انسحاب ألوية العتبات جاء بعلم «المرجعية».. لماذا لم تصرّح بذلك؟!

الآراء الواردة في الحوار لا يتبناها «موقع الأئمة الاثني عشر»

ينشر موقع الأئمة الاثني عشر حواراً أجري مع الناشط والكاتب «إيليا إمامي» سلط الضوء من خلاله على "الملف العراقي الإيراني" عبر إجابات جريئة تتعلق بانسحاب ألوية العتبات من هيئة الحشد الشعبي، وبنظام ولاية الفقيه، وفيما يلي نص الحوار كاملاً:

الملف العراقي الإيراني

من الألف الى الياء

إنفصال ألوية العتبات ، لماذا لا تتدخل المرجعية

 ولاية الفقيه ومعناها ، التوازن بين الوطن والعقيدة

ومسائل أخرى بلغة مبسطة للشباب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل ( إقرأ ) على صفيه والصلاة والسلام على محمد نبيه وبضعته وأله من وصيه الى سميه .

تكررت علي الكثير من الأسئلة حول علاقة إيران بالعراق ، وتضاعفت بشكل كبير بعد انفصال ألوية العتبات المقدسة عن إدارة هيئة الحشد الشعبي ، حتى باتت هذه الأسئلة تشكل نسبة 70% مما يردني ، ولم يعد بالإمكان اعتبارها مسألة ثانوية .

وقد لاحظت أنه مامن سؤال يصلني إلا وفيه طرف من شبهة أو أكذوبة تاريخية ، تتعلق بموضوع ولاية الفقيه تارة ،  أو بموقف السيد الخميني أخرى ، أو بموقف السيد الخوئي ثالثة .

ولست أستغرب ذلك ، مع وجود جهات سياسية معينة في سدة الحكومة ، حيث تسالمت على تشويه حقيقة الخط العلمائي والحوزي ، ومهاجمته بأقلامها المعسولة يوم كانت خارج دائرة السلطة ، فكيف وقد أمسكت بزمامها ؟!

جهات نزع عنها كرسي الحكم ورقة التوت ، ثم أغلق المرجع الأعلى بابه في وجهها ، فراحت تكافح بقوة ، ليس ضد صدام هذه المرة ، بل ضد حوزة محمد باقر الصدر الذي قال لهم يوماً ( هل عرضت علينا دنيا هارون ولم نقتل موسى بن جعفر ؟ )

ويبدو الأمر كما قال ذلك العبقري .. فقد تلاشت شعاراتهم الرنانة ، عند أول جرعة من كأس الملك .

وقد جمعت هذه الأسئلة .. ورتبتها وعدّلت عليها لتبدو كحوار متسلسل مكون من 25 سؤال وجواب .

أرجو من الله تعالى أن يتقبل هذا الجهد القليل وينفع به الشباب المهتمين .

الأحد 9  / شهر رمضان المبارك / 1441 هـ

الموافق 3 / 5 / 2020 م 

س 1 : ما تعليقك على انفصال ألوية العتبات عن هيئة الحشد الشعبي ؟

ج : أمر طبيعي .

س 2 : كيف يكون طبيعياً والبلد كله في بلبلة حول الموضوع !!

ج : هذه البلبلة سببها عدم فهم جذور المسألة مضافاً للدور الإعلامي المشبوه .. وإلا فالأمر سهل  جدا ً..  وكان متوقعاً منذ مدة طويلة .

س 3 : هل ينفعنا فهم جذور المسألة التي جعلتها طبيعية ومتوقعة  ؟!!​

ج :   بالتأكيد .. الكلام عن الجذور يحتاج الى التذكير بثلاث نقاط :

أولاً : العتبات مؤسسات دينية .. شغلها الأساسي تهيئة المكان المقدس للزوار الكرام من النواحي الخدمية و التنظيمية والإرشادية .

لكن .. حيث يمر البلد بظروف عصيبة .. بسبب الفشل الإداري الكبير .. فقد تطلب ذلك  جهود ( حالة طوارئ ) .

لذلك عملت العتبات على مشاريع كثيرة .. وتوجد الآن بحمد الله عشرات المشاريع الناجحة لشغيل آلاف الشباب أصحاب العوائل .. ولتوفير عوائد مادية تساعد على الإدامة والتوسعة في نفس العتبة .

ثانياً : بعد النكبة الحكومية الكبرى بدخول داعش .. واضطرار المرجعية الدينية لإصدار فتوى الدفاع المباركة .. وجدت العتبات نفسها أمام خطر وجودي يستهدفها بالذات .. فقامت بفتح باب التطوع .. وشكلت ألويتها للدفاع عن العراق وشعبه ومقدساته .

ثالثاً : وحيث أن العتبات مرتبطة بالمرجعية ( شرعياً ) وبالدولة العراقية ( إدارياً ) فقد امتثلت لتوجيه الاثنين معاً .. وهذا التوجيه تمثل بالانضواء تحت القيادات العسكرية للقوات المسلحة العراقية  وتنفيذ أوامرها .

والآن .. دقق معي في هذه الأمور الثلاثة .. ستجد أن فلسفة وجود ألوية العتبات تنحصر في أنها قوة ساندة للجيش بالأساس .. وهذا يقتضي منها الالتزام بثوابت الجيش .. .. وأبرز هذه الثوابت ثلاثة :

A. عدم الدخول في المعترك السياسي .

B . عدم خروج سلاحها عن سيطرة الدولة .

C . الالتزام بقواعد الاشتباك الخاصة بالجيش العراقي .. وعدم تبني أي قواعد اشتباك تخالف تعليماته واتفاقياته العسكرية .

وهذا .. مختلف تماماً _ بل معاكس _ لفلسفة وجود فصائل المقاومة .. التي بيدها تقرير سياسات هيئة الحشد .. لذا فإن الانفصال كان واقعاً لا محالة .

س 4 : هل يمكن تحديد وجه الاختلاف بالضبط ؟

ج : وجه الاختلاف واضح جداً .. وهو :

A . فصائل المقاومة شُكلت بالأساس لمقاومة الاحتلال الأمريكي في داخل العراق .. وحيث كانت الجمهورية الإسلامية هي الداعم الأبرز .. فقد ارتبطت هذه الفصائل بمحور المقاومة أيديولوجياً ولوجستياً .. كجزء من مواجهة شاملة لأمريكا وإسرائيل في كل المنطقة .

B . نتيجةً لهذا الارتباط العضوي .. فإن سلاح الفصائل غير خاضع للدولة ولا مرتبط بها .. وكل ما قيل بعد انتصار الموصل سنة 2017 عن تسليم هذا السلاح للدولة لم .. ولن يتحقق .. ليس لأنهم يريدون دولة في داخل الدولة .. بل لأن فلسفة وجودهم وعقيدتهم القتالية مبنية على استخدام هذا السلاح  وفق أسس مختلفة عن أسس الجيش وعقيدته القتالية .

C . بناء عليه .. فإن فصائل المقاومة ملتزمة بقواعد اشتباك مختلفة عما يصدره الجيش العراقي . والقصف المتبادل مع القوات الأمريكية .. والقتال في سوريا .. من أبسط الأمثلة .

بل تؤكد..  الفصائل  في أدبياتها على أن الأمن الاستراتيجي للعراق مرتبط بالأمن الإقليمي .. والمواجهة تمتد من خليج عدن جنوباً الى حلب وسواحل اللاذقية شمالاً .. ومن مزار شريف شرقاً الى صحراء سيناء غرباً .

والعدو الاستراتيجي  هو أمريكا وتابعتها إسرائيل .. ويجب أن ترحل من كل المنطقة بشكل أفقي .. كما عبر سماحة السيد حسن نصرالله .. وهذه مسألة عقائدية بالنسبة لهم.. حتى لو كانت تعني وضع العراق في دائرة استنزاف واستهداف مستمر .

والخلاصة .. أن التباين في أهداف التأسيس والعمل .. لايسمح ببقاء الألوية المنفصلة خاضعة لسياسات الهيئة الحالية .. وليس الموضوع مرتبطاً بخلافات على المناصب فهذا تسخيف للمسألة عملت عليه الجيوش الإلكترونية للأحزاب السياسية .

