لماذا نسعى في ’طلب الرزق’ إذا كان الله متكفل به؟!

قال تعالى: (إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير)، تدل الآية الكريمة على أن الضرر كالفقر والمرض، وكذا الخير كالمال والصحة من فعل الله تبارك وتعالى، فلماذا يسعى الإنسان إذن ويطلب ما الله تعالى متكفل به؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

لأن الإجابة تحتاج إلى تفصيل، نذكر خلاصة الإجابة أولا ومن ثم نفصل الإجابة بالمقدار الذي يتيحه المقام.

فخلاصة الإجابة أن الآية ليست في مقام نفي إرادة الإنسان ومسؤوليته عما يصيبه من شر أو خير، وإنما الآية في مقام إثبات أن كل ما في الوجود محكوم بإرادة الله وأمره، صحيح أن الله مكن الإنسان من فعل ما يشاء إلا أن هذا التمكين لا يخرج الإنسان عن سلطة الله وهيمنته، فبتوفيق الله وتسديده يرفع الإنسان عن نفسه الضرر، أما إذا خذله الله وأوكله إلى نفسه لاستحال عليه ذلك، فالإنسان لا يملك من نفسه نفعا ولا ضرا وإنما يملكهما بما مكنه الله منهما، ولذلك لا يمكن أن يستغني الإنسان عن السعي لأن كل ما يصيبه معلق بهذا السعي.

أما التفصيل فعلى النحو التالي:

قال تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)، وقال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)، وقال تعالى: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون). وقال تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله ۖ وما أصابك من سيئة فمن نفسك)

نصت هذه الآيات على أربع حقائق مهمة، وعلى أساسها تقوم علاقة المخلوق بالخالق، وأي اختلال في فهمها يؤدي إلى اختلال حياة الإنسان وتخبطه فيها.

1- إن الله هو الخالق والمهيمن على كل شيء، (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) وبهذا استحق العبادة، لكونه مالك كل خير ودافع كل ضر.

2- ما يصيب الإنسان من خير وشر يقع ضمن هدف الابتلاء والتمييز بين العباد، (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) فكل ما يصيب الإنسان إما أن يقربه من الله أو يبعده عنه.

3- كل شيء يتعلق به الإنسان دون الله بهدف جلب الخير أو دفع الضر لا يجدي نفعا، فليس هناك مالك لهما غير الله تعالى، (إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته)، فإن كان هناك من يملك النفع والضر من دون الله فهو أولى باللجوء إليه وطلب ذلك منه.

4- ما يفعله الله بالعباد خير محض سواء في دنياهم أو ما يجدونه في آخرتهم، وعليه ما يصيب الإنسان من سوء فهو من فعله واختياره، (ما أصابك من حسنة فمن الله ۖ وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، فالإنسان هو المسؤول عن كل ما يصيبه من سوء وبيده وحده تغيير حاله من حال إلى حال، (إن الله لا يغير ما بقوم حتىٰ يغيروا ما بأنفسهم).

وإذا انطلقنا من المسلمة في النقطة الثانية يمكننا أن نقول أن تقلب الإنسان بين الخير والشر هو السبيل الوحيد للكشف عن معدنه وحقيقته، فكما يقال عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، فلابد للإنسان من فتنة وابتلاء، والفتنة في اللغة مأخوذة من فتنة الذهب بالنار لإخراج الشوائب منه، وعليه لا يمكن أن نتصور فلسفة وجود الإنسان في الحياة ما لم يكن هناك ابتلاء وفتنة تؤهل الإنسان لدخول الجنة.

