العصمة.. أمر اكتسابي أم ذاتي؟

هل هي متاحة للجميع؟

قد وقفت في البحث السابق على حقيقة "العصمة" والعوامل التي توجب صيانة الاِنسان عن الوقوع في حبال المعصية، ومهالك التمرد والطغيان، غير انّ هاهنا سؤالاً هاماً يجب الإجابة عنه وهو: انّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله، وعلى أي تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص، وعندئذ يسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من الله لعباده المخلصين، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب؟ فالظاهر من كلمات المتكلمين أنّها موهبة من مواهب الله سبحانه يتفضّل بها على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد: العصمة تفضل من الله على من علم انّه يتمسك بعصمته.[1]

وهذه العبارة تشعر بأنّ إفاضة العصمة من الله سبحانه أمر خارج عن إطار الاختيار، غير أنّ اعمالها والاستفادة منها يرجع إلى العبد وداخل في إطار إرادته، فله أن يتمسك بها فيبقى معصوماً من المعصية، كما له ألا يتمسك بتلك العصمة.

وقال أيضاً: والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان مما يكره إذا أتى بالطاعة.[2] وقال المرتضى في أماليه: العصمة: لطف الله الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح.

ونقل العلاّمة الحلّي عن بعض المتكلمين بأنّه فسر العصمة بالأمر الذي يفعله الله بالعبد من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك إلى الإلجاء.

ونقل عن بعضهم: العصمة لطف يفعله الله تعالى بصاحبها لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية.

ثم فسر أسباب هذا اللطف بأُمور أربعة.[3] وقال جمال الدين مقداد بن عبد الله الشهير بالفاضل السيوري الحلي (المتوفّى عام 826 هـ) في كتابه القيم "اللوامع الاِلهية في المباحث الكلامية":

قال أصحابنا ومن وافقهم من العدلية: هي (العصمة) لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية لانتفاء داعيه، ووجود صارفه مع قدرته عليها" ثم نقل عن الأشاعرة بأنّها هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية.[4] كما نقل عن بعض الحكماء أنّ المعصوم خلقه الله جبلة صافية، وطينة نقية، ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي، وجعل له ألطافاً زائدة، فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات، والالتفات إلى ملكوت السماوات، والاِعراض عن عالم الجهات، فتصير النفس الاَمارة مأسورة مقهورة في حيز النفس العاقلة.[5]

وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: (إِنّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)[6] إنّ الله تستمر إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيء عنكم أهل البيت وإيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة.[7] إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بكون العصمة من مواهبه سبحانه إلى عباده المخلصين، وفي الآيات القرآنية تلويحات وإشارات إلى ذلك مثل قوله سبحانه: (وَ اذْكُرْ عَبْدَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الاَيْدِي وَالاَبْصارِ* إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ* وَإِنَّهُمْ عَنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاَخْيارِ* وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الاَخْيارِ)[8] وقوله سبحانه في حق بنى إسرائيل والمراد أنبياَؤهم ورسلهم: (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ* وَآتَيْناهُمْ مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ).[9] فإنّ قوله: (إنّهم عندنا لمن المصطفين الاَخيار) وقوله: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) يدل على أنّ النبوة والعصمة، وإعطاء الآيات لأصحابها من مواهب الله سبحانه إلى الاَنبياء، ومن يقوم مقامهم من الأوصياء.

