جيش من المستشارين: كيف يطبخ القرار لدى المرجعية الشيعية؟ -3-

 الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع «الأئمة الاثني عشر»

الحلقة الثالثة (الاخيرة)

تكلمنا في الحلقة الاولى و الثانية عن مجموعة عوامل تساهم في صناعة القرار لدى المرجعية الشيعية وهذه العوامل كانت:

  • العامل التربوي (الصقل بالروايات).
  • العامل الخبروي (تراكم التجربة).
  •  العامل الأخلاقي (التجرد عن المصالح).
  • العامل الغيبي (التسديد).
  • العامل الخامس- الحوزة جيش من المستشارين:

    تخيل أنك تدخل الى غرفة العمليات الرئيسية لحلف الناتو، كم ستجد من الخبراء العسكريين المخضرمين ؟؟ أو تدخل الى وكالة ناسا الفضائية، كم ستجد هناك من علماء الفلك ؟؟

    فإذا دخلت الى حوزة النجف الأشرف، ستجد الكثير من العلماء والفضلاء الذين تتوفر فيهم جميع العناصر السابقة من تربية عالية وخبرة متراكمة ودوافع اخلاقية وتسديد الهي، وستجد نفسك بين قمم شامخه.

     على مر الزمن، ترى في حوزاتنا العلمية تنوعاً عجيباً لا تراه في أي من جامعات العالم!!

     دوماً هناك خبراء بارعون في الاقتصاد والرياضيات، من السيد أحمد الخوانساري الى الشهيد السيد محمد باقر الصدر، الى ما شاء الله.

     ودوماً هناك خبراء بارعون في اللغات القديمة، من الشيخ البلاغي، الى السيد سامي البدري، الى ما شاء الله.

     ودوماً هناك خبراء في الفلسفة، من الميرداماد والملا صدرا، الى العلامة الطباطبائي، الى ما شاء الله.

     ودوماً هناك خبراء في السياسة والتعامل مع الخصوم، من الشيرازي والأصفهاني، الى الخميني والخوئي والسيستاني والخامنئي، ودوماً هناك خبراء في التاريخ، والرجال، والأديان، والعلوم العربية، وغير ذلك الكثير.

     لا ننسى كم مرة طرقت باب النجف الأشرف وقم المقدسة وقصدها الفلاسفة والمؤرخون والادباء والسياسيون ليتزودوا من نبع حوزة أهل البيت عليهم السلام، وشواهد ذلك كثيرة حتى يزدحم الجواب.

     قبل قرابة ١٥ سنة كنت بخدمة سماحة الإمام المفدى السيد السيستاني دام ظله أريد أن أسأله عن مسألة، وكان يجلس بجواره الشيخ محمد صادق الكرباسي (النحوي المعروف) وشيخ اخر، فقال الشيخ الكرباسي: لقد وصلتني دعوة من الأزهر في مصر للحضور وإلقاء محاضرات في العلوم العربية مقابل راتب مجزي.

    فنظر إليه سماحة السيد وبقي ساكتاً، فتكلم الشيخ الاخر وقال باستنكار: شكو، شيريد الأزهر، إبقة هنا بالنجف، النجف أحوج لكم، وعندها تبسم الكرباسي وتبسم سماحة السيد دام ظله وكأنه رضي بجواب الشيخ.

     هذه الخبرة في كل العلوم والفنون تذكرنا بتلك الحلقات النورانية التي كان يجلس فيها الأئمة المعصومون عليهم السلام وحولهم رجال أفذاذ كمجلس الإمام الصادق عليه السلام وحوله زرارة بن أعين وهشام بن الحكم ومؤمن الطاق وغيرهم، ولو تناولت سيرة كل واحد منهم لرأيته عالماً عجيباً بحد نفسه، ومختصاً بعلم يبرع فيه الى حد لا يجارى.

     وكذا لو دخلت مجالس علمائنا، ونظرت الى المحيط بهم من رجال العلم والفضيلة، لوجدت لكل منهم من القصص ما يجعلك تقول، هذا فقط ولا غيره.

     وهذا الجيش من المستشارين والخبراء، الذي يؤدي وظيفته في إبداء الرأي والمشورة خالصاً لله تعالى، هو من يعزز قرار المرجعية الدينية وينضجه الى الحد الذي يكون مدروساً من كل نواحيه بشكل كامل غاية في الدقة.