س 5 : لماذا لانفصل بين عمل الهيئة كتشكيل خاضع للدولة العراقية ومصالحها .. وبين النشاطات الأخرى لفصائل المقاومة .. خصوصاً وبعض هذه الفصائل غير تابع للهيئة من الأساس ؟  

ج : هذا غير ممكن للأسباب الأيديولوجية التي ذكرتها .. فلايمكن للشخص أن يفكر بعقلين أو يشعر بقلبين  (( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ))

والأحداث شاهدة على أن مقولة الفصل هي مجرد تنظير .. وآخرها التي أدت الى ذلك اليوم المشؤوم حيث فقدنا قادة النصر على داعش في جريمة ارتكبتها أمريكا بشكل علني ودم بارد .. كانت كلها مبنية على التعاطي مع الأمريكان بعقلية المحور لابعقلية الدولة .

والتدخل السياسي في انتخابات 2018 رغم تحذيرات المرجعية .. فهل يخفى على أحد أن المشاركين في الانتخابات لهم نفوذهم داخل الهيئة ؟

ولا يوجد على وجه الأرض حزب سياسي تعف نفسه عن استخدام كل الأوراق المتاحة له لتحقيق المكاسب .. فما حصل في الانتخابات وصل الى حد استخدام الأرشيف الإعلامي للهيئة في الحملات الدعائية لقوائم هؤلاء النافذين .

ورغم .. الظلم والافتراء في الكثير من الاتهات التي يتعرضون لها بقتل المتظاهرين .. لكن الذي فتح الباب لهذه الاتهامات يعود في نسبة كبيرة منه الى هذا التدخل السياسي وأن النافذين في الهيئة ( رجل في الميدان ورجل في البرلمان ) .

س 6 : هل الحل في ( حل ) هيئة الحشد الشعبي ؟

ج : كلا .. هذه الخطوة خطيرة على أمن البلاد .. وستبعث رسالة خاطئة للمتربصين .

حتى ألوية العتبات لم تدع إلى ذلك ولم تتكلم عنه بحرف .. لأنها تعلم بمن يتحين الفرص من الدواعش و( غيرهم ) .. وستكون خطوة سلبية كافية لإحباط معنويات العراقيين الذين أحبوا هذا الاسم .

ولا تفهم كلامي متناقضاً .. فعندما أقول أن هذه السياسات تضع العراق في دائرة استنزاف .. لايعني أن حل الهيئة يخرج العراق  من دائرة الخطر .. بل يدفعه إليها .

س 7 : إذن هل الحل في تسليم الهيئة الى ألوية العتبات ؟

ج : هذا مستحيل و لن يتحقق .. فقد ذكرت لك أن العقلية عقلية سياسية لاعسكرية .. ولا أحد بهذه العقلية يسلم مقدراته  للآخرين .

س 8 :  كيف سيكون المشهد القادم ؟ هل سيكون لدينا حشدان حشد المرجعية وحشد إيران ؟

ج : بداية أنا أتحفظ على هذه التسميات .. فالحشد كله حشد المرجعية .. وهي أب للجميع وليس لألوية العتبات فقط .

أتفق أن ألوية العتبات هي الأكثر استجابة لتوصيات المرجعية والتزاماً بها .. من حيث التابعية للقوات المسلحة وعدم التدخل في السياسة .. بطبيعة أهداف والمنطلقات .

ولكن هذا لايعني أن الآخرين ليسوا أبناء المرجعية .. وليس من حق أحد أن يقسم الجمهور حصصاً ويسميها كيفما يشاء .

كما أن تسمية حشد إيران غير مبررة حتى لو كان انتماؤهم للولي الفقيه .. فشهداء هذه الفصائل لم يسقطوا في تبريز أو أصفهان بل في تكريت وسامراء وجرف الصخر .

إن .. علاقتهم بإيران لاتنكر .. ولكن ذلك لايسلخ عنهم هويتهم العراقية التي يجب أن يتم ( احترامها ) كبداية لحل الخلافات بهدوء .

س 9 : لكن هذا لا يغير السؤال : هل تتوقع حشدين  ؟

ج : فليكن حشد .. وحشدان .. وخمسون حشداً .. أين المشكلة ؟ بالنتيجة هي تشكيلات تابعة للدولة سواء قلت أو كثرت .. وأكرر أن المشكلة في السياسات وليس في الأشكال التنظيمية .

وأما سؤالك عن الأزمة .. فالذي يسببها هم الجهلة وليس العقلاء .. ورغم رحيل واحد من أعقل العقلاء ( الشهيد المهندس ) .. ولكن نعول على الآخرين لتجاوز هذا الموضوع والتنسيق للمستقبل بعون الله .

وشئت أم أبيت .. لاتستطيع شطبهم من المعادلة وإلغاء وجودهم .. بل نعتز بهذا الوجود لأننا إخوة ونحتاج بعضنا في أفراحنا وأحزاننا وقتالنا ومواسمنا وشعائرنا الحسينية .. ونحن منهم وهم منا .

لذلك لاحل أمامنا سوى التفاهم ( كيف نجنب العراق المزيد من الإرهاق ). 

س 10 : يعني أنك تستبعد حصول أزمة  شبيهة بصراع حزب الله مع حركة أمل في لبنان مطلع التسعينات ؟

ج : كلا .. كن مطمئناً من هذه الناحية .. وهناك عدة ضمانات ومنها :

A . مادام العقلاء من الطرفين يحترمون مرجعية النجف التي تضع دفن الخلافات الداخلية على أول أولوياتها وأقدس مقدساتها .. فلا خوف .

فرغم وضوح أن سماحة السيد السيستاني لم يكن مع الأساليب العسكرية في مواجهة الاحتلال الأمريكي منذ 2003  .. ولكن أحداً من الناس لم يسجل أي تصريح فيه خدش أو مساس بهذه الفصائل  .. رغم الأسئلة الملغومة التي كانت توجهها الوكالات الأجنبية الى المراجع الكرام .

 و لاحظتم كيف تعامل الوكلاء الكرام الكربلائي والصافي بروح أبوية مع المعترضين على الانفصال .. رغم الكم الهائل من الافتراء الذي طالهم شخصياً .

وقد نقلت .. شخصياً عن سماحة السيد الصافي رسالته الى الناس  .. التي أكد فيها رفضه لهذا السجال .. وأن من يريد الأجوبة فأبوابنا مفتوحة  لبيان الحقائق من دون المساس بإخوتنا .. على الطريقة الحوزوية النجفية الهادئة في التعاطي مع الأمور .

B . إن الأغلبية من جنود هذه الفصائل هم أبناء مرجعية النجف .. الذين انضموا لهذه التشكيلات عند صدور الفتوى لعدم قدرة معسكرات التطوع للجيش على استيعابهم .. أو عدم تمكينها من ذلك .

و قادة الفصائل رغم انتسابهم الى مرجعية السيد الخامنئي .. ولكنهم كخط ديني وكعراقيين .. يحترمون المرجعية النجفية .. ويفهمون هذا الولاء للنجف في صفوف جنودهم .. ويبنون على أساسه .

وقد أستغربت من تخوفات بعض المحللين .. وقوله بأن هذه الصمام الذي تمثله المرجعية النجفية  سينتهي برحيل سماحة السيد السيستاني أدام الله ظله وأطال في عمره .

هذه التخوفات لا تبتعد كثيراً عن البروباغندا التي تمارسها قناة الحرة وأمثالها ممن يكتبون تقارير غير دقيقة .. فيقيسون الحوزة العلمية ومكانتها بحساباتهم الخاصة .. بعيداً عن واقع المرجعية الشيعية وتاريخها مع العراقيين .. وواقع العراقيين وتاريخهم معها .

C . إن فتوى الدفاع الكفائي .. أثبتت أن الجميع على قدر المسؤولية .. وقادرين على التعاضد و الاستمرار بالعمل في اتجاه واحد رغم كل ما حصل من تقاطعات ومشاكل أيام التحرير .

س 11 : ألا يبدو حديثك عن الاحترام والتعاون مجرد أمنيات وردية .. مقارنة بهذه الضجة الإعلامية المليئة بالتعصب على مواقع التواصل ؟

ج : الضجة حصلت من ثلاثة أطراف .. لثلاثة أسباب :

الأول : إنفعال الشباب والمحبين قليلي الخبرة .. بعضهم فسر الخطوة كشق لعصا المجاهدين .. والآخر فسرها بالعكس .. كنصرة لتوجهات المرجعية النجفية .. وهكذا اختلفوا .

