لماذا لم يذكر القرآن كل الأديان والأنبياء؟

هذا أحد الإشكالات التي أثارها المستشرقون أيضاً. وقد سبق لنا أن ذكرنا الإجابة عنه في الجزء السابع من كتاب التمهيد. إن المستشرقين إنما أثاروا هذا الإشكال بهدف إثبات قلّة معلومات النبي الأكرم في هذا الشأن؛ لأنهم على كل حال بصدد إثبات أن القرآن إنما هو من تأليف شخص النبي الأكرم، وأنه لا صلة له بالوحي والسماء، وإن من بين الأدلة على ذلك المستوى المتدنّي من المعلومات التي يمتلكها في هذا الخصوص! وبطبيعة الحال فقد أثاروا إشكالات أخرى أيضاً، من قبيل: إن بعض المعلومات التي يقدِّمها النبي لا تطابق الحقائق، ولا يمكن لها أن تكون من الوحي في شيءٍ! وقد أجبنا عنها بأجمعها. وحتى في مورد قولهم: إن القرآن يحتوي على أخطاء تاريخية أثبتنا أن الذي وقع في الخطأ التاريخي هم أنفسهم، بمعنى أن الوثائق التي قدَّموها لإثبات وقوع القرآن في الخطأ التاريخي تثبت أنهم هم المخطئون، وليس القرآن.

إن القرآن الكريم قد خاطب العرب، وعليه يجب أن يتكلَّم بلغةٍ يفهمونها، وفي ذلك يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)، بمعنى أن كل نبيٍّ يجب أن يكون على معرفة كاملة ودقيقة بجميع تقاليد وعادات القوم الذين يُرْسَل إليهم، بل ويجب أن يكون مُلِمّاً بجميع أساليبهم اللغوية وحواراتهم اليومية؛ لأنه يعتزم التفاهم معهم، فلو عجز النبيّ عن إثبات وترسيخ أهدافه بين القوم الذين بعث فيهم سيكون عن هداية غيرهم أكثر عجزاً؛ إذ يتعين على قومه وأبناء منطقته إعانته ومساعدته في نشر رسالته، وعليهم أن يشهدوا له بالصدق والصحّة. ومن هنا كان المخالفون يبذلون كل جهدهم من أجل إثبات كفر أبي طالب وعبد الله وحمزة بن عبد المطّلب وغيرهم من القرابة القريبة من النبيّ الأكرم؛ ليخلصوا إلى نتيجة مفادها أن النبيّ لم يكن مرسلاً من الله؛ بدليل أن المقربين من أهل بيته لم يصدِّقوا به ولم يؤمنوا له! ومن هنا كان الأئمة من أهل البيت عليهم السلام يُصرُّون منذ البداية على تكذيب هذا الادّعاء، والقول بأن أبا طالب لم يكن مؤمناً فحَسْب، بل كان من أوّل الناس إيماناً بنبوّة ابن أخيه. إن هذه المسألة لا يخفى تأثيرها من ناحية علم الاجتماع، ولا من ناحية علم النفس، في التبليغ والدعوة. إذن يجب أن يفهم الناس كلامه، وأن لا ينطوي بيانه على أيّ غموض وإبهام، ومن هنا فإنهم كانوا يفهمون القرآن جيداً؛ لأنه كان يستخدم لغتهم وأساليبهم الكلامية. وبطبيعة الحال فإن هذا لا ينافي أن يكون القرآن قد نزل بشكلٍ أجمل وأقوى وأمتن وأرفع من المستوى الأدبي الذي كانوا عليه، حتّى أنه كان معجزةً من هذه الناحية، ولكنه في الوقت نفسه لم يخرج عن حدود معرفتهم.

