من عرف نفسه عرف ربه.. ما هي ’معرفة النفس’؟

هناك الكثير من التفسيرات الفلسفية والعرفانية لهذا الحديث، وهي تفسيرات لا تقف عند حدود الدلالة العرفية للكلمات، وإنما تتعداها إلى معاني ودلالات اصطلاحية خاصة بأهل الاختصاص.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ومن المستبعد أن يكون منظور الإمام علي (عليه السلام) هو هذه المعاني التي لا يدركها إلا الخواص من الناس، فالحديث خطاب لجميع البشر وليس خاصاً بالنخبة من الفلاسفة والعرفاء، حاله في ذلك حال القرآن الذي قال تعالى عنه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، وعليه يجب أن نبحث عن معرفة بالنفس يكون في وسع الجميع معرفتها، وليست المعرفة التي تكون من مختصات أهل السير والرياضات الروحية، ويتأكد ذلك بالرجوع إلى بقية الأحاديث التي جاءت في هذا السياق، حيث نجدها تنبه الإنسان إلى حقائق في نفسه يعرفها بمجرد تذكيره وتنبيهه بها، فمثلاً جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه).

وجاء في صحف إدريس: (من عرف الخلق عرف الخالق، ومن عرف الرزق عرف الرازق، ومن عرف نفسه عرف ربه). وفي الرواية أن رجلاً اسمه مجاشع دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله! كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال (صلى الله عليه وآله): معرفة النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى موافقة الحق؟ قال: مخالفة النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى رضا الحق؟ قال: سخط النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى وصل الحق؟ قال: هجر النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟ قال: عصيان النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟ قال: نسيان النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى قرب الحق؟ قال: التباعد من النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى انس الحق؟ قال: الوحشة من النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى ذلك؟ قال: الاستعانة بالحق على النفس).

فأكثر الحقائق التي يجدها الإنسان في نفسه ومن نفسه هي حقيقة كونه مخلوق مضطر في وجوده إلى غيره، ولكن الإنسان بجهله وغروره يغفل عن هذه الحقيقة الواضحة، ومن هنا فإن العارف بهذه الحقيقة من نفسه عارفاً بربه، فالإنسان في حقيقة نفسه كائن مخلوق مربوب لله تعالى، لا يملك من وجوده ومن شؤونه حولاً ولا قوة: (هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)، ولكن غرور الإنسان وجهله يحجبه عن رؤية هذه الحقيقة الواضحة (يا أَيُّهَا الإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) ، فالإنسان في منطق القرآن، كائن مغرور بنفسه من غير أن يملك مبرراً لغروره، إذ لا يملك شيئاً من دون الله، فالإنسان مخلوق طارئ على هذا الوجود، مضطر في وجوده وبقائه لله تعالى، فهو ليس إلا عبداً مملوكاً لسيده، وبذلك لا يخرج الإنسان من نظام الخلقة القائم بالله، وما خُصَّ به الإنسان دون سائر المخلوقات من حرية وإرادة، لا تُخرجه من ملكوت الله وحاكميته المطلقة، كما لا تحرر الإنسان من واقع فقره وحاجته لله سبحانه وتعالى، (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فمن غفل عن فقره وحاجته غفل بالتأكيد عن الله تعالى، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟ فمن يجهل بأنه موجود طاري ومخلوق محتاج كيف يهتدي لموجده وخالقه؟

يقول السيد الطباطبائي في شرح هذا الحديث: (فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمرا عجيبا، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء، متصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاء وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة، وغيرها من كل كمال).

وهذا ما فهمه هشام بن الحكم عندما قال: إن سأل سائل فقال: بم عرفت ربك؟ قلت: عرفت الله جل جلاله بنفسي؛ لأنها أقرب الأشياء إلي، وذلك أني أجدها أبعاضا مجتمعة وأجزاء مؤتلفة، ظاهرة التركيب، متبينة الصنعة، مبينة على ضروب من التخطيط والتصوير، زائدة من بعد نقصان، وناقصة من بعد زيادة، قد أنشأ لها حواس مختلفة، وجوارح متباينة - من بصر وسمع وشام وذائق ولا مس - مجبولة على الضعف والنقص والمهانة، لا تدرك واحدة منها مدرك صاحبتها ولا تقوى على ذلك، عاجزة عند اجتلاب المنافع إليها، ودفع المضار عنها، و استحال في العقول وجود تأليف لا مؤلف له، وثبات صورة لا مصور لها، فعلمت أن لها خالقا خلقها، ومصورا صورها، مخالفا لها على جميع جهاتها، قال الله عز وجل ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾.

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في رده على سؤال الديصاني ما الدليل على أن لك صانعا؟ قال: وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إما أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري، فإن كنت صنعتها أنا فلا أخلو من أحد معنيين: إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو الله رب العالمين فقام وما أحار جوابا.

فأول معاني معرفة النفس هي معرفة كونها مخلوقة ومحتاجة في وجودها وفي كمالاتها الوجودية لله تعالى، فمن عرف في نفسه الفقر والحاجة عرف بالضرورة من أوجدها ومن هو مالك لحولها وقوتها، والمعنى الآخر من معاني معرفة النفس هو معرفة ما فهيا من عوامل القوة والضعف، فالعقل والإرادة والفطرة تمثل جانب القوة فيها، والشهوات والأهواء تمثل جانب ضعفها، قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، فمن عرف نفسه كما جاء في هذه الآية عرف الله تعالى، فقوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، تشير إلى حقيقة كونها مخلوقة، وقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) تشير إلى كونها مركبة من عوامل الخير والشر، فمن عرف كمال النفس ونواقصها عرف أن النقص من ذاته والكمال من غيره، وقد أكدت الآيات على ذلك بقولها: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، وعليه فإن ابتلاء الإنسان في هذه الحياة هو في تطهير النفس من عوامل الفجور وتعزيز عوامل التقوى، ومن هنا كانت معرفة النفس طريق إلى معرفة الله تعالى.

*الشيخ معتصم السيد أحمد – باحث وأستاذ في الحوزة العلمية