لماذا لم يذكر القرآن الأنبياء خارج الشرق الأوسط؟

وهذا السؤال لا ينشأ إلا مع تعميم إرسال الرسل مكانياً وتوزيع بعث الأنبياء على كامل الكرة الأرضية وبكلمة أوضح، إنّ الواقع التاريخي الذي نجهل معرفته معرفة تفصيلية تامة في هذا الخصوص يجعلنا نفترض حالتين لا تخلو الحقيقة منهما: إمّا أنّ الأنبياء بالفعل لم يظهروا إلا ضمن بقعة جغرافية محددة وهي (الشرق الأوسط)، وإمّا أنّ النبوة عمت كل الأرض وظهر الأنبياء بين كل الأقوام بيد أنّ التأريخ طوى ذكرهم، كما القرآن أيضاً وبناءً عليها ينشأ السؤال: لماذا اهتم القرآن بأنبياء الشرق الأوسط ولم يذكر سواهم؟!

واذن، لا يُسأل عن خلو القرآن عمّا لا وجود له، والمكان ليس عائقاً مثلما لاحظنا، لكن هذا لا يُخرج الحالة الأولى من السؤال، فإذا كانت النبوة في الشرق الأوسط وحسب، كيف إذن نفهم الآيات التي أفادت التعميم، لكل الأقوام؟! وعليه، فثمّة سؤالان وقضيتان في هذا المقال:

الأولى: اهتمام القرآن بأنبياء الشرق الأوسط

سيكون للسؤال وجه في حال أنّ القرآن الكريم صرّح بأنّ من ذكرهم من الرسل هم وحدهم رسل الله ولا رسل سوى الذين ذكرهم، أو على الأقل فيما لو سكت بيد أنّه يفيد بكل صراحة أنّ ثمة رسل موجودون بالفعل ولم يذكرهم »وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا«([1])، وأنّ هؤلاء الأنبياء سواء الذين ذكرهم أو الذين لم يقصصهم قد أرسل كل واحد منهم بلسان قومه: »وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...«([2]).

إنّ إعداد قوائم تتضمن سرد أسماء أولئك الأنبياء فقط، يعني أننا أمام سجلات النفوس، وأمّا إذا أشير لشيء من أحوالهم وقصصهم فالأمر يقتضـي تدوين موسوعات تاريخية، الله وحده يعلم عدد أجزائها وكم مرّة يضاعف عمر الإنسان ليطلع عليها، وفي كلتا الحالتين يخرج الكتاب الكريم عن كونه كتاب هداية ليكون إمّا سجّلاً للنفوس أو كتاباً تاريخياً.

طبعاً إذا أغمضنا النظر عن أوصيائهم، وإلا فحسب العقيدة الإسلامية واستناداً لبعض الأخبار، فإنّ عدد المجموع يقرب من الربع مليون، ولا أقلّ من عشـرات الآلف! 

يقول الصدوق (توفي: 381هـ ): "اعتقادنا في عددهم أنّهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، ومائة ألف وصي وأربعة وعشرون ألف وصي، لكل نبي منهم وصي، أوصى إليه بأمر الله تعالى"([3]).

ومن ناحية قرآنية أيضاً، تعدّ كلّ من: اليهودية والمسيحية والإسلام امتداداً تكاملياً لدين واحد، دين إبراهيم الذي ظهر في الشرق (العراق تحديداً)، تكمل المسيحية اليهودية، ويكمل الإسلام ما قبله، وعندها فالسياق المنطقي يقتضـي أن يكون الشرق موضعاً لإرسال الرسل ويأخذوا محل اهتمام القرآن.

كما أنّ تلك البقعة حوت أسبق الحضارات وأكثرها تقدماً منها عرف البشـر الكتابة، وفيها خطّ حمورابي أولى القوانين التي عرفها البشر (مسلّة حمورابي)، وقد قيل عنها: إنّها شرائع نازلة من السماء كما نقل ول ديورانت في قصة الحضارة كما وأشار لـ (فضل مدينة بابل على المدينة الحديثة)([4])، وفيها اكتشفت العجلة، واشتملت أعلى منسوب في الكثافة السكانية من بين سائر بقع الأرض، والحديث طويل في هذا الجانب، لكن المهم هو أنّ ذلك كله أهّل الشرق وأهّله في أن يكون محلاً للاهتمام في هذا الجانب ليكون النافذة والبوابة لسائر أمم الأرض.

وما دامت تخلو سائر بقع الأرض وشعوبها من تأريخ مدون ومكتوب لرسلها كما افترضت الإشكالية، كيف إذن يسوغ للقرآن أن يسرد ويذكّر تلك الأمم والشعوب برسلها وأنبيائها الذين لا تعرف عنهم تلك الأمم شيئاً أصلاً؟!، ألا يكون هذا مدعاة لرمي القرآن بالاختلاق والكذب من قبل تلك الشعوب؟!

