ضرّتان لا تجتمعان: هل تتصالح الدنيا مع الآخرة؟!

ما صحة الحديث المنسوب للإمام الحسن (ع): إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبد، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

إن هذا الحديث تارةً يُنسب الى رسول الله (صلى الله عليه واله) مرسلاً -من دون سند- كما في كتاب (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، ج ٢، ورام بن أبي فراس المالكي الأشتريّ، ص ٢٤١). وتارةً ينسب الى الإمام الكاظم (عليه السلام) مرسلاً، بعنوان روي عن العالم، كما في كتاب (من لا يحضره الفقيه، ج ٣، الشيخ الصدوق، ص ١٥٦، وجامع أحاديث الشيعة، ج ١٧، السيد البروجردي، ص35). وتارةً ينسب إلى الإمام الحسن عليه السلام مسنداً في كتاب كفاية الأثر عن محمد بن وهبان البصري عن داود بن الهيثم بن إسحاق النحوي عن جده اسحق بن البهلول عن أبيه بهلول بن حسان عن طلحة بن زيد الرقي عن الزبير بن عطا عن عمير بن هاني العنسي عن جنادة ابن أبي أمية عن الحسن بن علي ابن أبي طالب عليهما. والإسناد ضعيفٌ لجهالة بعض الرواة.

فيظهر مِـمّا تقدّم أنّ الحديث من جهة الإسناد ضعيف إمّا لكونه مرسلاً، وإمّا لجهالة بعض رواته كما هو مقرّر في علم الحديث، لكنْ مع ملاحظة أنّ هذا الحديث وإنْ كان ضعيفاً من جهة السند، لكنْ متنه مشهور عند جميع الفرق الإسلاميّة، ورأينا كثيراً من العلماء يعدّون معناه صحيحاً وإنْ كان إسناده ضعيفاً، هذا فضلا عن وجود رواية معتبرة بالمضمون نفسه تقريباً تعضد هذه الرواية، رواها ثقة الإسلام الكلينيّ (ره) في كتاب الكافي (2/87) بإسناده إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت - يعني المفرط - لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما واحذر حذر من يتخوف أن يموت غدا.

كيف نجمع بين هذا الحديث الذي يحثُّ على العمل لأجل الدنيا، وبين الأحاديث الكثيرة التي تذمّ الدنيا؟

الجواب عن ذلك كما يرى غير واحد من أهل العلم بأنّ الإسلام حين جاء استطاع بحكمته البالغة، وإصلاحه الشامل، أن يشرّع نظاماً خالداً، يؤلّف بين الدين والدنيا، ويجمع بين مآرب الحياة وأشواق الروح، بأسلوب يلائم فطرة الانسان، ويضمن له السعادة والرخاء . فتراه تارة يحذّر عشّاق الحياة من خُدعها وغرورها، ليحرّرهم من أسرها واسترقاقها، كما صورته الآثار السالفة [ يعني بذلك ما ورد من آثار في ذمّ الدنيا عن أئمّة أهل البيت ( ع )]، وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائذها البريئة وأشواقها المرفرفة، لئلا ينقطعوا عن ركب الحياة، ويصبحوا عرضة للفاقة والهوان. قال الصادق عليه السلام: «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه». وقال العالم عليه السلام: «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

وبهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الإسلام، وتوغّل المسلمون في مدارج الكمال، ومعارج الرقيّ الماديّ والروحي.

وعلى ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية:

1 - التمتع بملاذ الحياة، وطيّباتها المحلّلة، مستحسن لا ضير فيه، ما لم يكن مشتملاً على حرام أو تبذير، كما قال سبحانه: « قل من حرّم زينة اللّه التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ».( الأعراف: 32 ) . وقال أمير المؤمنين عليه السلام: « اعلموا عباد اللّه أنّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا، وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظى به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المُبلّغ والمتجر الرابح» .

2 - إن التوفّر على مقتنيات الحياة ونفائسها ورغائبها، هو كالأول مستحسن محمود، إلّا ما كان مختلساً من حرام، أو صارفاً عن ذكر اللّه تعالى وطاعته . أما اكتسابها استعفافاً عن الناس، أو تذرعاً بها إلى مرضاة اللّه عز وجل كصلة الأرحام، وإعانة البؤساء، وإنشاء المشاريع الخيرية كالمساجد والمدارس والمستشفيات، فإنّه من أفضل الطاعات وأعظم القربات، كما صرح بذلك أهل البيت عليهم السلام :

قال الصادق عليه السلام: « لا خير فيمن لا يجمع المال من حلال، يكفّ به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه ». وقال رجل لأبي عبد اللّه عليه السلام: « واللّه إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نُؤتاها . فقال (ع): تحب أن تصنع بها ماذا ؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصِلُ بها، وأتصدق بها، وأحج، وأعتمر . فقال أبو عبد اللّه: ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة ».[ينظر كتاب (أخلاق أهل البيت (ع) للسيّد مهديّ الصدر، ص133 وما بعدها].