وإذا كان هذا واضحا يمكننا الرجوع إلى النقطة الأولى، والذي يقودنا إلى ذلك هو السؤال القائل، بعد أن سلمنا بأن الخير والشر، أو النفع والضر، لابد من وجودهما في الحياة ومن دونهما تفقد حياة الإنسان حكمتها وغايتها، فما هو مصدرهما ومن يتحكم بهما؟

من المؤكد أن خالق الحياة ومدبرها هو المالك لكل شيء، ومن المستحيل أن يخرج أي شيء عن هيمنته وسلطانه، قال تعالى: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون)، فإذا افترضنا وجود جهة أخرى غير الله تعالى هي التي تملك ذلك فمن الطبيعي أن يلجأ لها الإنسان لجلب الخير ودفع الضر، وهذا ما يفسر لنا انحراف بعض الأمم عن عبادة الله، فكل من عبد شيئا غير الله لم يعبده إلا بعد أن تصور أنه يملك نفعه وضره، ففي سورة يس بعد أن عددت الآيات النعم التي خص الله بها الإنسان مثل قوله تعالى: (ولهم فيها منافع ومشارب ۖ أفلا يشكرون) تأتي الآية بعدها مباشرة لتكشف سبب ضلال من يعبد غير الله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون) أي كانوا يتصورون أنها قادرة على نصرتهم، وبالتالي بيدها نفعهم وضرهم، إلا أن الآية التي جاءت بعدها أبطلت ذلك بالقول: (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)، وعليه لا سبيل أمام الإنسان العاقل إلا طلب ذلك ممن بيده النفع والضر وهو الله تعالى، فهو المالك الحقيقي لكل ما يرجوه الإنسان في حياته.

 

وكل ذلك يكشف عن معرفة الإنسان بأنه لا يملك من نفسه نفعا ولا ضرا، وأن هناك مالكا آخر لهما غيره، والمغرور وحده من يدعي أنه مالك للخير والشر والقادر عليهما، ومثل هذا لا يلتفت إلى قوله، وفي النتيجة إن الآية التي سأل عنها السائل لا تثبت شيئا آخر غير الذي يجده الإنسان في عمق شعوره ووجدانه، وهو حاجته لمن يملك نفعه وضره لكونه غير مالك لهما.

وإذا اتضح ذلك نعود إلى النقطة الرابعة، ونسأل عن دور الإنسان في هذه المعادلة، وهنا لابد أن نفترض مجموعة من الاحتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون الإنسان مجبورا على كل شيء، فكل ما يصيبه من خير أو شر ليس إلا قدرا محتوما عليه من الله، وكل ما يصدر عنه من فعل لا يكون نابعا من إرادته واختياره، وهذا الاحتمال هو الذي تصور السائل حدوثه.

الاحتمال الثاني: أن يكون للإنسان مطلق التصرف فهو وحده الذي يتحكم في كل شيء شاء الله أو لم يشأ، فإن كسب خيرا فمن نفسه وبجهده وكده، وإن أصابه سوء فمن فعله واختياره، وليس لله أي هيمنة عليه.

الاحتمال الثالث: أن يكون الإنسان مسؤولا عن فعله لكونه نابعا عن إرادته واختياره، وفي نفس الوقت غير مفوض في ذلك لوجود إرادة أخرى غير إرادته وهي إرادة الله تعالى، وعليه ما يصيب الإنسان أو ما يصدر عنه من الله ومن نفسه، فما يكون خيرا فمن الله وما يكون شرا فمن نفسه.

مع أن الاحتمال الثالث شائك وقد يكون غير مفهوم من النظرة الأولية، إلا أنه حتى وإن لم نرفع ما فيه من غموض نجده أولى من الاحتمالين السابقين؛ وذلك لأن الاحتمال الأول يصادر حرية الإنسان وإرادته، وهذا خلاف ما يشهده الإنسان بوجدانه. والاحتمال الثاني يصادر إرادة الله وحكمته، وهذا مخالف لكون الله هو الخالق والمهيمن، فكيف يكون هو الخالق وفي نفس الوقت منزوع الإرادة عن خلقه؟ أما الاحتمال الثالث فهو الاحتمال الوحيد الذي يحافظ على إرادة الإنسان وفي نفس الوقت لا يصادر إرادة الله، وحتى لو افترضنا أننا لم نفهم كيفية الانسجام بين إرادة الإنسان وإرادة الله يبقى هو الاحتمال الأقرب من الجهة التي ذكرناها.

