معاجر الأنبياء.. حقيقة أم خرافة؟!

قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ)[1]

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث عن نقطة محورية، وهي مسألة الإعجاز، ما هي الحكمة والهدف من الاعجاز؟

دليل النبوة

نحن نعرف ان النبوة حدث غير طبيعي لأن النبوة عبارة عن اتصال قلب النبي بعالم الغيب، واتصالُ المادي بعالم مجرد عن المادة حدثٌ غير طبيعي، اتصال المحدود باللامحدود حدث غير طبيعي واتصال عالم الملك (الذي هو عالم المادة) بعالم الملكوت (الذي هو عالم وراء المادة) حدث غير طبيعي، فبما أن النبوة هي أمر غير طبيعي لذلك كان الدليل والبرهان على ثبوت النبوة أمرا غير طبيعي ألا وهو الإعجاز، لكي يحصل تناسب وانسجام بين الدليل والنتيجة، فالنتيجة التي نريد أن نثبتها هي النبوة وهي أمر غير طبيعي.

إذن بما أن النتيجة التي نريد أن نتوصل اليها أمر غير طبيعي لذلك اقتضت الحكمة أن يكون الدليل والبرهان الموصل الى ثبوت النبوة هو امر غير طبيعي ألا وهو الإعجاز لكي يحصل تناسخ وانسجام بين النتيجة والدليل، وحديثنا هنا عن الإعجاز في محاور ثلاثة:

  • ما هي حقيقة الإعجاز؟
  • وهل يتنافى الإعجاز مع الميزان العلمي؟
  • وهل يتنافى الإعجاز مع المنطق القرآني؟
  • المحور الأول: ما هي حقيقة الإعجاز؟

    من أجل أن نتعرف على حقيقة الإعجاز نذكر أربعة عناصر:

    العنصر الأول:

     هل أن الاعجاز هدم لقانون السنخية بين المُسبب والسبب؟ نحن لدينا قانون عقلي أن لكل مسبب سببا من سنخه فالبيضة تنتج فرخا ولا تنتج تفاحة، وبذرة الشجرة نتنج ثمرة ولا تنتج حيوانا، والنطفة المنوية تنتج انسانا ولا تنتج تفاحة، فلكل مُسبب سبب من سنخه، هذا القانون العقلي هل أن الاعجاز ضرب لهذا القانون العقلي؟ هل أن الاعجاز خارق للعادة من دون سبب من سنخه أم لا؟

    قد يقول قائل نعم لأن قدرة الله مطلقة فبما أن الله قادر على كل شيء إذن هو قادر على أن يضرب هذا القانون وهو أن لكل مسبب سبب من سنخه، باعتبار أن هذه القوانين أبدعها الله فبما أنه هو الذي أبدعها فهو القادر على خرقها وهدمها، وعلى هذا تكون المعجزة هي ضرب لقانون السنخية من قبل الله تعالى بمقتضى قدرته، ولكننا لا نؤيد هذه الفكرة ، نحن نقول أن الله قادر على كل شيء وأما ما ليس بشيء فلا تتعلق به القدرة ، أي ان كل أمر ممكن أن يتحقق فهو شيء تتعلق به القدرة الالهية وأما الأمر الذي يستحيل تحققه فهذا ليس بشيء حتى تتعلق به القدرة الالهية، فمثلا القانون الرياضي اثنان زائد اثنان يساوي أربعة ، زوايا المثلث تساوي قائمتين فهذا القانون الرياضي لا يمكن أن نقول الله قادر على هدمه، يمكن أن يجعل الله الاثنين ثلاثة او يمكن ان يجعل زوايا المثلث تساوي قائمة واحدة فهذا امر غير ممكن، تساوي زوايا المثلث مع قائمة أمر مستحيل في نفسه فانه ليس بشيء حتى تتعلق به القدرة الالهية كذلك عندما نأتي الى النقيضين فهما لا يجتمعان فلو قال شخص أن الله قادر على كل شيء فإذن هو قادر على جمع النقيضين مثل جعل الانسان موجودا وغير موجود في آن واحد، نقول لا يمكن هذا، لا لعجز فيه تعالى بل لأن اجتماع النقيضين ليس بشيء لأنه أمر مستحيل في نفسه، ولذلك جاء في توحيد الصدوق حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله ، عن عمه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبي أيوب المدني عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟

    قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون. ([2])

    أي هذه المسألة التي سألت عنها أمر مستحيل في نفسه فليس بشيء حتى تتعلق به القدرة الالهية، فلا يمكن أن يكون الظرف أصغر من المظروف فهي مسألة مستحيلة عقلا.

    إذن لا يمكن أن تكون المعجزة ضربا لقانون السنخية، لأنه قانون عقلي ومن المستحيل أن يكون المُسبَب ناشئ عن سبب من غير سنخه كما أنه من المستحيل أن يوجد المسبب بلا سبب يستحيل ان يوجد المسبب بلا سبب من سنخه، فالمعجزة ليست ضربا لقانون السنخية لأنه أمر محال في نفسه لا أن قدرة الله عاجزة عنه.

    العنصر الثاني:

    القوانين إما رياضية او عقلية او طبيعية. فالقانون الرياضي يستحيل تخلفه، فاذا ضربنا 4 × 4 = 16 فهذا يستحيل تخلفه، زوايا المثلث تساوي قائمتين يستحيل تخلفها.

    والقانون العقلي أيضا يستحيل تخلفه، فالنقيضان لا يجتمعان والكل أكبر من الجزء فلا يمكن ان يكون الجزء اكبر من الكل، وكذا الظرف لا يمكن ان يكون اصغر من المظروف، فهذه قوانين عقلية لا يمكن تخلفها.

    أما القانون الطبيعي وهو الذي أثبتناه بالتجربة مثل: كل ماء اذا بلغت درجة حرارته مائة فانه يغلي، هل يمكن تخلف هذا القانون الطبيعي؟ الجواب نعم يمكن .

    ممكن في بعض المرتفعات البعيدة عن سطح البحر ان تبلغ درجة حرارة الماء مائة ولكنه لا يغلي. فالقانون الطبيعي يمكن ان يتخلف لأن اثباته عن طريق الاستقراء التجريبي والاستقراء ممكن ان يتخلف في بعض الافراد، ففي المثال أعلاه لو قمنا باستقراء مليار فرد من الماء فوجدناه يغلي بدرجة الحرارة المئوية ولكن لم نستقرأ كل ماء على وجه الأرض وفي كل حال وفي كل ظرف، فبما أن الدليل القائم عليه القانون هو الاستقراء وهو قابل للاستثناء إذن القانون الطبيعي المستفاد من الاستقراء التجريبي يمكن أن تكون له استثناءات.

    العنصر الثالث:

    القانون الطبيعي على قسمين:

  • قانون واقعي لا يمكن ان يتخلف
  • قانون ظاهري بمعنى اننا اكتشفنا هذا القانون من خلال الاستقراء والتجربة ولكن لعل في اكتشافنا خللا، ليس الخلل في ذات القانون بل في اكتشافنا له ولذا نسميه قانونا ظاهريا، لعل اكتشافنا للقانون عن طريق الاستقراء التجريبي غير استيعابي لذلك نرى استثناءات لهذا القانون، ومن هنا نقول: القانون الطبيعي قد يكون ثابتا لا يتخلف، وقد يكون هناك قانون اكتشفناه بالتجربة ثم ثبت لنا أنه ليس عاما فهو ليس قانونا واقعيا انما هو قانون ظاهري، أي اننا اثبتناه بالتجربة، ومثال ذلك: ولادة الانثى هل يمكن ان يحصل بدون نطفة منوية من أب؟ فلو مشينا على القانون الظاهري المعتاد نقول: منذ قرون أن الاستقراء أثبت أن الأنثى من الحيوان تحتاج الى بويضة ملقحة من ذكر وأنثى هذا هو القانون، ولكن العلماء اليوم اكتشفوا من خلال نعجة دولي في اسكوتلندا عام 1994 أن الحيوان الأنثى يمكن ان يُتخلق من خلية الأنثى بلا حاجة الى حيوان منوي من الأب.
  • إذن ما كنا نراه بالأمس قانونا طبيعيا لا يتخلف اكتشفنا أنه ليس قانونا ثابتا عاما لا يتخلف، من هنا فالقانون الطبيعي قد يكون واقعيا لا يتخلف وقد يكون ظاهريا يتخلف وسبب تخلفه أننا اكتشفناه بالتجربة وهي قد تتخلف.