فإذا كانت العصمة أمراً إلهياً وموهبة من مواهبه سبحانه، فعندئذ ينطرح هاهنا سؤالان تجب الاِجابة عنهما، والسؤالان عبارة عن:

1. لو كانت العصمة موهبة من الله مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد كمالاً ومفخرة للمعصوم حتى يستحق بها التحسين والتحميد والتمجيد، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللؤلؤ، لا يستحق التحسين والتمجيد، فإنّ الحمد والثناء إنّما يصحان في مقابل الفعل الاختياري، وما هو خارج عن إطار الاختيار لا يصح أن يحمد صاحبه عليه، إذ هو وغيره في هذا المجال سواء، ولو أفيض ذاك الكمال على فرد آخر لكان مثله؟

2.  إذا كانت العصمة تعصم الإنسان عن الوقوع في المعصية، فالإنسان المعصوم عاجز عن ارتكاب المعاصي واقتراف المآثم، وعندئذ لا يستحق لترك العصيان مدحاً ولا ثواباً إذ لا اختيار له؟

والفرق بين السؤالين واضح، إذ السؤال الاَوّل يرجع إلى عد نفس إفاضة العصمة مفخرة من مفاخر المعصوم، لأنه إذا كانت موهبة إلهية لما صح عدها كمالاً للمعصوم، بخلاف السؤال الثاني فإنّه يتوجه إلى أنّ العصمة تسلب القدرة عن المعصوم على ارتكاب المعاصي، فلا يعد الترك كمالاً ولا عاملاً لاستحقاق الثواب.

وهنا سؤال من أهم الأسئلة في باب العصمة، وإليك الاِجابة.

إنّ العصمة الاِلهية لا تفاض للأفراد إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها، وأمّا ما هي تلك الأرضيات والقابليات التي تقتضي إفاضتها فخارج عن موضوع البحث، غير إنّا نقول على وجه الاجمال: إنّ تلك القابليات على قسمين: قسم خارج عن اختيار الإنسان، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره.

أمّا القسم الاَوّل، فهي القابليات التي تنتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة، فإنّ الاَولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، يرثون أوصافهم الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يشبه الاَب أو العم، أو الاَم أو الخال، وقد جاء في المثل: الولد الحلال يشبه العم أو الخال.

وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الاَولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الاَوصاف الجسمانية والروحانية.

إنّ الاَنبياء كما يحدّثنا التاريخ كانوا يتولّدون في البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل والكمالات، وما زالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية من نسل إلى نسل وتتكامل إلى أن تتجسد في نفس النبي ويتولد هو بروح طيبة وقابلية كبيرة لإفاضة المواهب الاِلهية عليه.

نعم ليست الوراثة العامل الوحيد لتكوّن تلك القابليات بل هناك عامل آخر لتكوّنها في نفوس الاَنبياء وهو عامل التربية، فإنّ الكمالات والفضائل الموجودة في بيئتهم تنتقل من طريق التربية إلى الاَولاد.

ففي ظل ذينك العاملين: "الوراثة والتربية" نرى كثيراً من أهل تلك البيوتات ذوي إيمان وأمانة، وذكاء ودراية، وما ذلك إلاّ لاَنّ العائشين في تلك البيئات والمتولدين فيها يكتسبون جل هذه الكمالات من ذينك الطريقين، وعلى ذلك فهذه الكمالات الروحية أرضيات صالحة لإفاضة المواهب الاِلهية إلى أصحابها ومنها العصمة والنبوة.

نعم هناك عوامل أُخر لاكتساب الأرضيات الصالحة داخلة في إطار الاختيار وحرية الإنسان وإليك بعضها:

1. انّ حياة الاَنبياء من لدن ولادتهم إلى زمان بعثتهم مشحونة بالمجاهدات الفردية والاجتماعية، فقد كانوا يجاهدون النفس الاَمّارة أشد الجهاد، ويمارسون تهذيب أنفسهم بل ومجتمعهم، فهذا هو يوسف الصدّيق (عليه السلام) جاهد نفسه الاَمّارة وألجمها بأشد الوجوه عندما راودته من هو في بيتها (وَغَلَّقَتِ الاَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَك) فأجاب بالرد والنفي بقوله: (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْواىَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ) .[10] وهذا موسى كليم الله وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر، فقدم اليهما قائلاً: ما خطبكما فقالتا: انا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، وعند ذلك لم يتفكر في شيء إلاّ في رفع حاجتهما، ولأجل ذلك سقى لهما ثم تولّى إلى الظل قائلاً: (رَبّ إِنّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[11]. [12] وكم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الأنبياء وقيامهم بواجبهم أبّان شبابهم إلى زمان بعثتهم التي تصدت لذكرها الكتب السماوية وقصص الأنبياء وتواريخ البشر.