القضية الثانية: كيف نفهم آيات عموم الإرسال والبعث؟

بالعودة لتلك الآيات، مثل: »وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً« فثمّ أربع احتمالات لا يخرج الواقع عنها، على ضوء مفردتين متضمنتين فيها: الرسول و، والأمة، كل منهما يحمل افتراضين، وفيما يخصّ المفردة الأولى، فإنّ الآيات المشار إليها لم تتحدث بلسان "النبوة، والنبي"، بل عبّرت بـ "الرسول"، والمعنى المفترض لها أعمّ من المعنى المعهود والمتداول، لكنه محتمل، وهو بمعنى الحجة، ويشمل كل من له ارتباط بالله ويوصل رسائله إلى الناس، أي أنّه الواسطة بين الخلق والخالق وإن لم يكن نبياً، ليس لقمان وحده، فثمّ ذو القرنين المذكور في القرآن، ولا يقطع أحد بمعرفة شخصه حتى اليوم، قيل هو الاسكندر ملك مقدونيا الأغريقي المعروف وقيل هو (تبّع)أحد ملوك اليمن وذهب آخر إلى أنّه (كورش الكبير) أول ملوك الفرس، لكن لقمان مثال جيد، فقد عرف عنه في التأريخ وبين الناس بالحكيم، والقرآن أيضاً، »وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ«([5])، وهكذا كما انقلب قول المعترض: بدلاً عن الأنبياء ظهر في اوروبا الفلاسفة العظماء، من امثال ارسطو و افلاطون و سقراط، ينقلب الآن وهنا قوله: ظهر فى الصين الحكيم كبديل للنبى.

وفيما يخص المفردة الثانية، في معناها احتمالان متصوران: أحدهما يأخذ الوحدة الزمنية كرابطة بين أعضاء أفرادها، وفي الآخر تؤخذ اعتبارات أخرى كاللغة أو القومية أو الدين وهكذا، ولا نود الإسهاب في هذه الجانب، وكل الذي نود قوله هنا هو الآتي:

على جميع الاحتمالات الأربعة المتصورة لا يترتب أيّ محذور ولا يلزم الإشكال، فلا بعد المسافة والمكان يعيق الغرض من إرسال الهداة من أنبياء ومرسلين وحجج وأولياء، ولا تواجد الحجة بشخصه ضروري لبلوغ هدفه، تصل الهداية للناس أو يصلوا إليها، وتبلغ الرسالة كل العالم مع ما بين الهادي والمهدي من بعد، والواقع الراهن و التأريخي شاهد، يظهر المسيح عيسى ابن مريم ومعه تلامذته ورسله في الشرق الأوسط وتحديداً في فلسطين من بلاد الشام ذات الأغلبية المسلمة اليوم، لكن أوربا التي لم تطأها قدماه تدين بالمسيحية! وذات الكلام في رسول الإسلام محمد بعده، ولو كان عذر المكان والحضور الشخصي صحيحاً لم تكن اليمن والعراق وايران واندنوسيا ووالخ بلدانا اسلامية، ولن تنتهي القصة لو كان لكل قارة رسول ففي كل بقعة وبلد داخل القارة الواحدة يمكن أن يقال كما قيل في سائر القارات والامكنة، وتصل السذاجة لاعتراض الحي المجاور لحي الرسول، وما يدرينا ربما المنزل المجاور!

يعترف (دوكينز) باندهاشه من الجهل العام بالكتاب المقدس في العقود الأخيرة؛ إذ يورد استطلاعاً للرأي تمّ سنة: 1954م، وجد بأنّ ثلاثة أرباع المسيحيين لم يستطيعوا تسمية نبي واحد من العهد القديم، هذا في الولايات المتحدة الأكثر تديناً من البلاد الأخرى، كما يقول دوكينز([6]).

وأكثر الناس في الشـرق الأوسط لا يعرفون إمامهم، وقرآنهم بين أيديهم يتلونه ويتلى عليهم في كل مكان وزمان ولأكثر من ألف عام، وهو يقول: »يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ«([7])، وأهمّ من ذلك قوله بصيغة المضارع المستمر: »تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ«([8])، ولا يعرفون على من تتنزل اليوم؟! هذا بحد ذاته يضعك أمامك بذرة جواب متكامل إياً يكن انتماؤك وأينما كنت، احتمل صدقيته على الأقل، هذه تنهيدة وجدتْ لنفسها محلاً، على ألا تنسينا القاعدة التي يرسيها القرآن: لا عذاب ولا مسائلة إلا مع قيام الحجة: »وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا« ([9])، و»لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا«([10]).

ونتيجة ذلك كله، أنّ بعث الأنبياء في مكان محدد غير عائق من بلوغ دعوتهم لسائر الأمم، ويحدث أن يصدق العكس، فمغنية الحي لا تطرب، كما يقول المثل، وقوله لا يقاس، ومن محاسن الصدف أن ثمة مثل في ذات الموضوع بالخصوص، يقول المثل: لا كرامة لنبي في وطنه ([11])، وللشاعر أيضاً بيت:

لا عيب لي غير أنّي من ديارهم

                      وزامر الحي لا تشجي مزامره

 

([1]) النساء: 164.

([2]) إبراهيم: 4.

([3]) الصدوق – الاعتقادات، ص92، تحقيق : عصام عبد السيد، مركز الأبحاث العقائدية (186).

([4]) ديورانت - قصة الحضارة، ج2 ص187، مصدر سابق.

([5]) لقمان: 12.

([6]) دوكينز - وهم الإله، ص347.

([7]) الإسراء : 71.

([8]) القدر : 4.

([9]) الإسراء: 15.

([10]) الطلاق: 7.

([11]) جاء أيضاً في الكتاب المقدس : [لأنّ يسوع نفسه شهد ان ليس لنبي كرامة في وطنه] إنجيل يوحنا : 4: 44.