سؤال ساذج: هل الله موجود؟ لماذا لا تبحث عن عقلك أولاً؟!

هل مسألة وجود الله من عدمه تعني للإنسان شيء؟ فهناك من يقول -ونعوذ بالله ونستغفره من هذا القول- إن مسألة الله لا تهمني؛ إن كان غير موجود فلماذا النقاش والجدل؟ وإن كان موجودا وراض عما يجري في هذا العالم من ظلم ومآسي، فلا يستحق الاعتراف به!

إن هذا الكلام يمثل قمة السذاجة الفكرية والبساطة في مقاربة الحقائق، ولا اظنه يصدر من إنسان يحترم أو يفقه ابجديات التفكير المنطقي، فالقول إن لم يكن الله موجوداً فلماذا النقاش والجدال حوله، يعبر عن سطحية متناهية؛ لأن عدم وجود الله إذا كان مفروغاً منه لما كان هناك نقاش من الأساس فكيف يتساءل عن سبب وجوده؟ فوجود نقاش وجدال يدل على وجود بحث جدي بين المؤمنين والملحدين، وبالتالي لا يمكن مصادرة النقاش والجدال بمجرد افتراض عدم وجود الله، وهذا خلف واضح كما يسمى في علم المنطق؛ لأن اثبات النقاش اثبات لإمكانية الوجود، ونفي النقاش نفي للإمكانية، وبما أنه اثبت وجود النقاش لأنه تساءل عن سبب وجوده، فيلزمه حتماً اثبات إمكانية وجود الله، ولا يسعه نفيها وإلا وقع في خلاف ما افترضه، فكيف بعد ذلك يتساءل وبكل سذاجة عن المبرر من وجود النقاش والجدل؟ فاللحظة التي لا يكون فيها الله موجوداً هي ذاتها اللحظة التي ينعدم فيها النقاش والجدل، ومن هنا لا يمكن التضجر من حالة النقاش الدائر حول وجود الله لكونه نتاجاً طبيعياً للاختلاف بين المؤمن والموحد، وسوف يستمر طالما هناك نزاع بينهما.

ثم قوله إن كان موجوداً وهو راض بما في العالم من ظلم فلا يستحق الاعتراف به، وهذا دليل اخر على مستوى التفكير الاخرق وترتيب النتائج على غير مقدماتها، فإذا كان لازم عدم وجوده هو عدم الانشغال به حواراً ونقاشاً كما افترض في أول الكلام، فيلزمه من ذلك عندما يفترض وجوده أن يكون الناتج هو انشغال الإنسان به بحثاً وحواراً وإلى غير ذلك، أما الانتقال إلى قضية أخرى لا علاقة لها بما افترضه في اول الكلام يدل على أنه في حاجة للبحث عن عقله قبل أن يبحث عن الله، وكذلك قوله (لا يستحق الاعتراف به)، فيه جهل بمعنى الاعتراف وطبيعته، فالاعتراف بوجود الحقائق الواقعية ليس امراً اعتبارياً خاضعاً للمزاج الشخصي، وإنما هو وصف موضوعي لحقيقة الواقعية، فعندما أقول الجبل موجوداً فأنا اعترفت بوجوده، وعندما أقول ليس بموجود فانا لم اعترف بوجوده، فلا فرق بين القول إن الله موجود والاعتراف بوجوده، ومن هنا نكتشف التناقض في قوله، فعندما يقول إذا كان موجود فلا اعترف بوجوده، كلام ينفي اوله اخره وأخره اوله؛ لأن نفي الاعتراف هو نفي للقول بالوجود والعكس بالعكس، أما الاعتراف كقبول نفسي ناشئ من الرغبة الشخصية في التصديق، لا يهمنا في مجال النقاش الموضوعي لأننا لا يمكن أن نلزمك بالحقيقة وأنت لها كاره.

وبعد أن تبين مدى التناقض الذي وقع فيه هذا الملحد، لابد من تقديم رؤية فيما يخص موضوع المظالم والخير والشر في الحياة، من الواضح أن البحث عن الخير والشر يعد بحثاً في فلسفة الاخلاق، وهي الفلسفة المسؤولة عن البناء القيمي الذي يتحرك في إطاره الإنسان، الأمر الذي يجعل الإلحاد في وضع حرج عندما يُطالب بتقديم تصوره الخاص للأخلاق؛ وذلك لكونه فلسفة مادية قشرية لا تعترف بوجود قيم أخلاقية من الأساس، فالحق، والخير، والعدل، والإحسان، والرحمة... وغيرها من القيم ليست صفات موجودة في المادة، بل غير موجودة حتى في الإنسان بوصفه مادة تحركه أعصاب غير واعية، فمع تحكم هذه النظرة المادية كيف يمكن أن نوجد تفسيراً مختبرياً وتشريحياً لهذه القيم الأخلاقية عند الإنسان؟