    العنصر الرابع:

    إن حقيقة المعجزة ليست ضربا لقانون رياضي ولا ضربا لقانون عقلي ولا ضربا لقانون طبيعي واقعي ثابت وانما هي تحكيم قانون على قانون آخر.

    مثلا: يوجد في الغرب نظام وهو كل مؤسسة ربحية عليها ضرائب وهو قانون، ولكن هناك قانون آخر وهو أن المؤسسة إذا كانت خيرية تعفى من الضرائب، فمن يؤسس مركزا ويحوله الى مؤسسة خيرية فهو لم يضرب القانون الأول وإنما حكمنا القانون الثاني على الأول، كذلك في القضايا الطبيعية يوجد تحكيم قانون على آخر، هناك في بعض البقاع في روسيا ليست فيها جاذبية بمعنى أنك تأخذ قارورة الماء تلقيها على هذه البقعة فلا تسقط القارورة في البقعة بل تطير في الهواء او ترجع اليك مرة أخرى، لماذا؟ مع أن قانون الجاذبية ثابت! ما هو السر في ذلك هو حكومة قانون على قانون، فنحن نعرف أن في الكون قوة جاذبية وقوة مضادة، ولولا قوة الجاذبية لتبعثر الكون كله الى أشلاء، ولولا القوة المضادة للجاذبية لالتطم الكون كله بعضه ببعض وتحطم، إذن شاءت ارادة الله أن توجد قوة جاذبية وقوة مضادة لها حتى تحفظ توازن الكون، قال تعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[3]، فعندنا قوة جاذبية وقوة مضادة لها.

    في بعض المناطق في الأرض نتيجة بعض الصفات الجيلوجية تكون قوة الجاذبية محكومة بالقوة المضادة لها بشكل أقوى، أي في هذه البقعة من روسيا توجد قوة الجاذبية وهي قانون، ولكن قانون الجاذبية فيها محكوم بقانون أقوى منه وهو القوة المضادة لها لعوامل جيلوجية، إذن هناك تحكيم قانون على قانون.