أما كيف نفهم فعل العبد بين إرادة الله وإرادته الخاصة؟ فإن ذلك ما تميز به مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فأكثر المدارس الإسلامية إما تورطت في الجبر بشكل صريح أو مبطن، وإما تورطت في التفويض بشكل ظاهر أو مخفي، ولم يتصوروا وجود منزلة ثالثة تقع بين الجبر والتفويض، وهذا ما نبه له الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بقولهم لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين أمرين، ولا يمكن تفصيل معنى ذلك في هذا المقام وإنما نشير إليه باختصار، ومن أراد التفصيل هناك مقال منشور على صفحة الموقع بعنوان الجبر والاختيار يمكن مراجعته.

 

فمن المؤكد أن الله مكن الإنسان من الاختيار وأقدره على المعصية والطاعة، فلا يكون بذلك مجبورا لصدور الفعل عن اختياره، وفي المقابل لا يملك الإنسان القدرة والاختيار من نفسه وبذاته وإنما أمرها بيد الله فهو الذي يفيضها عليه، وبذلك لا يكون مفوضا في فعله طالما لم يكن مفوضا في أصل امتلاكه للقدرة والاستطاعة والاختيار، وهكذا في اللحظة التي يكون فيها الإنسان فاعلا مختارا لا يكون مستغنيا عما يمده به الله من قدرة تمكنه من الفعل، فالإنسان مالك لما ملكه الله بدون تفويض منه، وبذلك يصبح الإنسان في أشد الحاجة إليه من أجل دوام لطفه وإنعامه وتفضله، ويكون ذلك لحظة بلحظة، وثانية بثانية، فقوله: (إياك نعْبد وإياك نسْتعين)، أثبات للأمر بين الأمرين، فإياك نعبد نفي للجبر، لكونه هو الذي اختار العبادة، وإياك نستعين نفي للتفويض لكونه لا يتمكن من العبادة بدون عون الله وتوفيقه. ويبقى هناك سؤالان، الأول: كيف يكون فعل الخير من الله وفعل الشر من الإنسان؟ والسؤال الثاني: ما علاقة فعل الإنسان بما يقع عليه من خير وشر؟

بالنسبة للسؤال الأول: فالإنسان قادر على فعل الخير والشر بما أقدره الله على ذلك، وحينها يصبح مسؤولا عن فعله، فإن كان شرا يعود إليه وحده طالما كان قادرا على تركه، صحيح أنه فعل ذلك بالقدرة التي مكنه الله منها، إلا أن الله حين منحه إياها اشترط عليه أن لا يفعل بها إلا الخير، حيث حذره من الشر ونهاه عنه ووعده بالعقوبة إن هو خالف أمره، أما إذا فعل بها الخير فيكون ذلك من الله لكونه هو الذي أقدره على ذلك وحببه إليه وحثه على فعله ووعده بالثواب إذا قام به، ففي الرواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك. فقلت له: يا بن رسول الله فما أمر بين أمرين؟ فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه. فقلت له: فهل لله عز وجل مشيئة وإرادة في ذلك؟ فقال: أما الطاعات فإرادة الله، ومشيئته فيها الأمر بها، والرضا لها، والمعاونة عليها، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها، والسخط لها، والخذلان عليها).

أما بالنسبة للسؤال الثاني: ما علاقة اختيار الإنسان بما يصيبه من خير أو شر؟ وهل كون الله هو النافع الضار يعني أن إرادة الإنسان لا علاقة لها بذلك؟