فمن المستحيل ثبوتاً وإثباتاً أن يكون هناك قيم أخلاقية تتصف بالإطلاق دون الإيمان بوجد إله يكون مصدراً لهذا الإطلاق، وهذا ما تنبه إليه الكثير من فلاسفة الإلحاد، وقد أدرك الفيلسوف الوجودي الملحد (جون بول سارتر)، مبلغ الإحراج الفكري في مسألة أصل التمييز الأخلاقي بين الخير والشر، ولذلك قال: "يجد الوجودي حرجًا بالغًا في ألّا يكون الله موجودًا، لأنه بعدم وجوده تنعدم كلّ إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح. لا يمكن أن يكون هناك خير بدهي لأنّه لا يوجد وعي لانهائي وكامل من الممكن التفكير فيه. لم يُكتب في أيّ مكان أنّ الخير موجود، ولا أنّ على المرء أن يكون صادقًا أو ألّا يكذب". 

ومن هنا نجد أن ريتشارد دوكنز يتسق مع إلحاده ويلتزم بمآلاته، فيرفض صبغ الوجود ككلّ بأية صفة قيمية على الإطلاق، فيقول مقرّا بمشكلة النسبية الأخلاقية: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة". ويقول أيضاً: إنّه من العسير جدًا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية" .

وقد أشاد داروين نفسه بالدور الفعال للإيمان بالمعبود حيث يقول: "وبالنسبة للأعراق الأكثر تمدناً، فإن الإيمان الراسخ بالوجود الخاص بمعبود، مطلع على كل شيء قد كان له تأثير فعال، على التقدم الخاص بالأخلاق".

ومن هنا استنكار الملحد على وجود مظالم استنكار غير مفهوم ولا يمكن تبريره، ومن ظرائف هذا الباب ما نشره الفيلسوف (ويليام لين كريغ) في موقعه الإلكتروني، في باب أسئلة القرّاء، تحت عنوان: (لقد دمّرتَ حياتي، بروفسور كريغ!)، وخلاصة الأمر أنّ صاحب السؤال طالبُ فلسفة في إحدى الجامعات الأمريكية، وقد أشرب قلبه الإلحاد حتى إن جلّ أبحاثه الجامعية كانت عن الإلحاد. وكان قد قرأ مقالًا لـ(كريغ) تحت عنوان: (عبثية الحياة من غير الله)، فاهتز له وجدانه، ولم ينم يومين متتاليين، غير أنه اجتهد لأشهر لإعداد رد عليه، وشعر بالسعادة والراحة لما انتهى من كتابة اعتراضه النقدي المطوّل. كانت خلاصة فكرة (كريغ) هي أنّ العقيدة الإلحادية المفرّغة من الإيمان بالله لا بد أن تؤول بالملحد إلى العدمية، بالمعنى الواسع للعدمية حيث لا قيمة لشي في ذاته. شعر هذا الشاب أنّه لا بد من التسليم لما قرّره (كريغ)؛ ولذلك حاول بعد كتابته للردّ أن يعيش متناسقًا مع الإلحاد كمبدأ عقدي لأنّ مخالفة ذلك تعني أنّ فعله غير متناسق مع فكره النظري، ولكنّه لما وضع رجله في عالم (العدمية) صرخ: (إنّ العدمية لا يمكن أن تُعاش). لقد أصيب بالتأزّم النفسي، وانكفأ على نفسه في عزلة تامة؛ إذ أدرك أنّ الإيمان بالله هو الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يجعل للوجود معنى وأن يفكّ الألغاز التي تطارده بأشباحها، لتصبح الحياة بذلك قابلة لأن يعايشها الإنسان. وختم الشاب رسالته بقوله إنّه (ملحد يكره الإلحاد”!)

وفي المحصلة أن الأمر الذي يجب حسمه هو أن الملحد لا يمكنه الاعتراض على أخلاقية الوجود إلا إذا اعترف أولاً بوجود الله؛ لأن الكلام عن الأخلاق يبدأ بعد الكلام عن وجود الله.

ولكي نفهم العدالة لابد أن نفهم معنى الحياة الدنيا، لأن معنى العدالة يتحدد وفقاً لمعنى الحياة، فلو أوجد الله الحياة بوصفها الجنة الأبدية للإنسان، ثم وعده ألا يصيبه فيها مكروه، كما وعد آدم بقوله: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ) (119 طه). حينها نفهم العدالة بالشكل الذي يتناقض مع وجود الشرور والمظالم. أما إذا كانت الحياة وجدت أساساً كدار للابتلاء والامتحان، ومن ثم الإنسان يختار بعمله الجنة التي يريد أن يكون فيها، كما قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (2 العنكبوت). حينها لا نفهم العدالة إلا في إطار الفتن والمصاعب التي تؤهل الإنسان لدخول الجنة، وعندها تصبح الشرور مجموعة من الاختبارات والامتحانات التي تتدرج بالإنسان في مراتب الكمال.

للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على تليجرام: https://t.me/The12ImamsWeb

المصدر: مركز الرصد العقائدي