    فالمعجزة إذا قمنا بتحليلها نجدها عبارة عن تحكيم قانون على قانون، فمثلا - من باب التفسير التخميني لأننا لا نعلم بالواقع - معجزة ابراهيم الخليل (عليه السلام) فلقد وضع في النار اللاهبة لكنه لم يحترق فيها (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[4]، فما الذي حصل؟ هنا حصل حكومة قانون على قانون، فالقانون الأول يقول الجسم المتصل بالنار يحترق لأن الحرارة الكامنة في النار تنفذ الى الجسم المتصل بها وهو قانون طبيعي ثابت، ولكن هناك قانون حكم عليه وهو أن ابراهيم عليه السلام لبس قميصا ذلك القميص يتضمن مادة عازلة منعت وصول الحرارة الحارقة الى جسم ابراهيم ع ، قد تكون المعجزة من هذا القبيل حكومة قانون طبيعي على آخر طبيعي، أو لا المسألة ترجع الى تفريغ المادة لأن لدينا بالفيزياء الثابت الكوني وهو عبارة عن أن كل متر مربع من هذا الكون الذي نعيش فيه يتضمن مادة، فلا توجد منطقة فراغ لا مادة فيها ولا طاقة فهذا غير موجود فكل متر مكعب يتضمن مادة، ونتيجة وجود المادة يقع التواصل بين الاجسام فلو قمنا بتفريغ الفضاء الوهمي من المادة لن تتواصل الأجسام، وهذا التفريغ أمر ليس مستحيلا ولكنه غير معتاد ولا مألوف، ولعل المسألة هكذا بأن الفضاء الوهمي المحيط بإبراهيم ع قد فُرغ من المادة ولما أفرغ من المادة شكل هذا الفراغ عازلا وحينها لم تنفذ الحرارة من النار الى جسم ابراهيم ع لأن النفوذ يحتاج الى مادة واصلة ولا توجد مادة واصلة، فلعل المعجزة من هذا القبيل، والذي نريد قوله ان الاعجاز هو حكومة قانون على قانون، ولماذا نصر على هذا؟ لأنه لو كان الاعجاز هو عبارة عن هدم قانون من دون استناد هذا الأمر الخارق غير الطبيعي الى قانون آخر فمعناه أن المسبب حدث من دون سبب من سنخه، لأنكم اذا قلتم انه لم يحترق جسم ابراهيم بالنار فهو أمر غير طبيعي وهذا الأمر غير الطبيعي – أي عدم احتراق جسم ابراهيم ع – هدَمَ قانونا طبيعيا من دون ان يستند الى قانون طبيعي وهو معناه أن المسبب حدث من دون سبب من سنخه وقد قلنا بأن قانون السنخية هو قانون عقلي وهو ثابت لا يتخلف، فاذا كان هذا القانون غير قابل للتخلف فالنتيجة أن المعجزة هي: تحكيم قانون على قانون آخر، لأن لكل مسبب سببا من سنخه، قال تعالى:  (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[5]، أي ربط كل مُسبب بسبب من سنخه وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[6]، والقدر المعلوم هو ربط الأسباب بمسببات من سنخها، وهذه حقيقة المعجزة.[7]

    المحور الثاني: هل المعجزة تتنافى مع الميزان العلمي؟

    في هذا المحور نتحدث عن ما ذكره ديفيد هيوم في كتابه مبحث عن الفهم البشري الذي ذكر فيه عدة اعتراضات حول المعجزة، ونحن نذكر هنا أهم اعتراضين :

    الاعتراض الأول: المعجزة خرق للقانون الطبيعي!

    وهذا امر غير معقول، لماذا؟ لأن من صفات القانون الطبيعي أنه مطرد فاذا كان كذلك وخرقته المعجزة لم يكن مطردا، إذن كيف نصدق بالمعجزة مع تصديقنا بأن القانون الطبيعي مطرد، لا يجتمع الأمران.

    إذا صدقنا بأن القانون الطبيعي مطرد - كما هو كذلك – إذن لا يمكن لنا أن نصدق أن هناك معجزة لأن المعجزة هي عبارة عن ضرب الاطراد فكيف يجتمع هذا مع تصديقنا أن القانون الطبيعي مطرد ، هذا هو الاعتراض الذي ذكره هيوم.

    وللجواب على هذا الاعتراض نقول:

    أولا: نحن بحثنا في المحور الأول عن أن الاعجاز ليس خرقا للقانون الطبيعي الثابت، إنما هو تحكيم قانون على قانون وهذا الاشكال الذي يبتني على نقطة خرق القانون الطبيعي ، نقول: لا هناك قانون طبيعي مطرد وآخر مطرد وقد حكم الثاني على الأول لأقوائيته عليه، وقد مثلنا لذلك بالأمثلة.

    ثانيا: من أين ثبت لنا بأن هذا القانون الطبيعي مطرد؟ أليس بالاستقراء والتجربة؟ وهنا رجعنا الى النقطة التي ذكرناها سابقا وهي ان هناك قانونا واقعيا وقانونا ظاهريا.

    من أين ثبت لكم الاطراد؟ عندما تقولون: بأن الفلزات تتمدد بالحرارة، تقولون هذا قانون، الجسم ينكمش بالبرودة تقولون هذا قانون.