عندما يتكلَّم النبيّ فمن الواضح أنه يأتي بشواهد تاريخية على إثبات دعوته، بمعنى أنه يأتي بشواهد من تاريخ الأمم والأديان السابقة والأنبياء السابقين. ومن الطبيعي أن الشاهد إنما يكون مقبولاً إذا كان المخاطب يعرفه، بمعنى أنه إذا ذكر اسم أمّةٍ ما يجب أن يكون المخاطبون على معرفة بتلك الأمة، وإذا ذكر اسم نبيٍّ يجب أن يكونوا على معرفة به؛ إذ لا تأثير لمجرد الادّعاء بوجود نبيٍّ في قرية لا نعرف مكانها من الكرة الأرضية، وأنه قام بهذا الإنجاز لقومه، وترك هذا التأثير على أمته وأبناء شعبه؟ فحتّى قصّة عاد، التي تُعَدّ اليوم مثار بحثٍ وجدل؛ حيث لا يزال هناك غموضٌ حولها، وإن البلدة التي كانوا يقطنونها لا تزال إلى اليوم من بين الأماكن التي لم يتمّ اكتشافها، ولكنها في عصر النبيّ ونزول القرآن كانت معروفةً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأحقاف، حيث تقع بين اليمن وحضرموت، ومكانُهم معروفٌ، إلاّ أن السكان هناك معروفون بشدّة البأس والقتال، وإنهم لذلك لا يسمحون بإجراء حفريات في مناطقهم، وقد حاول حتّى بعض تجار حضرموت القيام بهذه الحفريات والتنقيب عن آثار في الأحقاف، وأنفقوا أموالاً طائلة، وحصلوا على بعض الأشياء، بَيْدَ أن سكان تلك المنطقة حالوا دون إتمام المشروع. هناك في الأحقاف الكثير من الرمال التي لا تحتاج إلاّ لقليلٍ من الريح كي تغيِّر معالم المنطقة بلمح البصر.

إن القرآن الكريم يذكر مسألة عادٍ للمخاطبين من العرب وكأنّهم يعرفونهم بداهةً، حيث يقول لهم: إنكم قد رأيتموهم وخبرتموهم. وقال تعالى بشأن قوم لوط عليه السلام: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (الصافّات: 137 ـ 138). فقد كان موضع سكناهم قريباً من الأردن، وكان سكّان شبه الجزيرة العربية في أسفارهم إلى الشام يمرّون بهم عند الصباح، وعند عودتهم كان كلّ شيء على مدى رؤيتهم، بمعنى أن العرب لم ينكروا شيئاً من هذه الأمور التي عرضها القرآن عليهم، والقرآن بدوره إنما أراد بذلك منهم أن يشهدوا له بالأحقّية.

ثم إن القرآن الكريم يقول: (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (النساء: 164)، بمعنى أن هناك أنبياء لم يَرِدْ ذكرُ أسمائهم في القرآن؛ إذ لا توجد فائدةٌ ترجى من ذكر أسمائهم؛ لأن المخاطبين لم يكونوا يعرفونهم. فعلى سبيل المثال: لو مسّت الحاجة إلى ذكر بعض سلاطين الجور من الذين تمّ إسقاطهم، والاستشهاد بهم لداعي الاعتبار، يكفي بطبيعة الحال أن نذكر أسماء ثلاثة منهم؛ إذ من غير المعقول أن نأتي على ذكر أسماء جميع سلاطين وملوك الجور الذين شهدهم العالم، وتمّت الإطاحة بهم جميعاً. يقول علماء البلاغة: إن عدم رعاية أدنى النكات البلاغية من شأنه أن يسقط الكلام من الاعتبار والتأثير، ومن هنا فإننا إذا أردنا الاستشهاد بوجود أممٍ تمرَّدت على الأوامر والأحكام الإلهية، وأنها تعرَّضت للعذاب، وأنه كان هناك أنبياءٌ نجحوا في هداية أقوامهم أو لم ينجحوا في ذلك، يكفي أن نذكر بعض المصاديق والأمثلة القليلة على ذلك. ومن الطبيعة أن تقتصر هذه الأمثلة على الأنبياء الذين يعرفهم المخاطب، دون أن تكون هناك حاجةٌ إلى ذكر جميع الأنبياء. وعليه فإن عدم ذكر سائر الأنبياء لا ينهض دليلاً على أن المتكلِّم لم يكن يعرفهم، أو أنه لا يعترف لهم بالنبوّة، بل لأنه لم يجِدْ حاجةً أو ضرورة إلى ذكرهم بعد اكتفائه بمَنْ ذكرهم، ومعه يكون ذكرهم زائداً على الحاجة، وغير مُجْدٍ؛ لأنه لا ينطوي على ثمرة بالنسبة إلى المخاطبين.