العقاب والخوف بعد الموت.. لماذا لا يحبّون الله؟!

يتفاوت الناس في دواعي التزامهم بفعل الأعمال الحسنة وترك الأعمال السيئة، فيوجد فيهم من يكفيه إدراك ما ينبغي أن يعمل، وما ينبغي أن يترك ليكون ملتزماً عملاً، وفيهم من يحتاج إلى معزز يشد من عزيمته، والمعزز أمور كثيرة ـ كما ذكر الباحثون في علم النفس التربوي ـ ومن أهمها أمران:

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

  1ـ جعل المحبوب تكرمة و تقديراً، وهو ما يعبر عنه بالمعزز الإيجابي.

  2ـ جعل المبغوض عقاباً و إهانة، وهو ما يعبر عنه بالمعزز السلبي.

   ولا نجد في المجتمعات العقلائية نظاماً أو قانوناً عمليّاً لا يصاحبه قانوناً جزائيّاً، وقد ذكر الدكتور فاخر عاقل في كتابه (علم النفس التربوي) أنه يوجد جدل حول فاعلية المعزز السلبي، ومقدار تأثيره، وذكر في ص 203 أن عالمين قاما في سنة 1944 م بتجربة على 124 طالب، وكانت النتيجة أن الطلاب الانبساطيين المتجهين نحو العالم الخارجي كانت نتيجة التقريع فيهم أشد تأثيراً من الثناء والمدح.

إن المشرع في مقام جعل القانون وحث الناس على الالتزام به لا يقوم بجعل قانون فردي لكل فرد، ثم يضع المعزز المناسب من المدح، والثناء، والوعد بالثواب أو التوبيخ، والذم، والوعيد بالعقاب، وإنما هو يجعل قانوناً عاماً ثم يستعمل أساليب التعزيز المختلفة حتى يكون للجميع تأثير على الجميع، فينفعل كل فرد بما يؤثر به.

حكمة أسلوب التعزيز في بيانات الدين 

و قد سلك القرآن الكريم أساليب التعزيز المختلفة، فإن من أكمل مراتب الناس في القرآن الكريم مرتبة الالتزام بأحكام الله تعالى حباً له و شكراً، يقول تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُور َّحِيمٌ } سورة آل عمران: آية 31، غير أنه ليس كل الناس يحركم الحب الإلهي، و يؤثر الإيمان فيهم بالحد الأعلى، فكان مقتضى الحكمة التعزيز بالمعزز الإيجابي والسلبي، فجُعل الثواب والعقاب، لأن التشريع يفقد فاعليته في أغلب الناس بدونهما، وإذا لاحظنا محززات القرآن نجد منها أمرين:

   1ـ بيان على الثواب، و نعيم الجنة، و الكون مع الصالحين، وبلوغ الرضوان الإلهي  ويقول {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا، وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا، وَكَأْسًا دِهَاقًا، لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا، جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا، رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا، ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ مَآبًا، إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} سورة النبأ: آية 31 – 36.

  2ـ بيان العقاب، وعذاب النار، والكون مع الطالحين، و البوء بسخط الله تعالى، يقول تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة البقرة: آية ١٩٦ ، و يقول: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة البقرة آية ٢١١ ، و يقول: { كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة آل عمران آية: 11. ويقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة المائدة آية: 2 ، و يقول: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة المائدة آية 98.و يقول: {إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلطَّاغِينَ مَآبًا، لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا، لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، جَزَاءً وِفَاقًا، إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا، كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } سورة النبأ آية: 21 – 30.

الروايات الشريفة على منهج القرآن

و الروايات الشريفة الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله ) وأهل (عليهم السلام) جرت على منهج القرآن في ذكر المعزز الإيجابي والسلبي، فركزت على الثواب والعقاب، وبينت منازل انتقال المؤمن، وكيف تخرج روحه و تستقبله الملائكة، وما يشاهد في القبر وعالم البرزخ، ويوم القيامة في الحساب و عرصته، وفي الجنة، وبينت أيضاً منازل انتقال الظالمين، و ما يواجهون من عقوبات في مراحلهم المختلفة إلى جهنم، ولو لاحظنا ما ذكره العلامة المجلسي (رحمه الله ) في البحار في كتاب (العدل و المعاد) وما أورد فيه من روايات في أبواب مختلفة؛ لوجدنا أن المعصومين(عليهم السلام) اهتموا أيما اهتمام ببيان المعزز السلبي ـ كما اهتموا ببيان المعزز الإيجابي ـ وذلك في روايات تفوق حد التواتر، وبعضها صحيح السند، و سوف أكتفي بذكر بعض الأمثلة:

المثال الأول: ما ذكره في باب ملك الموت وأحواله وأعوانه، وفيه 52 رواية.

