ذكريات الجمعة: تجنّبوا العنف.. هكذا نواجه ’المسيئين’

إن الإسلام حرص على إقامة الروابط والعلاقات الاجتماعية المتماسكة بين المؤمنين المنتمين إليه لكي يحفظ هذا الحرص الشديد من الإسلام على إقامة علاقات اجتماعية متماسكة، وليحفظ للمجتمع تماسكه وقوته حتى يستطيع أن يواجه المشاكل الداخلية والخارجية والتحديات والمصاعب التي يمر بها الفرد والمجتمع.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وفي نفس الوقت يعطي القدرة للفرد والمجتمع للنهوض بأعباء التنمية والتطور والاستقرار والازدهار، في نفس الوقت حذّر من المخاطر الكبيرة في الدنيا والآخرة من التحديات والخروقات وعدم الالتزام بالمنظومة الاجتماعية، منظومة التعايش الاجتماعي.

لفد بيَّنا أن التعايش الاجتماعي والثقافي يكون بين مكوّن له دين مع مكوّن له دين آخر وبين مكوّن له انتماء قومي معين مع مكون له انتماء قومي آخر وبين مكوّن له انتماء مذهبي مع مكون له انتماء مذهبي آخر.

هناك مخاطر تؤدي الى ضعف التماسك الاجتماعي بحيث لا يستطيع الفرد او المجتمع أن يواجه المشاكل والمصاعب الداخلية والخارجية ولا يستطيع الفرد او المجتمع أن ينهض بأعباء المهام من التطور والازدهار والاستقرار وغير ذلك. وذكرنا جملة من الأمور المهمة التي تهدد العلاقات الاجتماعية، وكانت منها: مسألة التعصب والنظرة الفوقية والاستعلاء على الاخرين، وسنذكر الآن جملة من الامور التي تهدد التعايش الاجتماعي، ومنها: (استخدام اسلوب العنف في التعامل مع الاخرين).

إن الانسان عادة قد يواجه اختلافات ونزاعات ومشاكل اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، وقد يواجه مشاكل في داخل الأسرة او المدرسة او الوظيفة او المجتمع. وقد تحصل احتكاكات مع الافراد في المجتمع أو اختلاف مع الاخرين في المواقف والآراء، يصل أحيانا الى مرحلة التجاوز عليه من قبل الآخرين، فما هو الأسلوب الإسلامي الذي لو تعامل به الإنسان مع الآخرين في مختلف هذه القضايا لتمكن من الحفاظ على قوة العلاقة والارتباط مع الاخرين ولو نهجَ أسلوباً آخر لأدّى به الى توتر العلاقة وحصول التصادم وحصول نتائج غير محمودة.

في أغلب الأحيان يلجأ الإنسان الى الأسلوب العنيف، فيكون تارة بالكلام وتارة بأسلوب الخطاب وتارة بالتصرّف.. فيكون الانسان على قسمين، قسم قادر على ضبط انفعالاته وعواطفه ومواقفه تجاه هذا النزاع والمشكلة، وقسم يلجأ الى الأسلوب العنيف حتى في الكلام وفي مواجهة مشاكله، فيرد عليها بأسلوب عنيف بعيد عن ضبط المشاعر والأعصاب. والإسلام حذّر من استخدام هذا الاسلوب؛ لأنه يؤدي الى تعقيد المشكلة والى صعوبة الحل وربما يواجه بأسلوب مماثل من العنف فيؤدي ذلك الى تعقيد اكثر.

أحيانا قد تكون المشكلة بسيطة ولكن أسلوب العنف الذي يستخدم يحوّل القضية الى أمر معقّد ويصعب حلّه. والإسلام اعتبر ضبط ردود الأفعال والمشاعر والعواطف جهاد للنفس والجهاد الأكبر، واعتبر الجهاد بالسلاح الجهاد الاصغر؛ لأن الآثار المترتبة على عدم ضبط المشاعر وردود الفعل خطيرة جداً.

لذلك ومن أجل الحفاظ على هذا التماسك الاجتماعي يدعو الإسلام للتعامل بهدوء مع هذه الاختلافات والمشاكل والنزاعات مع الآخرين.

الأمر الاخر الذي يهدد سلامة العلاقات الاجتماعية هو استخدام الحوار السلبي والنقد غير البنّاء.

يعتبر الحوار من أهم الاساليب وأفضل الآليات للتعايش الاجتماعي الإيجابي، فمن الأساليب المهمة والفعّالة في معالجة وإصلاح العيوب والزلّات والعثرات وتصرفات الآخرين هو النقد البنّاء.

ما معنى النقد البنّاء؟ اذا شاهد الإنسان عند أحد الأشخاص زللًا او خطأ، عليه ان يؤشر له ويبّين له أن هذا خطأ، ولكن على أن يكون هذا التأشير موثوقاً ودقيقاً غير مبني على التسرع والأخذ بظواهر الأمور ويحكم وفق ظواهر الأمور. لابد أن يكون النقد بنّاءً ولابد أن يكون التأشير أمراً موثوقاً به ومتأكداً منه. وطرح النقد بأسلوب لا ينتقص فيه من الآخرين ولا يحط من شأنهم العلمي والاجتماعي وهذا من الأساليب الحيوية لتنبيه الآخرين على عيوبهم وزلاتهم وعثراتهم وإصلاحها.

من المؤسف أن نرى في الغالب أن ثقافة الحوار والنقد البنّاء غائبة عن أوساطنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، ففي كثير من الأحيان لا يكون الحوار موضوعياً ولا يكون مبنياً على أسس علمية ويكون حواراً سطحياً. فلابد أن يكون الحوار بيني وبين الآخر حواراً موضوعياً علمياً، واذا كان هناك نقد فيجب أن يكون غير مبني على إظهار عيوب وزلاّت الآخرين.