    هذا القانون – الفلز يتمدد بالحرارة – كيف ثبت لكم أنه قانون مطرد؟ إنما ثبت الاطراد بالاستقراء التجريبي، فبما أن الدليل الذي أوصلنا الى معرفة أنه قانون مطرد هو الاستقراء التجريبي فالاستقراء التجريبي يمكن أن يتخلف ويمكن أن يكون له استثناء.

    وبعبارة أخرى : التجربة لا تكشف الضرورة بين حادثة وحادثة ، إنما تكشف التوالي وليست الضرورة ، يعني اننا اذا رأينا أن درجة الحرارة بلغت المائة فهذه حادثة، وإذا رأينا الغليان فهذه حادثة أخرى ، فنقول كلما رأينا الحادثة الأولى – وهي بلوغ درجة الحرارة المائة - رأينا الحادثة الثانية وهي الغليان، فبين الحادثتين توالٍ وتتابع، وهذا غاية ما تثبته التجربة والاستقراء، وأما أن الحادث الأول هو السبب التام للحادث الثاني بحيث لا يتخلف الثاني عن الأول فهذا لا تثبته التجربة ولا يثبته الاستقراء، فالاستقراء يثبت لنا التوالي ولا يثبت وجود ضرورة حتمية بأن كلما حدثت الحادثة الأولى حدثت الثانية، فبما أن الاستقراء لا يثبت لنا الضرورة والحتمية؛ وانما يثبت لنا مجرد التوالي؛ إذن الاطراد انما ثبت باستقراء قابل للإستثناء وقابل للتخلف.

    ثالثا: نحن عندما نقرأ كتاب معاجز الى (سيئس لويس) وهو عالم فيزيائي يتحدث ويناقش هيوم ويقول: لو أخذنا بهذا الكلام فالنتيجة أن هذا الاستدلال دوري والاستدلال الدوري باطل في علم المنطق، لأنه لا يمكن أن نثبت ان القانون مطرد إلا اذا أثبتنا عدم وقوع المعجزة لأنه متى ما وقعت المعجزة صار القانون غير مطرد، فإثبات أن القانون مطرد يتوقف على اثبات عدم وقوع معجزة، فلو أردنا أن نثبت عدم وقوع المعجزة لأجل اطراد القانون لزم الدور فكل منهما يتوقف على الآخر والدور باطل وهذا الاستدلال دوري لا قيمة له، هذا جواب الاعتراض الأول.

    الاعتراض الثاني:

    يقول هيوم : أن المعجزة حدث فردي وليس حدثا متكررا، فالأحداث الكونية متكررة ، لذلك يمكن لنا التصديق بها لأنها متكررة فالتكرار التجريبي يثبت لما صدق وقوعها.

    أما المعجزة فهي حدث فردي لا يتكرر، فبما أنها لا تتكرر فلا طريق لنا لإثبات هذا الحدث وتصديقه، فالطريق هو التكرار وهذا الحدث – المعجزة – غير متكرر .

    وللجواب عليه نقول: ([8]) هناك فرق بين المعرفة وموضوع المعرفة، فالمعرفة هي عبارة عن اثبات الحدث بدليل قطعي، وأما موضوع المعرفة فقد يكون حدث مفرد وقد يكون مكررا، فلا نخلط بين المعرفة وموضوع المعرفة.

    ومثال ذلك : معاجز الأنبياء فبما أن المعجزة حدث مهم نحن لا نكتفي بخبر الآحاد، بل مقتضى كون المعجزة حدثا اجتماعيا كبيرا أن تتظافر النقول للإخبار عنه، ومقتضى كونه حدثا مهما أن تتوافر القرائن على صدقه ووقوعه.

    لذلك نحن نثبت أي حدث مهم عبر دليل حساب الاحتمالات أي تظافر القرائن التي اذا اجتمعت تتصاعد درجة الاحتمال الى أن تصل مستوى اليقين والوثوق بحصول هذا الحدث.