المثال الثاني: ما ذكره في باب سكرات الموت وشدائده وما يلحق بالكافر والمؤمن، وفيه 145 رواية .

المثال الثالث: ما ذكره في باب ما يعاين المؤمن والكافر عند الموت، وفيه 173 رواية.

 ومن هذا الباب ما عن بشارة المصطفى: محمد بن أحمد بن شهريار، عن محمد بن محمد النوسي، عن محمد بن علي القرشي، عن جعفر بن محمد بن عمر الأحمسي، عن عبيد بن كثير الهلالي، عن يحيى بن مساور، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: يحيى بن مساور: أخبرنا أبو خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن أبيه (عليه السلام) قالوا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي نفسي بيده لا تفارق روح جسد صاحبها حتى تأكل من ثمار الجنة أو من شجرة الزقوم، وحين ترى ملك الموت تراني وترى علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً (عليهم السلام)، فإن كان يحبنا قلت: يا ملك الموت ارفق به إنه كان يحبني ويحب أهل بيتي، وإن كان يبغضنا قلت: يا ملك الموت: شدد عليه إنه كان يبغضني ويبغض أهل بيتي.

وفي هذه الأبواب وغيرها بيان الفرق بين سكرات موت المؤمن وغيره، والفرق بين ظهور ملك الموت للمؤمن وظهوره لغيره، وهذا موافق للكتاب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} سورة النساء آية 97. ويقول تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ۙ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ} سورة الأنفال: آية 30.

وأما المؤمن فيقول تعالى في بين حاله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أن لَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} سورة فصلت آية30.

توهم يتضح ما فيه مما تقدم 

ومن خلال ما تقدم يتضح أن البيان الديني لعقاب الأعمال، و المكروهات المترتبة على الذنوب والمعاصي لحكمة تربوية، فإن النصوص بينت ما يترتب على الإيمان والعمل الصالح، وبينت ما يترتب على ترك الإيمان وما يترتب على العمل الطالح، ووظيفة المربي الديني أن يسير على حكمة التعاليم الإلهية في القرآن، و روايات أهل البيت(عليهم السلام)، فليس من الصحيح أن يقصر الحديث عن ثواب الأعمال و بشرى المؤمن وما يلاقيه من رحمة حال الموت وفي البرزخ ويوم القيامة، أو أن يقصر الحديث عن عقاب الأعمال، و إنذار المجرمين، وما يلاقونه من عقاب و ضيق حال الموت و في البرزخ و يوم القيامة، وإنما ينبغي بيان ما أراد الله بيانه لكي يتحقق لجميع الناس التأثير المرجو من مجمع المعززات التي تؤثر في الناس مع اختلاف مستوى التأثير، فإن على المصلحين أن يقتدوا بالنبيين والرسل، ووظيفتهم (عليهم السلام) لا تقتصر على التبشير بذكر الثواب و النعيم، وإنما من وظيفتهم الإنذار بذكر الحساب والعقاب، قال تعالى: { رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} سورة آية 165..

 فما يتوهمه البعض من أن على المربي الديني أن يقتصر على بيان حب الله ورحمته ولطفه، لأن في هذا تربية للإنسان على محبة الله و عبادة الله تعالى لله فقط ؛ غير صحيح ؛ فإن الله يحب المؤمن المطيع، وبُغض الكافر والظالم والمتمرد، و ينبغي بيان هذا كما ينبغي بيان ذاك، كما أن أساليب التأثير تختلف من شخص إلى آخر، فليس كل الناس يؤثر فيهم حب الله تعالى فقط، أو يمكن أن يبلغوا مرتبة عبادة الأحرار، و يجتازون عبادة العبيد أو التجار، فلا بد من تنوع المعززات في المجتمع، وما أعظم التأثير فيما إذ قيل للمؤمن: إن الله يحبك لإيمانك، فأحبه لكماله و لفضله عليك، ولا تكفر به أو تعصيه، فتخرج من أهل كرامته ومن جعل الجنة مقامه، وتدخل في أهل نقمته ومن جعل الجحيم مستقرة، وهذا ما تبينه النصوص الدينية.

*الشيخ حيدر السندي – أستاذ في الحوزة العلمية