ولكنهم جميعاً كانوا على قلب رجل واحد عندما حصل تعرض مكيشيفة .. وشهدنا ليلة مواجهات مع الدواعش ( وقت كتابة هذه الملف ) مما يؤكد ما ذكرناه أعلاه .

الثاني : أجندات داخلية وخارجية لاتريد للخط الديني أي وجود في العراق .. وتنتهز أي فرصة لتقف مثل مروان بن الحكم في معركة الجمل .. وترمي السهام في كل الاتجاهات وتقول ( أينما أصابت فتحٌ )  .

وقد أحصى بعض الأصدقاء شطراً من هذه الحملات التي  تضخ خطاباً إعلامياً يستهدف هذا الطرف بأقذر الأساليب .. وتعود لتضخ خطاباً معاكساً يستهدف الطرف الآخر . 

الثالث : جيش الأحزاب السياسية المتجحفل إلكترونياً والمنتفعين سياسياً .. وهو الاخطر . 

س 12 : لماذا هم الأخطر ؟

ج : لأن هذه الجيوش الالكترونية تمرست في عملها و نشطت في تثبيت جذورها أبان حكومة نوري المالكي وتطورت اليوم بشكل كبير .

هذا المتكلم أمامك .. لو أرادوا إقناعك بأنه صهيوني يستطيعون ذلك .. ولو أرادوا إقناعك بأنه ماسوني يستطيعون أيضاً .. لأنهم تمرسوا بشكل كبير على اللعب بعقول الجماهير .

هل تتخيل أن مجاهداً من إحدى الفصائل قدم نفسه للموت بناء على فتوى نقلها الشيخ الكربلائي .. يشكك اليوم في علاقة الشيخ بالمرجعية ؟

كلا بالتأكيد .. هذه فكرة شخص لم يفارق أجهزة التبريد وشاشات الأنترنيت ويهون عليه مثل هذا الكلام .

أستحضر هنا حديثاً للإمام الصادق .. يجعلك تقف متوازناً ولا تهرول خلف حملاتهم الإعلامية بمجرد أن يقولوا ( الشيعة في خطر .. حرب على المذهب ) ويظهروا أمامكم بمظهر الحريص على التشيع .

يقول عليه السلام (( إن فيمن ينتحل هذا الأمر _ أي التشيع _ لمن يكذب حتى يحتاج الشيطان إلى كذبه )) .

الأحزاب بطبيعتها السيكولوجية  تنتهج مبدأ فرق تسد .. لأنه يصعب جر أذرع المتعاضدين .

الأحزاب لاتعبأ بالانشقاق الاجتماعي .. عندما تكذب أو تكتب عن أي شيئ ..لأن

علم السياسة يقول : كلما صدرت منك مواقف أكثر حدة وتطرفاً كلما استقطبت المزيد من الجماهير واشتد تمسكهم بك .

على عكس الحالة العلمائية التي تأخذ الحسابات الشرعية كأولوية ولا تقول ما يسبب اقتتال الناس أو نزاعهم .. ولو كان فيه أعظم المكاسب لها خاصة .

لعلك تتذكر  .. تلك المقابلة التي أجرتها  قناة فرانس 24 مع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي .. وكان ذلك قبيل انتخابات 2014  .. عندما شن هجوماً عنيفاً وصادماً على السيد مقتدى الصدر واصفاً إياه بالجاهل الذي لايفهم شيئاً عن السياسة وما يصدر عنه لا يستحق الرد !!

وكان هذا أعنف تصريح يصدر بحق زعيم التيار الصدري حتى ذلك الحين .

يومها ضحكت وأنا أتابع المقابلة وقلت في نفسي : إن الفريق الذي يدير الحملة الانتخابية للمالكي في غاية الذكاء .

لأنهم لا يهتمون بما يمكن أن يسببه كلام المالكي من أزمة أو احتقان .. بل حسبوها بحساب المقاعد الانتخابية .

يعرفون أن موجة ردود الأفعال ستحدث استقطاباً يجرف المحايدين .. ومن لديهم ضغائن مع التيار الصدري .. وتصور المالكي كرجل قوي في وجه الجميع .. وبالفعل حصل ذلك الاستقطاب الذي خططوا له .

هذه طبيعة تفكير الأحزاب .. فرق تسد .. وأما الصدق والأمانة والدقة في النقل .. فهي عندهم حيلة العاجز .

وبحكم متابعتي من أين تظهر الأكاذيب .. فانهم قد تحولوا في الأسبوع الماضي الى ما يشبه هوليود .. وأصدروا أفلاماً خيالية عن الوضع  بشكل غريب .

هم من روج لفكرة : صرنا حشد المرجعية وحشد إيران ( نكاية بالعتبات ) .

وهم من روج لفكرة المرجعية مرجعيتان .. السيستاني و الحكيم .. وأحمد الصافي تابع للحكيم فقط . 

وهم من روج لفكرة الوكلاء مختلفون .. والكربلائي ضد الصافي .

وهم من تلاعبوا بقصد الأستاذ الشيخ حامد خفاف مدير مكتب المرجعية الدينية في بيروت .. عندما صرح بالقول أن المرجعية لاعلاقة لها بعمل العتبات إلا اختيار المتولين الشرعيين .. وبقية الأمور متروكة لهم بالاستقلال .

والحقيقة أنهم قصدوا الذم فمدحوا مدحاً كبيراً   .. ولكن يأخذك العجب لبساطة تفكير من يقتنعون بهذه المغالطة رغم التناقض الواضح فيها .

وعتبي على من يصدقهم والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله يقول (( حسبك من الكذب أن تحدث بكل ما سمعت ))  

س 13: هل نفهم من كلامك أن خطوة الانفصال جاءت بعلم المرجعية ؟ 

ج : لاشك في ذلك .. ولم يقل أحد أنها جاءت ( بتوجيه ) من المرجعية .. بل قلنا أنها جاءت ( بعلم ) من المرجعية .

ومن البلاهة الرد على مقولة ( المرجعية لم تكن تعلم ) وهي لا تستحق الوقوف عندها .

ولكن دعني أذكر لك شاهدين .. لتفهم طبيعة علاقة السيد الصافي والشيخ الكربلائي بالمرجعية :

الأول : إلتقيت بالسيد الصافي في إحدى المناسبات العامة في نهاية العام 2018 بعد رجوعه من الواجب الذي كلفه به سماحة السيد السيستاني في مدينة البصرة وألححت عليه أن يذكر  لي المبلغ الذي أنفقته المرجعية على محطات  تحلية الماء هناك .. و يشهد الله أنه رفض ذكر المبلغ أشد الرفض وكرر أكثر من مرة أنه غير مخول بذلك .. ولم أعرف مقدار المبلغ حتى الآن .

الثاني : إلتقيت بالشيخ الكربلائي مرة وطلبت منه أن يحدثني عن اللحظات التي قرأ فيها فتوى الدفاع الكفائي وكيف كان تواصله مع المرجعية  في وقتها .. فرفض وقال بالحرف الواحد ( لا أصرح بشيئ حتى أراجع سماحة السيد )

فيا سائلي .. أليس من الخيال أن خطوة كبيرة كانفصال أربعة ألوية تمثل نصف الحشد جائت بدون علم سماحة المرجع الأعلى !!

س 14 : دعني أسالك مادمنا وصلنا الى هنا لماذا يستقبلون المسؤولين الحكوميين في العتبة بينما تقاطعهم المرجعية في بيتها ؟

ج : كنت أتسائل دوماً .. عندما أسمع هذا السؤال .. هل حقاً يعجز السائل عن فهم الأمور الى هذا الحد ؟

ألا يعرف السائل  ؟! أن الوصف الدستوري للعتبة المقدسة هو أنها عمارة تابعة لدائرة قانونية مرتبطة بالدولة العراقية ؟ وليست مستقلة من ناحية التمويل و الرقابة .. ولا بد من التواصل مع مسؤولي الدولة  مادامت هذه الدائرة مرتبطة بالدولة .