لذلك ننصح في الحوارات والندوات التي تقام في الفضائيات او الندوات العامة او الجلسات الاجتماعية، وغيرها. أن يكون الحوار علمياً دقيقاً مبنياً على الأدلة والعمق، وفي نفس الوقت اذا كان هنالك نقد ويُطرح من خلال وسائل يشاهدها ويسمعها الكثير من الناس فلابد أن يكون هذا النقد مبنياً على الوثوق والتأكد، وأن يكون الأسلوب الذي يستخدم لا يجرح مشاعر الاخرين، ولا ينتقص من شخصيتهم او يستهين بهم.

ومن الأمور التي تهدد سلامة العلاقات الاجتماعية هو هتك حرمة الآخرين والاستخفاف بهم وتحقيرهم.

إن للمؤمن حرمة عظيمة عند الله تعالى حياً وميتاً، حاضراً وغائباً، وقد حثت الأحاديث على إجلال المؤمنين بعضهم لبعض، واحترامهم وتوقيرهم والتواضع لهم ونهت بشدّة عن أي أسلوب فيه استهانة او استخفاف او تحقير او توهين او انتقاص، واعتبرت ذلك من الاستخفاف بالدين؛ بياناً لمنزلة المؤمن وموقعه في نظر المشرع الاسلامي، إذ ورد في الحديث الشريف (من عَظَّمَ دينَهُ عَظَّمَ إخوانَهُ، ومَنِ استَخَفَّ بِدينِهِ استَخَفَّ بِإِخوانِهِ).

ولكن نجد أن البعض يتتبع عورات الاخرين وزلاتهم وعثراتهم ويذكرها أمام الآخرين او ينتقص من شأنهم او يصدر عنه فعل او قول او نظرة فيها احتقار او ازدراء او استخفاف بالآخرين او طعن بشخصيتهم الاجتماعية، مما ينشأ عنه الحقد والعداوة والتقاطع الاجتماعي.

ومن الأمور التي تهدد سلامة العلاقات الاجتماعية هي (فلتات اللسان والتسقيط الاجتماعي)

فلتات اللسان من قبل الغيبة والنميمة والفحش والسب والبهتان والافتراء والكلام البذيء الذي يصدر عن الانسان وهذا قد يؤدي الى الحط من المنزلة الاجتماعية للمؤمنين، فحينما يغتاب الانسانُ إنساناً آخر تكون النتائج ما يأتي:

أولاً: إن الله تعالى يريد منك ان تُحب أخاك واذا اغتبت الآخر تتبدل مشاعر الحب بمشاعر البغض والكراهية.

ثانياً: هذا يؤدي الى تسقيطه اجتماعياً بحيث لا تبقى له منزلة والتسقيط الاجتماعي يؤدي الى المقاطعة الاجتماعية من قبل الآخرين لهذا المؤمن الذي اغتبته او حصلت النميمة عليه، والمقاطعة الاجتماعية تؤدي الى أن يعيش أخوك المؤمن حالة من العزلة الاجتماعية والى أن يعيش الإنسان حالة من الهم والغم والشعور بهذه العزلة التي تعرقل عليه تحصيل مصالحه المعيشية والاجتماعية.

كل هذه الآثار هي نتائج لزلّات الانسان. لاحظوا كيف أن هذه الآثار تنتقل في المجتمع، بينما يريد الله تعالى دائماً تواصلاً وتحابباً بين المؤمنين، ولاحظوا أن التسقيط الاجتماعي للمؤمن أشد من القتل الجسدي، فالقتل الاجتماعي بتسقيط شخصية الآخرين تؤدي الى المعاناة طوال حياتهم.

لذلك ورد أنه من الصفات التي يجب أن يتصف بها المؤمن هي مراقبة لسانه دائماً، وورد في الحديث (إن لسان المؤمن من وراء قلبه) أي على الإنسان أن لا يتسرع في كلامه، وأن يعرضه على قلبه، ليكون (مصفى) لهذا الكلام، فإن وجد القلب والعقل ان هذا الكلام فيه نفع وخير أمضاه، وإن وجد القلب والعقل أن هذا الكلام فيه مضرّة وغير مقبول شرعاً وعقلاً أمسك عنه.

إن لوسائل التواصل الاجتماعي والمواقع المتعددة من تويتر وفيس بوك وغيرها مساهمة بشكل كبير في آفات اللسان، فقد يتكلم شخص أمام عدد قليل من الأشخاص عن عالِم او مرجع او شخصية اجتماعية، فسيؤثر بهذا الكلام ويترتب عليه موقف فهؤلاء الأشخاص القليلون من الممكن أن يصبحوا عشرات الآلاف. وفي يوم القيامة يظهر في سجله الآثار التي ترتبت على العشرة آلاف .

لذلك أيها الاخوة والاخوات اذا كانت الأحاديث تحثنا على أن نتوقف لنراجع أحاديثنا، وإذا أردنا ان نكتب في أي موقع او وسيلة من وسائل التواصل الحديثة والتي تنشر كلامنا لعشرات الآلاف، فينبغي أن نتوقف ألف مرة ولا نتسرع فيما نكتب، خصوصاً أن بعض الكتابات تولد موقفا ورأيا عند مجموعة كبيرة من الناس قد يمتد عبر سنوات. لذلك علينا اخواني ان نلتفت الى الاثار الخطيرة المترتبة على ذلك.

المصدر: الخطبة الثانية من صلاة الجمعة 8 جمادى الأولى، الموافق (26كانون الثاني 2018م )

بإمامة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي