مضاد الجراثيم لم يكتشفه المسجد: لماذا لم يأت الأنبياء بالتكنلوجيا المتطورة؟!

ذكر أوغست كونت، وجون بول سارتر، وكارل ماركس وأمثالهم من أساطين الماديّة أنّ الأنبياء والأديان والشرائع غير قادرة على الإتيان بأيّ تطور تكنلوجي، ولو كان لبان..، ولا يسع الفكر الإنساني إلاّ الخضوع لحقيقة أنّ ما جاء به الأنبياء لا يعدو الميتافيزيقا الحالمة التي لا تمت للواقع العلمي ومعادلات المادّة في الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا بأي صلّة.

ترتب عليه إنّ الفكر الإنساني ليس بحاجة إلى النبيّ عليه السلام لبناء الإنسان والمجتمع، وجلّيٌ أنّ الكلام مع هؤلاء ينحو منحى الكلام مع الملاحدة والزنادقة؛ لوضوح أنّ هذه الشبهات متأصلة على الإلحاد؛ أي على إنكار وجود الخالق والرسل والكتب السماويّة، والمطولات من الكتب نهضت بالرد على هؤلاء الملاحدة، لا تهدف له مقالتنا هذه.

ما نريد قوله أنّ بعض غلاة العلمانيّة، بعضهم من المتأسلمين وأخر من المتميسحين، ممّن يزعم انتسابه للإسلام والمسيحيّة، بات يلوك هذه الإشكاليّة كأنّه بلغ الجبال طولاً.

إشكاليّة عدم الحاجة للأنبياء

اجترّ دعاة هذه الإشكاليّة من المتأسلمين والمتميسحين وغيرهم، ما ذكره أساطين الماديّة من ملاحدة أوربا، أنّ كلّ ما جاء به الأنبياء عليهم السلام لا يعدو الدعوة للأخلاق بالمعنى المتعارف بين البشر، علاوة على العقيدة القلبيّة بالخالق وبيوم الحساب، لكن –بغض النظر عن كون هذا خرافة أم لا- كلّ من هذين الأمرين لا ينتج أيّ تطوّر علميّ في أيّ مجال من مجالات الحياة.

إنّ أرقى ما وصل إليه العقل الإنساني، فيما تزعم هذه الإشكاليّة، هو التطور العلمي في مجال الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة و...، ناهيك عن الديمقراطيّة المتجسدة في الدول اليوروأمريكيّة، وهي أرقى ما أنتجه الفكر البشري في علم السياسة.

لا ريب أنّ الدين بمعزل عن كلّ هذا؛ إذ لا دخل للدين في تحقيق أي تقدّم مادّي في المجالات العلميّة أعلاه، بل التمسّك به تقزيم لحريّة العقل البشري القادر على الوصول للقمر..؛ فإنّ كل ما جاء به الأنبياء من موروث، لا ينهض لبناء مركبة فضائيّة، أو قمراً صناعيّاً، أو تلسكوباً.

إنّ أرقى ما وصل إليه العقل البشري في العلوم الطبيعيّة؛ سيما الفيزياء، هو القنبلة الهيدروجينيّة، ولا ارتياب أنّ هذه القنبلة لم تصنعها المجتمعات الدينيّة التي عاشت زنزانة العقيدة الدينيّة، المصنّفة سياسياً دول عالم ثالث، لكن علماء مثل البرت آينشتاين وماكس بلانك وأضرابهما هم توصّل إليها.

مضاد الجراثيم البنسلين لم يكتشفه مسجد المسلمين، ولا كنيس اليهود، ولا كنيسة المسيح، ولا معبد بوذا، ولا بيت نار زرادشت، وإنّما اكتشفه مختبر الطبيب الاسكتلندي الكسندر فلمنك، بوازع من عقله الطبيّ الذي لا يمت للدين وعقائد الما وراء بصلة.

الأنظمة السياسية التي تعتبر أكفأ ما وصل إليه العقل السياسي، لم يأت بها الدين، بل لم يفكر بها، بل بسبب اختناقه بأحلام الميتافيزيقا لا يقتدر على ذلك..

جان جاك روسو في كتابه العقد الإجماعي هو من جاء بها؛ فيكفي أنّ كلّ الأنظمة السياسية الراقية في العالم الأول، مدانة لهذا الفكر، تدور في فلكه حتى يومنا هذا، بل إنّ كثيراً من المجتمعات الدينيّة التي تنشد التحرر من زنزانة القوقعة الدينية، تسعى لمحاكاته.

كانت غالب المجتمعات الأوربيّة قبل الثورة الفرنسيّة، مثالاً للمجتمعات الدينية المحبوسة في زنزانة الكاثوليكية والبروتستانية، ولقد كانت تعيش الجهل والجوع والمرض في أردأ المستويات.

لكن بعد الثورة الفرنسيّة؛ أي لما لم يسمح للدين أن يتطفل في السياسة، أضحى المجتمع الأوربي هو الأوّل في التصنيف العالمي، وصنّفت دوله بدول العالم الأوّل في كلّ مجالات الحياة، الفيزيائية والكيميائية والطبيّة والاقتصاديّة والاجتماعية والسياسية.

في حين أنّ كلّ المجتمعات الدينيّة منذ ذلك العهد، آلت للسقوط لتصنف دول عالم ثالث، مدنياً وحضارياً وعلمياً وسياسيّاً.

ونؤكد مرّة أخرى إلى أنّ هذه الإشكاليّة وإن خرجت في مبدأ أمرها عن شرنقة الإلحاد، إلاّ أنّ بعض المتدينين من علمانيي المسيحية والإسلام وغيرهما اعتنقوها لتكون ديناً يقرأ الحياة والمجتمع والإنسان، وبالتالي بناء التاريخ والحضارات.

جواب الإشكاليّة!!

[ذات صلة]

دعى الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وكذا كلّ ما جاءت به شرائعهم، إلى كلّ تطوّر علمي في عموم مجالات الحياة، شرط ألا تنتهك حرمة الإنسان والإنسانيّة.

بجملة واحدة، يمنع الأنبياء عليهم السلام، أي تطوّر علمي مادّي، ينتهك قدس الإنسان، ولا يعبأ بحرمة الإنسانيّة؛ فإنّ هدف الانبياء الأوّل، ومطلبهم الأمثل، ومبتغاهم الأكمل، تقديس الإنسان واحترام الإنسانيّة، ورفض كلّ ما يدنّس حريمهما المقدّس.

لا ريب أنّ أرقى ما وصل إليه العقل البشري في الفيزياء، هو القنبلة الذريّة والمفاعل النوويّة، لكن رفض الأنبياء عليهم السلام رفضاً قاطعاً([1])، كما رفض آينشتاين نفسه، صناعة القنبلة الذريّة التي أضحت عاراً على جبين العقل البشري في هيروشيما وناكازاكي، بدايات القرن العشرين.

كما رفض الأنبياء عليهم السلام كلّ تجارب البحوث الذريّة والنووية التي أجريت في أربعينيات القرن الماضي في صحراء نيفادا وغيرها؛ لتسببها –نتيجة الإشعاعات الذريّة- في ظهور مرض السرطان أوّل مرة في تاريخ الإنسانيّة ([2]).

المثير للانتباه أن مرض السرطان لم يكن له وجود في المجتمع البشري قبل انفجار القنابل الذريّة والنووية والهايدروجينيّة، وربما كذب البعض فزعم وجوده قبل ذلك، فراراً من اللائمة.

يرفض الأنبياء عليهم السلام اختراع القنبلة الهيدروجنيّة، التي تسببت في حدوث فتحة الأوزون، تلك التي أنذرت باقتراب نهاية البشر على الأرض.

يرفض الأنبياء عليهم السلام رفضاً قاطعاً تصنيف الإنسانية إلى عالم أول وعالم ثالث باعتبار التطوّر التكنلوجي.

يكفي أنّ هذا العالم الأوّل، عالم اليورو أمريكان، المتطوّر علمياً وسياسياً واجتماعياً ومدنياً، هو عالم وحوش مفترسة شقراء، كما أسماهم فريديريك نيتشة، لا يمت للإنسان والإنسانيّة بأدنى صلة.

يكفي برهاناً أنّ عالم الإجرام الأوّل هذا، افتعل حرباً راح ضحيّتها 60 مليون إنساناً، ما يعادل 2.5 بالمائة من مجموع المجتمع البشري، في الحرب العالميّة الثانية.

هذا الرقم أكبر من مجموع كلّ ضحايا الحروب التي قام بها البشر من لدن آدم حتى عهد الحرب العالمية الثانية.

للأنبياء تصنيف أسمى من هذا، محوره احترام الإنسان والمجتمع والرحمة بهما؛ فالأشرف هو الأرحم والأعدل والأحكم، على ما نطقت به أدبيات الأنبياء.

افتراض الإشكاليّة أنّ ما جاء به الأنبياء لا علاقة له بالواقع المادي، محض افتراء، فأيّ فكر في المجال السياسي، على سبيل المثال، ينهض لمقارعة ما جاء به النبيّ محمد عليه السلام؟!!

ليس للنبي محمد عليه السلام إلاّ حماره وعصاه وبضع أصحاب مخلصين، لكن خلال عقدين من الزمن، هزّ هذا النبيّ الأميّ العربيّ، عرشي أقوى إمبراطوريتين عرفهما التاريخ هما الفارسية والروميّة، بل قد تلاشيا من بعده إلى يومنا هذا.

وننبه إلى أنّ المقياس فيما نحن فيه، ليس التلاشي وحسب، بل التلاشي الأبدي لهؤلاء، والبقاء الدائم الأبدي لما جاء به محمد عليه السلام، فعلى أيّ تقدير واقعي، مادّي أو معنوي؛ فما جاء به النبي محمد هو الدائم الباقي المؤثر في معادلات التاريخ، وغيره منهار فانٍ متلاشٍ، ذكرى بائسة سخر منها التاريخ ([3]).

وقد يتشدّق البعض فيزعم أنّ الإرهاب والإسلام متآخيان؛ فأين احترام الإنسانيّة وتقديس الإنسان فيما جاء به محمد عليه السلام؟!!

قلنا: ما عادت تنطلي هذه المزحة على الصغار فضلاً عن الكبار؛ فثوب الإرهاب الإسلامي، خاطته مصانع اليورو أمريكان، بخيوط الطغيان، وإبرة الشيطان.

ولقد ذكرنا أنّ حقيقة ما جاء به محمد ليس إلاّ الباقي الدائم المؤثر في بناء التاريخ وصيانة الإنسان، وكون الإرهاب ممّا لا ديمومة له ولا بقاء، يعني أنّه لا يمت بصلة لما جاء به محمد عليه السلام، وإن ألصق به عنوة؛ تشويهاً لصورته في حرب الأفكار وسجالات الآيديولوجيات.

هذا بعينه يقال فيما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، فليس كل ما نسب إليهما هو من اليهوديّة أو المسيحيّة، وإنّما خصوص ما هو دائم باق يقدّس حرمة الإنسان.

وبلا أدنى ترديد فحقيقة ما جاء به الأنبياء هو المشروع الدائم الباقي المتنامي لصيانة الإنسان والمجتمع والتاريخ والطبيعة وتقديسهما، وكل ما عدا ذلك يبرأ منه الأنبياء، ويمنعون منه منعاً أبديّاً، حتى لو كان في حقيقته كشفاً عظيماً؛ كالقنبلة النوويّة والرؤوس النووية التي تبجحت بها الفيزياء المجرمة في هيروشيما وبقيّة بلدان العالم.

الأنبياء عليهم السلام يدعون لأن ترتقي التكنلوجيا وكذا كلّ العلوم الطبيعيّة، بكل ما أوتي الإنسان من قوّة على الكشف والارتقاء، شرط أن تكون هذه العلوم منزهة عن العهر والدنس والإجرام وكلّ ما من شأنه الحط من قيمة الإنسان والطبيعة.

تساؤل!!

لعله يقفز إلى الذهن أنّ كثيراً ممّا جاءت به التكنلوجيا والعلوم الطبيعيّة، هي اكتشافات لا آثار سلبيّة فيها على الإنسان والطبيعة.

قلنا: أعطونا شيئاً جائت به التنكنلوجيا، أنتج في مصنع منزّه عن كل الآثار السلبية الضارة بالإنسان والطبيعة.

ولو فرضنا ذلك، فكم تكون نسبته قياساً بالتكنلوجيا المفسدة للحياة؟!

ولا ندري فثمة تساؤل ملح:

هل نشكر ارتقاء العلوم الطبيّة التي عالجت مرض السل، أم نمتعض منها لأن هذا العلاج سبب في ظهور مرض الربو أول مرة في تاريخ البشريّة.

---------------

الهوامش:

([1]) المقصود أنّ الإشعاعات الذريّة نتيجة التجارب غير الأخلاقيّة لدول العالم الأوّل، هي ما نشّط الخلايا السرطانيّة في جسم الإنسان وغيره.

([2]) كل ما وصل عن الأنبياء، في كل الكتب السماويّة، النهي عن القتل الجماعي، والبرائة من أمثال هذه الجناية الوحشيّة التي لا ترى بأساً بقتل الطفل والعجوز والمرأة بهذا النحو الطاغوتي.

([3]) لفهم هذا الأمر بشكل جدّي، راجع كتابنا: ديموتاريخ الرسول محمد والحسين. طبع دار الأثر، بيروت.