بينما المرجعية لاترتبط بدائرة قانونية ولا هم يحزنون .. وهي بهذه المقاطعة تعبر عن احتجاجها الشخصي على الأداء الحكومي .. وليس لديها شيئ من أمور الحوزة مرتبطٌ بالدولة لتتواصل مع المسؤولين .

وأنظر للأحزاب .. كيف تنسيك جيوشها الالكترونية حجم المأساة والفظاعة في أن يكون المرجع الأعلى ( زعلان ) .. وبدل أن نغضب لغضبه .. يلهوننا بهذه الأسئلة  !!

س 15 : نعود لموضوع الانفصال .. لو كانت المرجعية لاتمانع من ذلك فلماذا لاتصرح وتقطع النزاع ؟ 

ج : النزاع سينقطع خلال أيام فلا تخف من هذه الناحية .

ولكن لاحظ معي .. نفترض أن المرجعية صرحت وقالت : مادام العمل المشترك صعباً والانفصال لن يضر بقوتكم .. فلا مانع عندي .

بماذا سيفسر الاعلام المغرض هذه الكلمة رغم شدة وضوحها ؟  وكيف سيكون تسويقها للناس ؟ سيكون هكذا :

المرجعية تأمر فلان وفلان بالانفصال .

المرجعية تقاطع الفصائل التابعة لإيران .

المرجعية تتبرأ من جماعة إيران .

السيستاني يقصف خامنئي .

الى آخره من العناوين المتفجرة .. التي لاتخطر على بالك .

وستجد شبابك يومها بين محبط من شماتة الخصوم .. وحائر ومصدوم .

المرجعية التي لم تشهر طيلة حياتها بسياسي فاسد .. أو شخص مسيئ .. أو جاهل يشتم .. كيف لها أن تصب الزيت على النار .. وتكون سبباً في المزيد من التشهير الإعلامي الموبوء .. بقادة فصائل لم يبرد سلاحها بعد من نيران معركة الفتوى ؟!

س  16 : ماذا عن اشتباكهم مع الأمريكان في العراق بدون فتوى من المرجعية ؟

ج : منذ سقوط صدام كنا نحاول شرح موقف المرجعية العليا بشكل مبسط ولماذا اختارت المقاومة السياسية .. وماذا يعني تحويل العراق الى مسرح مواجهة مع أمريكا .

ولكن الانفعالات كانت تسود تفكير هؤلاء الشباب ولا ألومهم لغيرتهم .. ولكني ألومهم على لغة التخوين والاتهام بالجبن والعمالة وو .. التي ظهر لهم عدم صحتها عام 2014

كانوا دائماً يستشهدون بمواقف الإمام الخميني التي تصدرها لهم بعض وسائل الإعلام والكتب من إيران ولبنان .. وكنت أقول لبعضهم إن هؤلاء يجعلونكم تعرفون عن الخميني ما ينفعهم فقط .. وهناك الكثير مما لاتعرفونه .

سأكتفي هنا بقصتين تعرف من خلالهما كيف كان السيد ينظر للعراق بشكل مختلف ويراعي تعقيداته ووضعه الاستثنائي :

الأولى : يروي الشيخ عباس الزنجاني في مقال له نشرته مجلة ( بيام إنقلاب ) في عددها 161 يقول :

بعد مجيئ الإمام الخميني الى النجف الأشرف عام 1965 زرناه الى بيته وقلنا له : سيدنا إنكم لم تكملوا بحث المكاسب (  كتاب فقهي للشيخ مرتضى الأنصاري ) في حوزة قم .. فأكلموا بحثكم هنا في النجف .

فقال الإمام : أنا طالب علم في النجف .. وواجبي هنا يختلف عن واجبي عندما كنت في إيران  .

ولم يعد الى تدريس البحث الخارج ( كمرجع ) إلا بعد فترة حدد خلالها كيف سيكون وجوده في حوزة النجف بشكل لايثير النظام العراقي ضد طلبتها .

الثانية : في كتاب ( پا به پای آفتاب ) لأمير رضا ستوده ج 3 ص 265 ينقل  قصة عن حجة الإسلام الشيخ نصر الله الشاه آبادي .

وقصة الشيخ الشاه آبادي تحتاج مني مقدمة سريعة :

في سنة 1969 اتهم النظام البعثي السيد مهدي الحكيم نجل الامام السيد محسن الحكيم بالعمالة لبريطانيا .. وهو موقف واضح الدوافع .. جاء كضربة إستباقية من السلطة لأي فتوى تعرقل توسعهم الدكتاتوري .. كفتواه بحرمة مقاتلة الأكراد قبل ذلك بأربع سنوات 1965.

على أثر اتهام السيد مهدي _ وكان السيد محسن الحكيم يومها في بغداد _ قامت مظاهرات ساخطة في العراق .

 ولكن الإمام الحكيم خشي من سفك الدماء بلا جدوى .. فرجع من بغداد اعتكف في بيته في الكوفة .

يقول الشاه آبادي : ذهبت منفعلاً الى السيد الخميني وطلبت منه زيارة السيد الحكيم تضامناً معه .. فأجابني قائلاً :

إنني أقرأ كل يوم  دعاء لسلامة وحفظ السيد الحكيم .. ولكن ماذا أصنع ؟ وليس بيدي شيئ لو ذهبت إليه واعتقلوني فلن أحقق أي هدف للإسلام ولن يعرف أحد أين أنا .. إن الأوضاع هنا تختلف عن الأوضاع في إيران .

ولم يذهب سماحته حتى خفت الضغوطات وزالت الخطورة .

أكتفي بهذا القدر .

س 17 : ولكن هذه المواقف كانت في زمن الحكم البائد . فهل الظروف العراقية والإقليمية تغيرت  ؟

ج : لو كانت قد تغيرت .. فلماذا يقال بأن البعثيين يحاولون العودة الى السلطة وأن هناك مساع حثيثة للالتفاف على الحكم الحالي بوصفه حكم الأغلبية الشيعية ؟!

برأيي أن العراق كان يختلف عن إيران .. وما زال يختلف عن إيران .

يبقى الخطر من عودة الدكتاتورية .. هو الذي يدفعنا دوماً لحساب خطواتنا وسط هذا الحقل الملغوم .. وقد  عبرت عنه المرجعية العليا في خطبة الجمعة يوم  29 / 11  /  2019  محذرةً المتظاهرين الشرفاء من عدم تمييز صفوفهم بقولها :

  (( إنّ الأعداء وأدواتهم يخططون لتحقيق أهدافهم الخبيثة من نشر الفوضى والخراب والانجرار الى الاقتتال الداخلي ومن ثَمّ إعادة البلد الى عصر الدكتاتورية المقيتة فلا بد من أن يتعاون الجميع لتفويت الفرصة عليهم في ذلك ))

نحن ضد حالة التردد والتنازل عن الحقوق .. بل نريد المزيد من تمكين وجودنا في هذا البلد وضمان مستقبل أبنائنا.

ولكن لله ننصح .. قبل الاغترار ببعض القوة ( التي يريدك الآخر أن تغتر بها ) والتصرف في البلد وكأن مصيره هو مصير محور المقاومة .. فكروا كما كان العلماء يفكرون .. ويدركون أن المسألة أعمق من مجرد الإطاحة بشخص واحد كصدام .. وأن ظروف العراق المميزة لن تنتهي برحيل صدام .. فهل من قارئ للتاريخ متعظ ؟!! 

إفهموا الفرصة التاريخية التي تمر على شيعة العراق .. إجعلوا العراق أولويتكم في الخطاب والتخطيط والتعامل مع بقية المكونات .. قبل أن يضيع عليكم سلم الأولويات من أساسه .

قوتكم كأسياد مجمع عليهم وطنياً في العراق هي قوة لإيران .. وضعفكم في العراق هو ضعف لإيران حتى لو وصلت جيوشكم الى  سواحل المتوسط .

س 18 : هل ينسجم هذا الطرح مع روح الإسلام وتعاليمه ؟ وهل تحول الحدود الجغرافية دون الدفاع عن العقيدة ؟

ج : أنا أحترم صدق هؤلاء الإخوة في الاهتمام بالقضايا الكبرى للاسلام والوقوف بوجه الاستبكار أينما كان بدون حساب للحدود الجغرافية المصطنعة !!

ولن أخصص وقتاً للحديث عن نسبة من الانتهازيين الذين  يعتاشون بهذه الشعارات ويبحثون عن مواقع قيادية ..  وليكن كلامي فقط مع المؤمنين بها صدقاً.. وقد رأيناهم كيف يبذلون أرواحهم بشجاعة في مختلف الميادين .

أقول : إذا كنت تريد إغلاق فمي بقراءة  الروايات فقط .. فالحق معك و مبادئ الإسلام واضحة في تقديم العقيدة على القومية .. وعدم  اعتبار المكان والزمان في نصرة الحق والجهاد في سبيله .

ولكن.. التفقه في الروايات يعطيك فهماً أوضح .

أي فقيه _ سواء أكان يؤمن بولاية الفقيه العامة أو الخاصة _  سيقول لك أن للأحكام الشرعية عناوين أولية وأخرى ثانوية .. وأن التكاليف منوطة بالقدرة والاستطاعة .. وأن التزاحم بين المهم والأهم يقتضي تقديم الأهم .

وأنا أتجنب الخوض في المباني الأصولية والفقهية .. وأدلتها من سيرة المعصومين عليهم السلام  .

وسأكتفي .. بحديث التاريخ والشواهد .. التي تدلك بأن أكابر المنظرين لفلسفة محور المقاومة ..لا يشطبون حسابات دولهم وظروفها الداخلية وحدودها الجغرافية  :

1. شواهد من إيران : 

دعني أبدأ من السيد الخميني قدس سره .. فانه لا يخفى على أحد .. ذلك الكم الهائل من خطاباته الاسلامية الرائعة .. التي تدين الاستكبار العالمي .. و تحاكي وجدان المستضعفين في كل العالم .. ولكنه _ وهو العارف بالله _ في طريق التعبئة للثورة تعامل بواقعية مع المنطق الوطني .. لأنه يدرك أن الوضع يتطلب خطاباً يمكنه حشد الجماهير من مختلف الاتجاهات حول قضية واحدة .. وهذا لا يقلل من أهمية الخطاب الإسلامي طبعاً .

وإليك ثلاثة شواهد من حياته الشريفة بحسب التسلسل الزمني :

Aفي كتاب ( بررسى وتحليلى از نهضت امام خمينى ) للسيد حميد روحاني  ج 1 ص 744  يقول ما مضمونه :

((  بينما كانت الطائرة متجهةً بالإمام الخميني الى منفاه الأول في تركيا بعد أحداث النصف من خرداد ( نيمه خرداد ) سنة 1963 وكان معه ضابط في السافاك مكلف بإيصاله الى تركيا يسمى ( أفضلي ) .. فالتفت إليه السيد الخميني قائلاً :

 (( أنت تعلم يا أفضلي أني نفيت لدفاعي عن هيبة الجيش واستقلال وطني )) . 

B. في موسوعة ( وقائع خاصة من حياة الإمام الخميني ) ج 2 ص 144  وتحت عنوان ( فصل سوم : خاطرات آیت الله سید عباس خاتم یزدى ) ما ملخصه :

 ( وركز معي على هذه القصة لأني سأحتاجها مرتين )

عندما بدأ النظام البعثي حملته الاولى عام 1971 ضد الحوزة العلمية لإفراغها من طاقاتها .. كانت خطوته رقم واحد .. تسفير الطلبة إلإيرانيين .. وكان يعطي للطالب مهلة 6 أيام ليترك العراق .. وأغلبهم من أصحاب العوائل ومضت عليهم عشرات السنين في العراق .

فاحتج السيد الخميني _ المقيم في النجف حينها _  وقال : ( سأخرج مع أبناء وطني )

 وعندما جائه وفد من الحكومة ليتفاوض معه .. قاله لهم :

( كانت الحكومات السابقة في العراق عندما تريد تسفير اليهود الى إسرائيل تمنحهم 6 أشهر ليرتبوا أوضاعهم .. وأنتم تمنحون إخوانكم المسلمين 6 أيام فقط ؟! ) .

وفي ذلك الوقت كان السيد الخوئي _ وهو إيراني آذري أيضاً _ يتكلم باسم الحوزة ومكانتها والطائفة الشيعية .. ويتفاوض على هذا الأساس .. لأن وضعه كان مختلفاً عن وضع السيد الخميني .. الذي كان مضطراً للحديث بمنطق ( أبناء وطني ) .

C. في 1 / 2 / 1979 اليوم الأول من الأيام الحاسمة ( عشرة الفجر ) التي انتهت بانتصار الثورة الإسلامية .. حين ألقى السيد خطابه الشهير في مقبرة ( بهشت زهرا ) .. فقد كان الخطاب بنسبة 100% يركز على الوضع الاقتصادي والسياسي الايراني .. ولم ينطق بكلمة واحدة عن المشروع الإسلامي للمنطقة ككل .

كان يستثير الروح الوطنية للجيش كي ينحاز الى الثورة .. لأن الثورات مع الجيش كقاب قوسين .. وبدونه كبعد المشرقين .. فقال يخاطبه :

(( أننا نريد أن تكونوا مستقلين ، نحن نتحمل المصاعب ونريق دماءنا ونبذل ماء الوجه ويعذَّب مشايخنا ويُسجنون، لأننا نريد أن يكون الجيش مستقلاً، يا أيها المشير ألا تريد ذلك ؟! أتريد أن تكون عميلاً ؟! أنصحكم بالعودة إلى أحضان الشعب )).

وشخص عبقري كالسيد الخميني لا تفوته هذه الامور عند تعبئة الجماهير التي لها ألف اتجاه وتيار فكري .. فقال للمترددين وتو يضع الإسلام والوطن في دائرة واحدة :

(( ونقول للذين لم يلتحقوا، التحقوا بالشعب ! إن الإسلام أفضل لكم من الكفر، وإن الشعب أحسن لكم من الأجنبي . إننا نريد أن تكون البلاد قوية وذات نظام مقتدر. إننا لا نريد الإخلال بالنظام، ولكننا نريد نظاماً منبثقاً من الشعب وفي خدمة الشعب ، لا نظاماً يرأسه الآخرون ويصدرون له الأوامر! )) .

فالسيد كان عارفاً بزمانه .. وليس الأمر كالعقلية الرعناء للدواعش .. الذين يحلمون بدولة إسلامية على أسس غير واقعية .. ومزقوا جوازاتهم ليدغدغوا مشاعر المسلمين بحلم الخلافة والقضاء على حدود سايكسبيكو .. ولكن أين انتهى مشروعهم رغم كل الدعم الذي حصلوا عليه ؟

لا أشك ..  أبداً في صدق النوايا الإيرانية عندما تدعم حركات المقاومة في المنطقة .. ولا أشك أنها تحملت الكثير من الضغوط العالمية جزاء مساعدتها للآخرين في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني .

ولكن .. هل تظنون إيران بنفس الرعونة الداعشية ؟ وأنها تندفع بكل قوتها لمجرد سماع آية أو رواية أو صرخات مرأة مظلومة في غزة .. لتقول لشعبها أن اللبناني والغزاوي بنفس أهميتك يا شعب إيران ؟

أم لديهم حسابات تحددها المصلحة الداخلية ؟

 أحد أصدقائي في إيران قال لي مرة ( امنیت ما از امنیت عراق )  بمعنى أن أمننا من أمن العراق .. يعني إذا كنتم بخير فنحن بخير .. وفي الوقت الذي يعبر هذا الخطاب عن محبة وأخوة لا أنساها .. كما لا يجب أن ننسى دماء وتضحيات الشهيد الإيراني حميد تقوي  ورفاقه التي روت أرض سامراء ..

ولكن القيادة الإيرانية حريصة على إقناع الشعب الإيراني بأن ماتفعله يعزز أمنها القومي .. وتركز على قول أن قوتنا خارج إيران تمنع الأعداء من التفكير في استهدافنا العسكري في الداخل مباشرة .

لقد.. كانت الصواريخ والعبوات الإيرانية طيلة سنوات .. تنفجر على رؤوس الأمريكان والصهاينة بسواعد اللبنانيين والفلسطينيين و العراقيين .. ولم تطلق إيران صاروخاً واحداً من الداخل .. لكي لا يُستهدف هذا الداخل الذي أكدوا لشعبهم أنه أعظم المحرمات وقدس المقدسات .

