثة ليغدوَ اعتراضاً مُستحكما، وفيها جزرٌ حين يلوح الاعتراض نجماً في سماء الحوار ثم يسقط شهابا آفِلا.

وهنا توقفك يد المطلب في محطَّة للتأمُّل، حين لا يطول الدليل سماء الدعوى، وهنا ترتسم لوحة البرهان التي فيها نظرٌ عند أولي النَّظر.

بعد صلاة الفجر يخرج طالب الحوزة يطلب رزقه من العلم كما تطلب الطيور رزقها من الطعام، يروح خميصاً ويغدو بطيناً من المعرفة، يغرف من هذا الدرس معلومة، ومن ذاك نُكتةً علميَّة، ومن غيرهما شيئاً آخر.

ثم هو يرى تقوى استاذه وورعه، فيترسَّم خُطاه في سبيل التقوى، ويقصُّ أثرَه في طريق الورع، ويصبُّ الأستاذ في قالبه من سبيكة خُلُقِهِ ما يتشكل معها الطالب قطعةً مجسَّدةً من الدين تنطق برسمه وتتحلَّى بوسمه، فيكون أسوةً للزهد، قدوةً في العبادة، مثالاً للخوف من الله تعالى.

وأمَّا هذه البيوت المُتراصَّة، والمنازل المتلاصقة فكم شهدت من قبس معرفةٍ لمفكر، أنارت أفقاً للبشرية وأضاءت سماءَ وكم أشرقت فيها بارقة فقهٍ لمجتهد، فتحت درباً للفقاهة وعبَّدَت طريقا.

وكم توهَّجت منها شعلةُ رجزٍ لشاعرٍ ألهمَت روحاً لمُدنفٍ وكوَت قلوبا.

ها هنا صبَّ الساقي خمر الصبابة في كؤوس العاشقين فشربوا حتى الثّمالة، فكان منهم العرفاء، ويصدح شاعرُهم:

يا غزال الكرخ وواجدي عليك***كاد سرِّي فيك أن ينهتكا.

على هذه الأرض كتم المُحبون حرارة الغرام في صدورهم الولهى، حتى حزَّت سيوف الوجد رؤوس قلوبهم، فأضحوا صرعى الشهادة، وصارت قوافل القرابين على معبد التضحيات تنطق بلسان حالها: خُذ حتى ترضى.

وهنا قرب مربض المرتضى وعند مدينة عيبة باب علم المدينة، تزدهر الحلقات في الجوامع كما تزدهي الزهور في الرياض، فكلُّ حرفٍ يتلى هو جزءٌ في عملية استنباط الحكم الشرعيِّ، حتى إذا كملت سلسلة قوافل الكلمات، تجمَّعت أبعاض الحكم فإذا هو فتوى خالدةٌ تحارب داعش الأمريكان مرة، وتقهر تنباك الإنكليز أخرى.

إذا أردت أن تعرف النَّجف الأشرف فتعلَّم 

أن إبراهيم عليه السلام اشتراها من قبل، وجدَّد شراءها أمير المؤمنين عليه السلام من بعد

وأنَّه بعد أن اشتراها ليُحشر منها سبعون ألفاً بغير حسابٍ في مُلكه - كما في الرواية - قام نوحٌ عليه السلام - فحفر فيها قبراً للإمام عليه السلام وجعله له دخرا، وكتب على صخرته البيضاء التي تلمع نورا: (هذا قبر ٌادخره نوح النبي لعلي وصي محمد قبل الطوفان بسبعمائة عام).

اضطجع فيها بين أبويه آدم ونوح، واتَّخذها قبراً مع أخويه هودٍ وصالح.

وستُحشر هذه الأرض - كما في بعض الروايات - لتكون قطعةً من أرض الجنَّة - مع أرض كربلاء - ينعم بها الأنبياء والأوصياء عليهم السلام.

يا سادة

ليست النَّجف دهين (ابو علي) ولا طرشي (الحبوبي) انها أكبر من ذلك بكثير.