بالعقل أم بالفطرة.. كيف نصل إلى الله؟!

تناسق الفطرة مع التأملات العقلية

كانت وما زالت مسألة وجود الخالق والإلٰه تأخذ حيّزًا كبيرًا في تأمّلات الفكر الإنسانيّ، ونجد أنّ الكثير من النصوص الشرعيّة تؤكّد أنّ معرفة الله - تعالى - وتوحيده والتعلّق به هو أمرٌ مركوزٌ في فطرة الإنسان، وربما يعبّر بعضها عنه بميثاق الفطرة، كيف يتسنّى لنا توظيف هٰذه النصوص في مسار التأمّلات العقليّة؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

إنّ معرفة الخالق على أقسامٍ ثلاثةٍ: المعرفة الفطريّة والمعرفة العقليّة والمعرفة الفلسفيّة، أمّا المعرفة الفطريّة فهي عبارةٌ عن ما غرسه الله في قلب كلّ إنسان وفي وجدانه من الشعور بقوّةٍ خارقةٍ، والتعلّق بها في وقت الخوف والحرج والاضطرار، إذ يجد الإنسان - حتّى الملحد الّذي لا يؤمن بالله - أنّ في غريزته وعمق وجدانه تعلّقًا بقوّةٍ غيبيّةٍ خارقةٍ عندما تطرأ عليه عوامل الخوف، وهٰذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، وقال تبارك وتعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

القسم الثاني هو المعرفة العقليّة، وهي عبارةٌ عن الوصول إلى الله - تبارك وتعالى - عبر الاستدلال العقليّ المبنيّ على مقدّماتٍ ونتيجةٍ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هٰذا القسم من المعرفة في عدّة آياتٍ منها قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، وهو إشارةٌ إلى استحالة وجود الإنسان من لا شيء، أو إيجاد الإنسان لنفسه المستلزم للدور. وقال تبارك وتعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا)، وهي عبارةٌ عن دليلٍ إنّيٍّ يتشكّل بالاستدلال من الأثر على المؤثّر، وقال تبارك وتعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) إشارةً إلى أنّ شرارة الحياة لا يمكن أن يصنعها الإنسان، وإنّما يصنعها من كان نبعًا ومصدرًا للحياة.

والقسم الثالث من المعرفة هو المعرفة الفلسفيّة، وهي المعرفة الّتي تحتاج إلى ربطٍ بين المنظومات الفكريّة المختلفة، فعندما يتأمّل الإنسان في منظوماتٍ فكريّةٍ متعدّدةٍ، ويقوم بالربط فيما بينها، ويصل إلى نتيجةٍ من خلال هٰذا الربط، فهٰذا نسمّيه بالمعرفة الفلسفيّة التأمّليّة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هٰذا النوع من المعرفة في قوله تعالى: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) فعندما يلاحظ الذهن مفهوم الملك ومفهوم القدرة ومفهوم الحياة والموت، يرى أنّ الحياة والموت - أي اقتران الحياة بالموت واجتماع الحياة والموت في هٰذا العالم المادّيّ - دليلٌ على القدرة المسيطرة الجبروتيّة على أرجاء هٰذا الكون، وعندما يتأمّل في مفهوم القدرة الّتي من أجلى مصاديقها الحياة والموت، ينتقل منها إلى مفهوم الملك؛ فإنّ الملك الحقيقيّ هو ملك القدرة على السيطرة على الكون والقدرة من أجلى مصاديقها ومظاهرها، إنّه من يملك الحياة ومن يملك الموت؛ ولذٰلك نجد ارتباطًا بين هٰذه المنظومات وهٰذه المفردات يظهر بالتأمّل والتدبّر.

وعندما نلاحظ قوله تعالى: ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ) فإنّ قيام الذهن بتحليل هٰذه المفردات والربط فيما بينها يوصله إلى أنّ هناك جامعًا بين هٰذه المظاهر كلّها، وهو شرارة الحياة، ففي المادّة المنويّة شرارة الحياة، وفي الحرث والنبت شرارة الحياة، وفي الماء مصدرٌ ومنبعٌ للحياة، فالجامع بين هٰذه المظاهر الثلاثة هو نبع الحياة وشرارة الحياة؛ لذٰلك إنّما استشهد بها مع حقارتها بنظر الذهن البشريّ الساذج لأنّه يريد أن ينطلق من هٰذه المظاهر الثلاثة للاستدلال على أنّ هناك ماءً ونفسًا واحدًا وهو نفس الحياة لا يصدر إلّا من الحيّ القيّوم، كما في قوله تعالى: ( اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). فهناك أيضًا ربطٌ بين القيوميّة وبين قوله لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ، وهناك ربطٌ بين الوحدانيّة وقوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وهناك ربطٌ ما بين هٰذين الأمرين وهما القيوميّة والوحدانيّة وبين الحياة، فإنّ الّذي يكون متّصفًا بالوحدانيّة والقيوميّة إنّما يكون حيًّا ومنبعًا للحياة، فهٰذه أقسام المعرفة الإلٰهيّة الّتي نستقيها من القرآن الكريم.