فهذه العوامل، الداخل بعضها في إطار الاختيار والخارج بعضها عن إطاره أوجدت قابليات وأرضيات صالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك الفيض العظيم، فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين والتبجيل والتكريم.

وإن شئت قلت: إنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم، ومصير حالهم وعلم أنّهم ذوات مقدسة، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار، وهذا العلم كاف لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم بخلاف من يعلم من حاله خلاف ذلك.

يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ الله سبحانه خلق بعض عباده على استقامة الفطرة، واعتدال الخلقة، فنشأوا من بادىَ الاَمر بأذهان وقّادة، وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة، وقلوب سليمة، فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات، والظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون (بالفتح) لله في مصطلح القرآن، وهم الأنبياء والأئمّة، وقد نص القرآن بأنّ الله اجتباهم، أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته، قال تعالى: (وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)[13] وقال: (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ)[14] .[15] وهذه العبارة من العلاّمة الطباطبائي تشير إلى القسم الثاني وهو القابليات الخارجة عن اختيار الأنبياء غير انّ هناك أُموراً واقعة في اختيارهم كما عرفت، فالكل يعطي الصلاحية لإفاضة الموهبة الاِلهية على تلك النفوس المقدّسة.

كلام السيد المرتضى

إنّ للسيد المرتضى كلاماً في الاِجابة عن هذا السؤال نأتي بنصه:

فإن قيل: إذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم فألاَّ عَصَمَ اللهُ تعالى جميع المكلّفين وفعل بهم ما يختارون عنده الامتناع من القبائح؟

قلنا: كل من علم الله تعالى أنّ له لطفاً يختار عنده الامتناع من القبائح فإنّه لا بد أن يفعل به وإن لم يكن نبياً ولا إماماً، لاَنّ التكليف يقتضي فعل اللطف على ما دل عليه في مواضع كثيرة غير انّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فعل، اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف، وتكليف من لا لطف له يحسن ولا يقبح وانّما القبيح منع اللطف في من له لطف مع ثبوت التكليف.[16] وحاصل ما أفاده هو: انّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الاَفراد في المستقبل فكل من علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة، وان لم يكن نبياً ولا إماماً، وأمّا من علم انّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه العصمة لأنه لا يستحق الاِفاضة.

وعلى ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض لمن يعلم من حاله انّه ينتفع منها في ترك القبائح عن حرية واختيار.

ولأجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ولا يلزم أن يكون المعصوم نبياً أو إماماً، بل كل من ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تفاض عليه.

*مقتطف من كتاب عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

موقع الأئمة الاثني عشر

الهوامش:

[1] شرح عقائد الصدوق: 61.

[2]  أوائل المقالات: 11.

[3]  كشف المراد: 228، طبعة صيدا.

[4] العصمة لا تنافي القدرة، والهدف من نقل قول الاَشاعرة هو إثبات اتفاق القائلين بالعصمة، على أنّها موهبة إلهية.

[5]  اللوامع الالهية: 169.

[6]  الاَحزاب: 33.

[7] الميزان: 16/313.

[8] ص: 45 ـ 48.

[9] الدخان: 32 ـ 33.

[10] يوسف: 23.

[11] القصص: 23 ـ 24.

[12] لاحظ قصة موسى في دفعه القبطي المعتدي على إسرائيلى في سورة القصص الآيات: 15 ـ 20 وفي ذلك يقول: (رب بما أنعمت علىّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين)(القصص: 17).

[13] الاَنعام: 87.

[14] الحج: 78.

[15] الميزان: 11/177.

[16] أمالى المرتضى: 2/347 ـ 348، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.