وعندما انتهكت طائرة استطلاع أمريكية أجواء إيران في العام الماضي أسقطوها  بلا تردد .. وعندما خسروا سرداد سليماني في العراق .. ويالها من خسارة .. استهدفوا القاتل في نفس الجغرافيا .. وقصفوا قاعدة عين الأسد بلا تردد .. في مشهد لم تره أمريكا يحصل مع قواتها منذ الحرب العالمية الثانية .

هل تلاحظ .. الفرق أيها القارئ الكريم .. بين ردات الفعل حين تعرض الداخل للخطر .. وحين تعرض بقية أطراف المحور ؟

أليس ذلك لعلمهم بان شعار (  جنگ جنگ تا پيروزي ) لم يعد يؤثر في الجيل الجديد وسط الحالة المعيشية الخانقة .. كما كان يؤثر في جيل عشاق السيد الخميني قدس سره الشريف .

هذا كله ..  ولم أفتح ملف تصريحات المسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم سماحة السيد الخامنئي نفسه .. وتمجيدهم لفكرة ( إيران أولاً ) لا أحد يلومهم لأن الواقع صعب جداً .

2 . شواهد من لبنان :

أنا وبصراحة كنت ولا أزال .. من عشاق خطابات السيد حسن نصر الله .. بما آتاه الله من موهبة وتأثير .

وقبل سقوط صدام .. كنا نتسلل للبساتين _ كوني من أبناء الريف _ مصطحبين معنا جهاز عرض CD تم تهريبه إلينا من قبل أولاد العم والأصدقاء المسافرين للعمل في الأردن .

و كان شغفنا استماع خطابات الشيخ راغب حرب و السيد عباس الموسوي والسيد حسن نصر الله من إصدار ( الغالبون ) وغيره من الإصدارات .

ولا أتذكر أنه قد فاتني خطاب للسيد نصر الله منذ السقوط وحتى الآن .. وفي حرب تموز 2006 كنت ملتصقاً بالتلفاز وأتابع الأحداث ليل نهار .

الشاهد .. أن السيد في حرب تموز سنة  2006  طرح معادلة مشهورة .. وخاطب الإسرائيليين قائلاً ( إذا قصفتم عاصمتنا سنقصف عاصمتكم .. إذا ضربتم بيروت سنضرب تل أبيب ) . 

هل تدرك معي أيها القارئ معنى هذا الكلام ؟ في حين كانت الضاحية الجنوبية والتي هي معقل المقاومة وجمهورها .. تسوى بالأرض تماماً .. وتضرب كل عشر عمارات دفعة واحدة .. ويشرد أهلها الذين قال عنهم السيد نفسه ( يا أشرف الناس ) .

فلماذا لم يقل السيد إذا ضربتم الضاحية سنضرب حيفا أو نابلس ؟ .. بل كرس هذه المعادلة لبيروت بالذات !

هذا لأنه  يثق بجمهور المقاومة .. وانهم سيتحملون .. بينما لن يتحمل أهل العاصمة وهي من عدة مكونات .. ولن يصبروا على استمرار الحزب في القتال .. وستبدأ الضغوط عليه بشكل لا يطيقه وهو في حالة حرب .

وسمعت بعضهم يومها يقول ( إنت عم تقتل حالك شو خصنا نحنا ؟ ) .

من هنا أراد الحزب إقناع اللبنانيين بأن سلاحه الذي يطالب بعضهم بتسليمه هو قوة الردع التي يمتلكونها.

فهل هذه ..  حسابات الإسلام بدون حدود ومقيدات .. أم هناك اعتبارات للمكونات الأخرى وردود فعلها .. لابد من أخذها بعين الاعتبار ؟

ومنذ عام 2011 حيث بدأت أحداث سوريا .. ولم يعلن حزب الله تدخله إلا عام 2013 في معركة القصير .. وأعلن ذلك باعتبارها منطقة حدودية مع لبنان وتشكل خطراً عليه .

ومن حينها لا يظهر السيد نصر الله في خطاب .. إلا ويعيد التأكيد على أن سبب دخول المعركة هو حماية لبنان وأمنه .. في مواجهة المشروع التكفيري ومن ورائه الصهيوني .

وعندما.. استشهد السيد مصطفى بدر الدين القائد الكبير في الحزب سنة 2016  .. أعاد السيد نصر الله التذكير بأن  الخطر يداهم لبنان في منطقة راس بعلبك وجرود عرسال .

س 19 : إذا كان أقطاب محور المقاومة هكذا فلماذا يختلف الحال في العراق ولا يتصرفون بهذه الطريقة ؟

ج : ربما المتصدون للعمل السياسي و التعبوي هنا في العراق ليسوا بالمستوى الكافي من الدراية  ليختاروا أساليب أدق .

وربما بعضهم يفهم العلاقة مع إيران بأن تكون ملكياً أكثر من الملك !!

فيستنسخ الخطاب الإيراني ( الذي تصدره إيران للخارج ) من دون مراعاة ظروف العراق الخاصة .. ومن دون حساب أن العراق هو الآخر يحتاج خطاباً داخلياً وآخر خارجي .

في نهاية المطاف .. من يتصور أن بإمكانه تعبئة العراقيين بالخطابات الإسلامية الثورية فقط .. مع بعض الديكورات والموسيقى الحماسية .. والسفرات السعيدة الى بلد الجمال إيران .. بعيداً عن موازنة الأمور وفهم طبيعة العراق وتركيبته الاجتماعية .. فإنه يخسر أوراقه بالتدريج .

العراقيون الذين سطروا ملحمة خالدة بتلبية فتوى رجل لم يسمع صوته أو يشاهده أغلبهم .. هم نفسهم الذين لاتحركهم كل الحماسيات قيد أنملة مالم يكن لها وزن اجتماعي يقتنعون به .. أما توزيع الاتهامات بالخضوع للأمريكي والجهل العقائدي  وغيرها من السهام الجاهزة .. فتزيد الطين بلة .

حتى أمريكا.. لاتتصوروا أبداً .. أنها نجحت في اختراق الثقافة العراقية بسبب خطابها الاعلامي الموجه للعراق وسفراتها للشباب وبرنامج القادة  lYLEP وغيرها من المشاريع .. بل نجحت في التأثير _ المحدود _ بقوتها الاقتصادية وسيادتها للعالم .

س 20 : لماذا لانقول بصراحة أن هذه الفصائل والأحزاب مقيدة بأوامر إيران ؟ وأن التفاهم يجب أن يتم في طهران ؟

ج : أنا لا أنكر تدخل الجمهورية الإسلامية في العراق لحماية نفسها .. ولا أنكر سعي الأمريكان لأذيتها من خلال العراق .. ولا أنكر أن الانسحاب من أي طرف منهم رأفة بالعراق يعتبر حماقة سياسة . 

لاتوجد دولة على وجه الأرض تزهد بموقعها الاستراتيجي في دولة أخرى .. خصوصاً عندما يكون عدوها اللدود _ أمريكا _  موجوداً في تلك الدولة المتاخمة على مسافة 1450 كم . 

ولكن أين نحن من هذا الصراع ؟

لعلك أيها القارئ الكريم تابعت الصراع على الكمامات والمستلزمات الطبية بين ألمانيا وأمريكا وغيرها من الدول قبل شهر من الآن ..  وكل دولة تريد إنقاذ شعبها وليذهب الآخرون الى جهنم كورونا.

هذا المنطق لايختلف بالنسبة  للوجود العسكري .. فإذا كان هناك من يعزز قوتي الاستراتيجية بتطويق القواعد الأمريكية في العراق فلماذا أرفض ؟ وما شأني بما يسببه ذلك للعراقيين ؟ .. حتى لو كنت أحب العراق ولكن هناك أولويات .

أمريكا كذلك .. إذا وجدت من تدعمه من  المندسين في المظاهرات وغيرها فلماذا ترفض ؟ وما شأنها بما يفعلون ؟ وهي أساساً لاتكن أي ود للعراق . 

والسعودية كذلك .. تبحث عن مواقعها في المكون السني ولو على ظهر المفخخات

وتركيا تعزز نفوذها المستمر وسط المكون التركماني .. ولا أعرف هل طلبت منهم مواجهة الأكراد حتى الآن أم لا !

أنت بواب بيتك .. وبيدك إدخال من تشاء وإخراج من تشاء .. و كن واثقاً أن الجميع متى ما تركوا مصالحهم الشخصية .. و لغة التخوين و ( التسقيط ) مثل المجانين .. وتفاهموا وخرجوا بموقف موحد مبني على الاستقلال في القرار والنظر باخلاص الى مصالح البلد .. فلن تستطيع طهران إجبارهم على شيئ .. ولن تجد أمريكا بداً من الرضوخ .

لا تقل .. لدولة بعينها لاتتدخلي .. ولكن إملأ الكأس بقرارك المستقل .. ولن يجد قرار غيرك مكانا.

الشيعة.. ليسوا اصحاب مواقف وطنية .. هذا التعبير لا أتفق معه .

بل الشيعة أصحاب تضحيات وطنية .. وكان حبر أول توقيع لتأسيس دولة العراق ممزوجاً بدمائهم .

فيجب على عقلاء هذا الوجود العريق .. أن لا ينشغلوا بتوافه الخلافات كالأطفال .. و أن يفهموا سنة السياسة كما فهمها الخوئي و الخميني والسيستاني .. ويعرفوا الزمان وأهله .. ويخرسوا بمواقفهم المستقلة ألسنة التخوين التي تطعن في وطنية الشيعة .

وبرأيي أن الوقت حرج جداً .. وما كنت أتصور بعد كل ما مرت به الطائفة من تجارب ومخاضات أن يكون الأداء بهذه السذاجة !!

إن أصحاب القرار لا يقرؤون ولا ثقافة لديهم ليفهموا تجارب التاريخ .. وأيام الله التي تمر عليهم يبددونها بين عزيمة هنا .. ومناسبة اجتماعية هناك .. وبين سفرة وإيفاد كالذين يتخبطه كرسي الحكم من المس .

س 21 : نريد السؤال حول أثر ولاية الفقيه في الشأن العراقي .. فهل يمكن أولاً شرح معناها بشكل مختصر ؟ 

ج : ضع أمامك أربع نقاط :

A. بعد غيبة الإمام صاحب الزمان لابد من رعاية شؤون الناس في مجالات عديدة  .

B . الإمام المعصوم أرشد المجتمع الى اتباع الفقهاء لتحقيق هذه الرعاية والإشراف .

C. ممارسة الفقهاء لدورهم بحاجة الى صلاحية شرعية و ولاية على الناس.

D. الإمام المعصوم منحهم هذه الصلاحية والولاية  .

 وقد وقع الإختلاف الفقهي بين العلماء في النقطة الأخيرة .. أي في حدود هذه الولاية وليس في أصل وجودها .

بمعنى : ليس من الصحيح أن نسأل .. هل المرجع الفلاني يؤمن بولاية الفقيه أم لا ؟

لإن فقهاء الشيعة جميعاً يقولون بـ ( ولاية الفقيه )  أو ( ولاية الحاكم الشرعي ) ولكن اختلافهم كان في حدود هذه الولاية .

الأغلبية منهم تقول بأنها محدودة جداً .. و لايثبت شيئ من مقامات المعصوم وصلاحياته لغير المعصوم .. فأي صلاحية خاصة للمعصوم تحتاج الى دليل لإثباتها لغيره .. ولم يثبت عندنا أكثر من صلاحية القضاء والإفتاء وتسيير بعض الأمور المالية .. وتسمى الولاية بهذه الحدود ( ولاية خاصة ) أو ( الولاية الحسبية ).

مجموعة من الفقهاء ترى عكس ذلك .. وتقول أن جميع صلاحيات المعصوم وولايته على الناس ثابتة للمرجع .. مالولاية على الأنفس والأموال وغير ذلك . ولا يستثنى إلا ما يختص بالمعصوم من حيث عصمته .

بعبارة أشمل : فقهاء الشيعة بين رأيين في المسألة .. رأي يقول (  لاشيئ من ولاية المعصوم يثبت للفقيه إلا ما دخل بدليل ) ورأي يقول ( لاشيئ من ولاية المعصوم يُنفى عن الفقيه إلا ما خرج بدليل ) .

فالخلاصة أن الولاية العامة .. بمعنى أحقية المعصوم عليه السلام بتسيير أمور المجتمع كيفما شاء ( بمقتضى علمه وعصمته ) غير ثابتة لأي إنسان إلا المعصوم نفسه .. وغاية ما يمكن للفقيه إدارته هي الأمر الحسبية ( تسيير الشؤون المالية والاجتماعية بحدود ).

هذا في النظر الفقهي لدى الأغلبية .. ومن أبرزهم السيد الخوئي والسيد السيستاني .

وأما في النظر الفقهي لمجموعة أخرى  _ ومن أبرزهم السيد الخميني _ فهي ثابتة ومن حقه التصرف في أمر المجتمع .. إذا قبل منه المجتمع ذلك .

وأستعرض هنا جواب سماحة السيد السيستاني دام ظله رداً على سؤال بهذا الخصوص :

السؤال: ما هو تعريفكم لولاية الفقيه ؟

الجواب: الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء (رض) بالامور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد ، واما الولاية فيما هو اوسع منها من الامور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الاسلامي فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط اضافية ومنها ان يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين .

 وقد حاول .. الشيخ جوادي آملي أن يرجع مسألة ولاية الفقيه الى باب العقائد ويناقشها كمسألة عقائدية لا فقهية ليعطيها زخماً أكبر .. ولكنه رأي سماحته المنفرد ولم يوافقه كبار الفقهاء . 

س 22 : هل تعتقد أن العراق بحاجة الى ولاية الفقيه العامة التي يراها السيد الخميني ؟ 

ج : أنها مسألة فقهية .. لاتأثير لها في الشأن السياسي مطلقاً .. وما حصل في إيران من انتصار للثورة حصل بسبب الجهاد المستمر والظروف المواتية لمرجع _ صادف _ أنه يقول بالولاية العامة .. وليست الولاية نفسها من أنجحت مشروعه .

إن انتصار الثورة الإسلامية كانت له ظروف دقيقة ومختلفة .. ومن السذاجة والقصور أن ينظر الانسان الى المشهد بشكل عام ثم يقول ( ولي فقيه نجح في إيران .. إذن العراق بحاجة الى ولي فقيه ) !!

 أقول دوماً لبعض الأصدقاء في مجالسنا النقاشية ( إذا جئتموني بحالة واحدة في العراق .. لو تعامل معها فقيه يقول بالولاية العامة .. كانت ستختلف عما لو تعامل معها فقيه يقول بالولاية الحسبية .. فلكم الحق وسأصمت للأبد )

 

أقول ذلك .. لأن الولاية الخاصة ( الحسبية )  ليست قاصرة عن استيعاب مشاكل العراق وغير العراق .. فالمرجع يمكنه القضاء .. وحل المنازعات ..  وإصدار أي حكم بعنوان ( حفظ النظام ) ورعاية المصالح العامة للمجتمع في جميع شؤونه .

وعليه فمن حق الفقيه التدخل والافتاء في كل الأمور .. من حفظ الثروات الاستراتيجية ومنح الإذن الشرعي للجيوش بالقتال .. وللدولة بالتملك .. وجواز إسقاط الحاكم غير العادل ..  وصولاً الى أبسط القوانين كمنع ربط الكهرباء بدون ميزانية .. أو عبور الشارع خلافاً لقانون المرور .. أو التأخر خمس دقائق عن الدوام .

كلا سيدي .. وضع العراق .. وبلواه العظيمة بهؤلاء المتسترين بالدين و لاعلاقة له بالعلماء ولا باختلاف المباني الفقهية للمراجع .

نقلت لك قبل قليل أن السيد الخميني صرح سنة 1971  بأنه سيغادر العراق لو استمر تهجير الطلبة .

نفس هذا الموقف كان قد فعله السيد الخوئي قبله بأيام .. حيث أرسل الشيخ محمد حسين الصغير والسيد محمد صالح الخرسان .. مبعوثين عنه الى مدير أمن النجف ( إبراهيم خلف ) حاملين جوازات سفر السيد وعائلته .. ليهدد بالخروج من العراق .

ولأن العراق كان في منافسة مع إيران على عدة ملفات .. فقد قررت حكومة البكر ونائبه صدام .. أن وجود مرجعين بهذا النفوذ الشعبي الواسع .. يمثل ورقة قوة  للعراق لايمكن التخلي عنها .. وأوقفوا التهجير الى عقد كامل منذ ذلك الحين  ( راجع كتاب دوحة من جنة الغري لضياء الخباز  ص 301 ) .

فهل ترى التطابق في الموقف رغم اختلاف المباني الفقهية بينهما حول ولاية الفقيه ؟

لم نسمع من احدهما أي كلمة حول ( الثورة على الطاغية )  .. ولم يقم أحدهما بأي خطوة في هذا الصدد .. رغم أن الخميني فقد ولده مصطفى .. والخوئي فقد الكثير من طلبته وأولاده .. لكن وضع العراق لم يكن نسخة من الوضع الإيراني لنقول .. ثورة هنا وثورة هناك .

س 23 : هل تعني أن مواقف السيدين الخوئي والخميني لم تكن تختلف أو تتفق بسبب ولاية الفقيه بل بحسب الظروف ؟ 

ج : لاشك في ذلك .. فوارق الظروف كانت شاسعة جداً .. بينما الاختلاف الفقهي كان في هامش بسيط لايكاد يذكر .

هناك نسبة من السطحية يعاني منها بعض الشباب .. عندما يرى الثورة الإسلامية في إيران فيتسائل ( لماذا لم يفعلها السيد الخوئي في العراق ) وينتظر استنساخ التجربة متجاهلاً الفروق الجوهرية بين البلدين .

ولا أعرف ما سيقوله هؤلاء .. لو رجعنا بهم الى بداية عقد الستينات ..  وكيف كان السيد الخوئي ( الذي لايقول بالولاية العامة ) يرسل الخطابات النارية في وجه شاه إيران محمد رضا بهلوي ..احتجاجاً على إيذاء العلماء .. والقوانين الدستورية المخالفة للإسلام فيما يعرف بـ ( مشروع الثورة البيضاء ) .. و تحذيراته المستمرة من تمكين الحركات اليهودية البهائية من مقدرات إيران .

 وفي نفس التوقيت بدأ السيد الخميني حركته السياسية .. بينما كان قبلها منصرفاً الى دراسة العلوم الدينية معتزلاً النشاط السياسي بشكل كامل ويقول بالنص ( أنا طلبة وأدرس ماذا تريدون مني ؟  )  هذا وهو ( القائل بولاية الفقيه ) .

رغم أن إيران كانت تسبح على بحر من الأحداث .. كثورة محمد مصدق على الشاه ثم الانقلاب على مصدق في عملية أجاكس الأمريكية ونشاطات السيد حسن المدرس والعمل المسلح للشهيد نواب صفوي وغيرها من الأحداث .

راجع في ذلك مانقله تلميذه الشهيد فضل الله المحلاتي ( مجلة ١٥خرداد العدد ١٠٠ ) .

كن واثقاً أن الفقيه الذي درس في حوزة أهل البيت .. سيمتلك من الحكمة ما يجعله يختار اللحظة المناسبة للحركة بحسب ما يقتضيه تكليفه الشرعي .

ولم يُعرف الخميني كقائد ثوري بشكل بارز إلا قبيل أحداث خرداد ( نيمه خرداد ) 1963 وأما بعدها فقد أصبح الخميني الذي سجله التاريخ .

وكان أول من أرسل خطاباً تضامنياً الى السيد الخميني عندما وقعت أحداث خرداد الدامية هو السيد الخوئي .. حيث كتب :

(( بسم الله الرحمن الرحيم _ قم _ حضرة آية الله الخميني دامت بركاته : جناية الجائرين على الحوزة العلمية أوجعت قلوبنا وعامة المسلمين ( فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ))

وبعد 15 سنة من ذلك تحقق وعد الآية الكريمة التي اختارها السيد الخوئي .. وانتصرت الثورة الاسلامية .. بينما بقي الخوئي نفسه يكابد مرارة ظروف العراق .. لا هدف له إلا حفظ قلب التشيع ( حوزة النجف ) من الفناء الى الأبد على يد أعتى زمرة عرفها التاريخ .. وسط محيط عربي وعالمي اتفقت كلمته على دعم هذه الزمرة بشكل لم يشهد مثيلاً في العلاقات الدولية .

إنها الظروف والأزمنة والأمكنة .. وليس موضوع ولاية الفقيه على الإطلاق .. وهذا ما يميز علماء الشيعة .. ودرايتهم بالزمان وما يحتاجه .

س 24 : هل تعتقد أن المفاهيم المتعلقة بولاية الفقيه والثورة الاسلامية يتم ترويجها في العراق بصورة صحيحة ؟

ج : هذا ما يحز في النفس.

يؤسفني .. أن جيلاً كاملاً من شباب العراق أصبح يتملكه شعور سلبي تجاه الإمام الخميني عندما يسمع بأنه صاحب ولاية الفقيه .. لأنه لا يعرف السيد بوصفه ثائراً يدعو للاستقلال وعزة الأوطان .. ولا يدري أن خطاباته في هذا الصدد فاقت جيفارا وأمثاله عشرات المرات كماً وتأثيراً .

بل كل ما يسمعونه من المتكلمين عندنا هنا في العراق .. يصور لهم أن ولاية الفقية حوتٌ يبتلع الحدود الوطنية للدول .. وأن المؤمن بها يجب أن يثور على فكرة القومية .. ويخجل من التفكير بأبناء جلدته أولاً .

وتتعمق قناعة الشاب المسكين عندما يسمع تصريحات مستفزة من بعض سذج السياسة في إيران ، وهم أيضاً محسوبون _ لا أدري كيف _ على الإمام الخميني .

الكارثة .. أن هذا الجيل لم يعد يفرق بين الإمام الخميني وخطه العلمائي الحوزوي ومسلكه العرفاني .. وبين جماعات فلان وعلان _ في العراق وإيران _ ممن ينسبون أنفسهم اليه ويتكلمون عنه بلا فهم ولا علم .

بل رأيت في بعض مواقع التواصل من المحسوبين على هذه الجهات .. يتلاقفون الفيديوهات التي تصورها بعض النساء غير الملتزمات .. ويتداولونها بالنشر والكثيف للتشهير بهن بدون رادع من شرع أو حياء .. وكل ذلك لإسقاط التظاهرات من عيون الناس .

فيالله .. هل يُحسب هؤلاء على فكر الخميني صاحب ( الأربعون حديثاً في الأخلاق ) ؟

وماذا سيقول لهم لو عاد الى دار الدنيا ؟ أدعوكم لقراءة هذا الكتاب .. وستعرفون ماذا سيقول لهم .

س 25 : هل هناك شيئ أخير تريد قوله ؟

ج : أنصح شبابنا بأن يفكروا جيداً من أين يستقون معلوماتهم وكيف يحددون مواقفهم .. فالزمان زمان فتنة عمياء صماء

أمريكا تشعر بالضغط من التقدم الصيني في العالم .. مما يجعلها عدوانية جداً .

وإيران  تشعر بالضغط الشديد من جهة أمريكا مما يجعلها تستخدم كل أوراقها.

والسعودية تشعر بالضغط من إيران وتركيا وقطر وتخاف من فقد دورها الريادي .

والكيان الإسرائيلي يريد صب الزيت على النار وإشعال المنطقة لتبقى مشغولة بنفسها.

وفي الداخل العراقي .. كل الملفات أعلاه قد تنعكس علينا .. وقد نصبح ساحة لتصفية الحسابات والتآكل فيما بيننا على شرف مائدة الآخرين .

وبقدر ما تختلط الملفات وتتعقد الأمور .. يصعب أن نجعلها في قواعد واضحة تعطينا رؤية مستقبلية .. حتى كأني أستذكر عبارة ( كقطع الليل المظلم ) في كل حدث يجري .

ولو بحثت عن عبارة تختصر هذا الجواب .. بل تختصر كل الـ 25 سؤال وجواب التي طرحت .. فسأقول : تمسكوا بالنجف .