     يقول أمير المؤمنين عليه السلام (من شاور الرجال شاركها في عقولها) غرر الحكم / 10057

    فكيف إذا كان الرجال، علماء.

    فترة سقوط الطاغية وما تلاها في العراق، عشنا فيها ولمسنا جهود شخصيات فذه لاتزال تساند مرجعية النجف وتقدم لها الرأي والمشورة، وكثيراً ما صدرت مواقف من سماحة السيد دام ظله كانت نتاج تشاور عميق مع تلك النخبة المخلصة من علماء حوزة النجف وبعض الشخصيات من خارج النجف، ولأن كانت المصلحة اليوم في عدم التفصيل وذكر الأسماء -لمخالفته رغبتهم - فإن النجف ستشهد لهم يوماً ما وتظهر فضلهم وجهودهم في خدمة المذهب، بكل إخلاص وتفان.

     خلاصة القول في هذه النقطة: إن لدينا منظومة متطورة للدراسات الاستراتيجية وفهم كامل للأحداث ومعرفة تامة بتقلبات الأمور، واجهت بها حوزة النجف كل الظروف بوعي وبصيرة لانظير لها، فعلى سبيل المثال:

     فتوى الجهاد ضد الإنگليز (ثورة العشرين) التي أطلقها الميرزا الشيرازي، سبقتها اجتماعات مكثفه للعلماء وتداول في هذا الأمر الخطير المتعلق بدماء واموال وأعراض الناس، نعم نحن نسمع بالميرزا الشيرازي ولكن لا نقرأ عن الحيدري واليزدي والاصفهاني وغيرهم ممن كان له دور في هذه الفتوى.

     فتوى السيد محسن الحكيم ضد الشيوعية، سبقتها اجتماعات ومداولات دقيقه للغاية، نعم نحن نقول أن صاحب الفتوى هو الامام الحكيم، ولكن لا ننسى دور الامام الخوئي والسيد محمود الشاهرودي والسيد عبد الله الشيرازي والسيد محمد باقر الصدر والسيد مهدي الحكيم وغيرهم.

     فتوى العلماء التي استنقذت الامام الخميني من الإعدام، والرسائل العاجلة التي انطلقت من النجف الى قم تطالب الشاه بوقف الحكم وتحذره، كانت نتيجة طبخة ليلية لقرار صارم من المرجعية وكان لولبه الأساسي هم السيد محمد الشيرازي والسيد مهدي الحكيم.

     

     أنت تسمع عن قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني، ولكن لا تعرف كم من العلماء الأفاضل الذين ضحوا وسهروا وتعبوا في طبخ القرارات وإنجاز المهمات حتى جاد الكثير منهم بروحه الطاهرة في سبيل هذا الهدف كالسيد دستغيب والسيد بهشتي والشيخ مطهري وغيرهم الكثير، ومن العراق كان السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد الشيرازي من أوائل المساندين، ولا تتفاجأ اذا قلت لك ان الامام الخوئي كان في طليعة من مهد الطريق لهذا النصر الإلهي، نعم، وعندما تقرأ رسائله الى الشعب الايراني والامام الخميني والشاه، ستعرف أن الذين في قلوبهم مرض، لا يروقهم سماع ذلك.

    وأخيراً، ما عاشرناه في النجف أبان سقوط الموصل، كانت النجف تتحرك مثل خلية النحل لطبخ قرار حاسم بحجم هذه المرحلة، وبقوة ذلك الحدث، وكان السيد المجاهد الامام السيستاني، الذي قرأت عن ماضيه الجهادي والخبروي في الحلقتين السابقتين في أوائل المتصدين لاتخاذ القرار، ولولا انزعاج تلك الارواح المخلصة التي تعمل بالخفاء ولا تحب الظهور، لسطرت لك بماء الذهب أسماء من نور، لمن وقفوا في تلك اللحظات الحاسمة يدافعون عن مذهبهم ومقدساتهم بكل شجاعة، ويساندون المرجع الاعلى الذي بيده راية المذهب، ويقفون معه حبا وولاءً لتلك الراية الميمونة ان شاء الله، بينما راح بعض المرضى يبحث عن مصالحه الخاصة في هذا البحر من الدماء واللوعات، ويطمع بوقوع زلة من المرجعية، عسى ان ينزل قدرها ويرتفع قدره!

     كنت قد ناقشت بعض البسطاء المغرر به، بالشعارات الاسلامية كالانفتاح والرسالية والحركية وغيرها، وكان يقول لي ان السيد السيستاني ظاهرة فرعونية (كما يردد مرجعه الذي يقلده) ويقول دوماً إن فرعون يقول (لا أريكم إلا ما أرى) ومرجعكم السيستاني كذلك.