    كل حدث مهم نثبته من خلال دليل حساب الاحتمالات هذا هو كلامنا في المعرفة، أما موضوع المعرفة فقد يكون هذا الحدث المهم - الذي نثبته من خلال دليل حساب الاحتمالات – متكررا وقد يكون غير متكرر أي مفرد، فكون الحدث مفرد لا يعني عدم امكان التصديق به ما دام يمكن الوصل اليه عبر دليل حساب الاحتمالات أو عبر الدليل القطعي، وهنا نضرب مثالين:

    المثال الأول:

    الانفجار العظيم فكل هذا الكون ولد من نقطة الانفجار العظيم، والانفجار العظيم حدث مفرد غير متكرر ، فكيف أثبتناه مع أن الأحداث المفردة لا يمكن تصديقها ولا اثباتها؟ الجواب أثبتناه بالدليل القطعي بمعادلات رياضية مبتنية على قوانين كونية ثابتة أوصلتنا الى الوثوق بحصول الانفجار العظيم، فهو حدث مفرد أثبتناه بالمعرفة أي بدليل قطعي.

    المثال الثاني:

    الآن عندنا مشروع علمي معروف، والعلماء يغدقون أموالا ضخمة لإنجاز وانجاح هذا المشروع وهو أن يكتشف حياة عاقلة في كوكب آخر، هذه مهمة هذا المشروع: اثبات وجود حياة عاقلة في كوكب آخر يطلقون على هذا المشروع أسم : إس إي تي آي .

    والطريق الى اثبات مطلوبهم مفرد غير متكرر، فرسالة واحدة نحو الكوكب الآخر اذا جاءتنا ذبذبات تجيب عن هذه الرسالة كشفت لنا عن وجود حياة عاقلة في الكوكب الآخر، فلاحظوا أن الطريق الذي استخدمناه هو طريق مفرد غير متكرر لأنه دليل قطعي، فلا يشترط في المعرفة التكرار ولا يشترط في موضوع المعرفة ان يكون حدثا متكررا، بل يمكن ان يكون موضوع المعرفة حدثا مفردا او حدثا متكررا مادام الطريق اليه دليلا قطعيا كدليل حساب الاحتمالات.

    ولذلك (واتلي) في كتابه شكوك تاريخية قال لو صح منهج (هيوم) بأنه لا يمكن اثبات الأحداث المفردة إذ لا طريق لنا الى تصديقها فإن كل قصة نابليون هي قصة اسطورية وخرافية ولا وجود لها هذه هي النتيجة اذا مشينا على هذا المنهج بأن الحدث المفرد لا يمكن الوصول اليه ولا يمكن تصديقه، وعلى إثر ذلك كتب هذا الكتاب (شكوك تاريخية)، فالنتيجة ان الاعجاز ينسجم مع الميزان العلمي ولا يتنافى معه.

    المحور الثالث: هل يتنافى الإعجاز مع المنطق القرآني؟

    قد يقول قائل ان القرآن سد باب الاعجاز إذ قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)[9]، ربما يقول قائل هذه النقطة من الآية:  (سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) هي دليل على سد باب المعجزات، أي أنا لست بابا للمعجزة بل انا مجرد رسول !!

    والجواب عليه بوجهين:

    الوجه الأول:

    هناك فرق بين الانسان الجدلي وبين الباحث عن الحقيقة، فهؤلاء المشركون عندما قالوا للنبي (صلى الله عليه واله) (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) لم يكونوا باحثين عن الحقيقة حتى يستجيب النبي ص لطلبهم ويقدم لهم المعاجز، بل كانوا مجادلين ولو فعل معهم ما فعل لن يؤمنوا به، لذلك تراهم نوعوا في الطلب: يَنْبُوعًا و جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ورقي في السماء ... بل اقترحوا عليه أمرا مستحيلا وهو ان يأتي بالله والملائكة قبيلا!!

    كل هذه المقترحات تكشف عن كونهم مجادلين غير باحثين عن الحقيقة، فقول الرسول ص (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) ليس سدا لباب الاعجاز وانما عدم استجابة لطلب المجادلين لأنهم ليسوا باحثين عن الحقيقة.

    الوجه الثاني:

    هناك فرق بين التعبير بـ(نؤمن لك) وبين (نؤمن بك) فلو كانوا صادقين لقالوا لن نؤمن بك حتى تفجر من الأرض ينبوعا بمعنى إن فجرت لنا من الأرض ينبوعا آمنا بك ولكنهم لم يقولوا ذلك، وفرق بين التعبيرين إذ المعبر عنه بالباء (بك) يحكي عن الايمان الواقعي، والمعبر عنه باللام (لك) يحكي عن الايمان الظاهري، فنلاحظ قوله تعالى (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) جاء عبد الله بن أبي سلول الى الرسول ص فقال له النبي ص يا ابن ابي سلول أخبرني جبرئيل أنك تدبر المكائد ضد المسلمين.

    فقال: جبرئيل مشتبه أنا رجل مؤمن متقٍ فالنبي ص أظهر له أنه صدقه وقبل كلامه، فلما خرج ابن ابي سلول قال: محمد أذن، أنا أقول له شيء يصدقني جبرئيل يقول شيء يصدقه، فنزل قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فلماذا اختلف التعبير في فقرة واحدة؟ فبالنسبة الى الله عبر بالباء وبالنسبة الى المؤمنين باللام أي (يؤمن بالله) و (يؤمن للمؤمنين) وهو للإشارة أن الايمان على قسمين: إيمان هو عبارة عن تصديق واقعي، فالنبي ص يصدق بالله تصديقا واقعيا.

    وإيمان هو عبارة عن تصديق ظاهري وهو (للمؤمنين) فالنبي ص لا يصدق بكل المؤمنين تصديقا واقعيا إنما يصدق بكلامهم تصديقا ظاهريا، فيؤمن لهم أي يظهر التصديق بكلامهم لأجل منفعتهم وهي تأليف القلوب، (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي إنما جعلنا النبي ص يصدقكم بهذه الطريقة حتى يؤلف قلوبكم.

    فالآية محل البحث: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا..)

    فهم يقولون لن نؤمن بك ونصدقك تصديقا واقعيا أبدا ، ولكن إن فعلت لنا ما نطلبه منك نؤمن لك ونصدقك تصديقا ظاهريا، وعليه فهم لن يكونوا يطلبون المعجزة ليحصلوا على الايمان بل هم سطروا هذه المقترحات من أجل التصديق الظاهري فقط، فلأجل أنهم لم يطلبوا إيمانا وتصديقا واقعيا وإنما طلبوا تصديقا ظاهريا فلم يستجب لهم الرسول ص وقال: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا.

    إذن تبين لنا أن هذه الآية لا تصلح دليلا على سد باب المعجزات، بل قد ذكر القرآن آيات تصرح بالمعاجز، قال تعالى: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[10]

    والمؤمنون الواقعيون والظاهريون في كل زمان، ففي زمن النبي ص كان المؤمنون على قسمين: من يؤمن به واقعا ومن يؤمن به ظاهرا فهناك مؤمنون وهناك منافقون، وكذا في زمن الامام علي ع أيضا، وفي زمن الحسين ع أيضا ...

    *تقرير: السيد هيثم الحيدري، مراجعة وتدقيق: الشيخ قيصر الربيعي

    [1]غافر: 78.

    [2] توحيد الصدوق: ص130 .

    [3] يس: 40 .

    [4] الانبياء: 69 .

    [5] الطلاق: 3 .

    [6] الحجر: 21 .

    [7] يراجع تفسير الميزان ج1 في بحث حقيقة الاعجاز \ وكتاب النبوة للشيخ المطهري.

    [8] راجع كتاب براهين النبوة للدكتور سامي عامري .

    [9] الاسراء: 90 – 93 .

    [10] آل عمران: 49 .