من المؤكد أن كل شيء في الوجود معلق بالأسباب والمسببات، ولا يمكن أن نتصور وجود شيء خارج إطار السنن التي أقام الله عليها نظام الخلقة، والإنسان يقوم بفعله وفقا لهذه السنن والأسباب، فقد يقوم بشيء يكون سببا في نزول الضرر عليه، فمثلا قد يعرض نفسه للبرودة الشديدة فيصاب بمرض، وبذلك يكون مسؤولا عما أصابه من ضرر حتى وإن كانت الأسباب هي من فعل الله تعالى، صحيح أن بعض الشرور تصيب الإنسان من غير أن يكون هو المتسبب فيها بشكل مباشر، إلا أنها لا تكون نازلة من السماء وإنما حدثت بفعل إنسان آخر، وحتى لو فرضنا أنها عقوبة نازلة من السماء فإنها لا تنزل عبطا وإنما لفعل فعله الإنسان استحق تلك العقوبة، وعليه البشرية بشكل عام هي المسؤولة عما يصيب العالم من فقر وجوع ومرض وكل الكوارث التي تصيبه، وهي أيضا المسؤولة عن رفع كل ذلك من خلال تغيير منهجها في الحياة وتبديل نمط سلوكها، فالفقر والمرض والغنى والعافية كلها تخضع لمعادلات وضعها الله كقوانين، وإرادة الإنسان مسؤولة بشكل مباشر عن كل ما يصيب الإنسان، فظلم الحاكم وفساد الأنظمة والمطامع والأنانيات الحاكمة على النفوس وغير ذلك كله مسؤول عما يصيب البشرية، فلماذا نحمل الله المسؤولية وهو سخر للإنسان كل ما في الوجود وأمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وحذرهم من حسابه وعقابه؟

وعليه فقوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير) فإن الآية تثبت أن كل ما يقع في الوجود وكل ما يجري على الإنسان من خير أو شر هو محكوم بما قدره الله من سنن على هذا الوجود، والإنسان في حياته وسعيه حتما معرض لما ينفعه أو ما يضره، وحينها لا يمكنه أن يعتمد على ذاته وقدراته الخاصة وإنما بحاجة إلى تسديد الله وتوفيقه، فمثلا لو هم العبد الى فعل شيء وكان في ذلك الشيء ضرره وهو لا يعلم، فهو بين عدة احتمالات، فإما أن يصرف الله عزيمته عن ذلك الفعل، فبعد أن كان متحمسا يفقد الرغبة تماما عن فعله، وهذا يجده كل واحد منا في نفسه، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عرفت آلله سبحانه بفسخ العزائم، وحل آلعقود، ونقض آلهمم)، وإما أنه يسعى بجد لتحقيقه ولكنه يفشل في ذلك، مثلا من كان ينوي السفر إلى مكان وكان في ذلك السفر مكروه يصيبه وهو لا يعلم، فمع تصميمه وسعيه إلا أن الله لا يوفقه للقيام بذلك السفر، وكم من الأعمال يعزم على فعلها الإنسان ولكنه يفشل في القيام بها، وغير ذلك من الطرق التي يصرف الله بها المكروه عن عبده، أما من خذله الله وأوكله إلى نفسه فلا يسلم من الوقوع في الضرر، وفي حال وقوع الضرر على الإنسان لا يمكنه أيضا الخلاص منه إلا بتوفيق آخر من الله تعالى، ومن هنا لا يمكن أن يدفع الإنسان الضرر عن نفسه إلا إذا أعانه الله على ذلك، ولا يفهم بأن التوفيق والخذلان أمر اعتباطي وإنما له علاقة بمجمل فعل الإنسان وتوجهه في الحياة، فمثلا قد يدفع الله المكروه عن إنسان بسبب بره لوالديه، وقد يخذله بسبب عقوقه لهما،

وعنه (صلى الله عليه وآله): الصدقة تمنع سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونها الجذام والبرص)، وهكذا تتداخل أسباب حسية ومعنوية في مجمل حياة الإنسان وتحدد ما يمكن أن يصيبه من خير أو شر، وفي حال وقوع الشر بالإنسان فما تزال الفرصة متاحة أمامه من جديد، وذلك من خلال الرجوع إلى الله وطلب العون منه لرفع ما وقع عليه من ضرر، وبذلك يكون الشر والخير سببا في رجوع العبد إلى الله وبذلك يتحقق ابتلاؤه وامتحانه في الحياة كما يترتب على ذلك جزاؤه يوم القيامة.