    قلت له: يا صديقي ان بعض المفلسين الذين لم يبق لهم وزن في النجف هم من يحاولون ان يزرعوا في قلبك هذا الشك، ولكي يرتفع هذا الاشتباه من ذهنك وقلبك أدعوك الى:

     الذهاب لزيارة علماء النجف -وبيوتهم مفتوحه- وسؤالهم: حينما تحصل اجتماعات ما قبل اعلان المواقف، هل يكون سماحة السيد مستمعاً أكثر منه متكلماً، وهل ينتهي الاجتماع بإجماع الحاضرين، أم برأيه الشخصي؟

     

     حين اجتمع العلماء الاربعة في بيته بالنجف بعد تفجير قبة الامام الهادي عليه السلام، هل كان مستمعاً أم متكلماً بشكل أساسي.

     ولماذا يا صديقي أعلن علماء حوزة قم المقدسة ومراجعها الكبار دعمهم وتأييدهم لهذا الرجل اذا كان يتصرف بوحي مزاجه الشخصي ولا يعبر عن رأي وقرار طائفة؟

     ولماذا يحتفظون باختلافهم معه بالآراء ولا يظهرونه أبداً للناس، ويحرصون على عدم إضعافه، ويعتبرونه اضعاف للمذهب، لماذا يفعلون كل ذلك، ان كان يتحرك بحسب رأيه ويمثل نفسه فقط ؟!

    دعني أسمي بالأسماء، لماذا يحترم السيد الخامنئي دام ظله وهو الولي الفقيه وجود هذا العلم في النجف لولا أنه يمثل الطائفة، هل قرات المراسلات بينهما؟

    ولماذا يحترم السيد الحائري دام ظله وجوده وقراره ويكرر دوماً الالتزام بأمره، هل قرأت بياناته؟

     كلا يا صديقي: علماؤنا أهل الآخرة والفناء في الله، لا تتوقع منهم إلا هذا التصرف، أما أهل الانا، الذين لا يطيقون انصراف وجوه الناس لغيرهم، فمن الطبيعي أن يستشيط بهم الغضب، ويتملكهم الحسد، ليقولوا عنه فرعون، ونمرود، وأكثر من ذلك.

     يحكى ان المرجع الراحل الميرزا ابو القاسم القمي كان في مجلسه ويحيط به طلبته اذ دخل المرجع الكبير مؤسس حوزة قم المقدسة الشيخ عبد الكريم الحائري قدس سره، ولما استقر به المجلس عرض مسألة على الميرزا القمي وناقشه فيها، وبعد النقاش كتب سطوراً على روقة واعطاها لخادمه وقال له امام الجميع: ان هذا هو جواب الميرزا القمي وهو ادق من جوابي، فاذهب الى غرفتي ومزق الجواب الذي كتبته انا وارسل هذا الجواب بدلاً عنه.

     انك رأيت العلماء اجتمعوا في قضية تفجير القبة الطاهرة، لقد صوروا ذلك الاجتماع لتخفيف الضغط النفسي عن قلوب الشيعة التي كانت تغلي حينها ولاتزال، وكانت رسالة الى الناس أن أمركم بيد أهله ولم تضع وحدة كلمتنا حول الاحداث المصيرية، واقتضت هذه الرسالة أن يصوروا ذلك الاجتماع، ولكن ما لاتعرفه ان كل ليلة، وكل ساعة في حياة حوزاتنا العلمية، تشهد جهوداً حثيثة، ودراسات مستفيضة، من جنود صاحب الأمر عجل الله فرجه، ليكونوا مستعدين لكل الظروف، وفي جميع الاوقات.

     

     كلمت بعضهم يوماً بهذا المعنى الذي اكتبه، فقال مستنكراً اين هي هذه الجهود ونحن بهذه المشاكل والمصائب، فقلت له: نعم هذه الجهود حفظت المذهب امام هذه المصائب التي كان يفترض ان تمحوه من الوجود، واما اذا اردت الحديث عن التقدم للأحسن، فأنا الذي اسألك: أين أنتم عن التزام أوامر العلماء.

    تمت حلقات الموضوع

    وصلى الله على محمد واله الطاهرين[1].

     

    [1] (كُتبت هذه المقالة بتاريخ: ٢٠١٥/١٢/٢٣)