الإمام الجواد ومحنة الإمامة

من المعلوم أن منصب الإمامة كمنصب النبوة منصب إلهي، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار ويعين الأئمة كما الأنبياء (عليهم السلام)، ولذلك لا يبقى للسن والعمر أي مدخلية في الاختيار، وأن صفات الكمال من العلم والمعرفة والعصمة وغيرها هي السمات التي يتحلى بها المصطفون من عباده، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾[1].

وكما اصطفى الله تعالى بعض أنبيائه وهم في سن مبكرة كما في نبوة عيسى بن مريم (عليها السلام) كذلك اصطفى بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهم في سن مبكرة. وأول إمام مفترض الطاعة تسلم مقاليد الإمامة وهو في سن مبكرة جداً هو الإمام الجواد (عليه السلام)؛ إذ كان عمره ست سنوات وبضعة شهور، وهو الأمر الذي جعل بعض الشيعة -فضلاً عن غيرهم- في بادئ الأمر في حالة من الحيرة والارتباك والتشكيك في قدرة قيام إمام في سن مبكرة على النهوض بواجبات الإمامة ومسؤولياتها.

وقد أشار لذلك ابن رستم الطبري -وهو من أعاظم علماء القرن الرابع الهجري- إذ كتب يقول: «ولما بلغ عمره -أي الإمام الجواد- ست سنين وشهور قتل المأمون أباه، وبقيت الطائفة في حيرة واختلفت الكلمة بين الناس، واستصغر سن أبي جعفر، وتحير الشيعة في سائر الأمصار»[2].

ولم يقتصر أمر التشكيك والحيرة في إمامة الإمام الجواد (عليه السلام) على عوام الشيعة بل امتد إلى علمائهم؛ فقد ذكر أبن رستم الطبري أيضاً: اختلف الناس في جميع الأمصار، واجتمع الريان بن الصلت وصفوان بن يحيى ومحمد بن حكيم وعبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلزل يبكون ويتوجعون من المصيبة.

فقال لهم يونس: دعوا البكاء! من لهذا الأمر؟! يفتي المسائل إلى أن يكبر هذا الصبي -يعني أبا جعفر- وكان له ست سنين وشهور ثم قال: أنا ومن مثلي.

فقام إليه الريان بن الصلت فوضع يده في حلقه ولم يزل يلطم وجهه ويضرب رأسه ثم قال له: إن كان أمر من الله جل وعلا كابن يومين مثل ابن مائة سنة، وإن لم يكن من عند الله فلو عمر الواحد من الناس خمسة آلاف سنة كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه وهذا مما ينبغي أن ينظر فيه، وأقبلت العصابة على يونس تعذله[3].

وهذه المشكلة والأزمة التي واجهها الإمام الجواد (عليه السلام) لم يواجهها أحد من أئمة أهل البيت السابقين، فقد كان أول إمام يتسلم منصب الإمامة وهو في سن مبكرة جداً، لكنه استطاع بعلمه وحنكته وسعة معارفه أن يثبت للجميع أنه أهل للإمامة وجدير بها، وقد أذعن له الأعداء فضلاً عن الأتباع بعدما رأوا مؤهلاته الدينية والعلمية والمعرفية بما لا يمكن لغير الإمام المفترض الطاعة أن يمتلك تلك العلوم والمعارف.

وقد مهد الإمام الرضا (عليه السلام) لإمامة ابنه الجواد؛ فقد أشار لأصحابه وشيعته إلى أن الإمام من بعده هو ابنه الجواد (عليه السلام)، وأنه يستلم الإمامة وهو في سن مبكرة، وأن هذا لا يقدح في إمامته ومكانته العلمية.

يقول أحد أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام): كنت واقفاً عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بخراسان، فقال قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من؟

قال: إلى أبي جعفر ابني. - وكأن القائل استصغر سن أبي جعفر- فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله سبحانه بعث عيسى رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر (ع)[4].

فالإمام الرضا (عليه السلام) كان يعلم أن عمر الإمام الجواد (عليه السلام) قد يجعل البعض يشكك في أهليته للإمامة، لذلك استشهد الإمام الرضا (عليه السلام) بعيسى بن مريم (عليه السلام) الذي قد بعث بالنبوة وهو في عمر صغير، ولم يمنعه ذلك من أهليته للنبوة، فكذلك الإمام والإمامة.

وقال الإمام الرضا (عليه السلام) أيضاً لمعمر بن خلاد -وهو أحد أصحابه-: « هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي، وصيرته مكاني، وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا أكابرنا القذة بالقذة»[5].

وقال الإمام الرضا (عليه السلام) بعدما وُلِد له أبو جعفر (عليه السلام): «إن الله قد وهب لي من يرثني ويرث آل داود»[ 6].

وبهذا التوجيه والإرشاد من الإمام الرضا (عليه السلام) لأصحابه ومؤيديه وشيعته أراد أن يعالج مسألة تولي الإمام الجواد (عليه السلام) من بعده مقاليد الإمامة وهو في عمر صغير، وأن العمر ليس مقياساً لأهلية تولي منصب الإمامة، كما أنه ليس مقياساً لأهلية تولي منصب النبوة.

واستطاع الإمام الجواد (عليه السلام) أيضاً بما يملك من علم وحكمة ومعرفة أن يزيل الشكوك من قلوب بعض الموالين فضلاً عن غيرهم، وقد أعلن بنفسه أنه أعلم أهل زمانه مستعداً للإجابة على كل أسئلة العلماء فضلاً عن غيرهم.

فقد روي أنه جيء بأبي جعفر (عليه السلام) إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد موت أبيه، وهو طفل، وجاء إلى المنبر ورقا منه درجة ثم نطق فقال: أنا محمد بن علي الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم، وما أنتم صائرون إليه، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين، وبعد فناء السموات والأرضين، ولولا تظاهر أهل الباطل، ودولة أهل الضلال، ووثوب أهل الشك، لقلت قولاً تعجب منه الأولون والآخرون [7].

بهذا الإعلان الواضح يعلن الإمام الجواد (عليه السلام) أنه الإمام المفترض الطاعة، وأنه يملك أسرار العلوم والمعارف، وأنه أعلم الناس في زمانه بالشريعة المقدسة، وأفقههم في مسائل الحلال والحرام، وأعرفهم بمفاهيم الإسلام وفلسفته وأحكامه.

وقد جاء إليه في المدينة المنورة العلماء والفقهاء من سائر الأمصار والبلدان ليتعرفوا عليه، وليسألوه مختلف المسائل، وبعضهم كان بدافع امتحانه ومعرفة أهليته للإمامة نظراً لصغر سنه، وقد أجاب على جميع أسئلتهم مما دفعهم للاطمئنان أكثر بأنه الإمام المفترض الطاعة بعد أبيه الإمام الرضا (عليهما السلام).

وزبدة القول إن الإمام الجواد (عليه السلام) هو أول إمام ينهض بأعباء ومسؤوليات الإمامة وهو لم يبلغ الحلم، مما أثار جملة من الشكوك، وحالة من الارتباك والقلق، لدى جمع من شيعته والموالين له، فضلاً عن أعدائه وخصومه؛ لكن الإمام الجواد (عليه السلام) استطاع أن يتجاوز كل تلك الشكوك، وأن يثبت للجميع أهليته للإمامة، بما يملك من علم ومعرفة وحكمة، وأنه كما يصح للنبي أن يكون نبياً وهو لم يبلغ الحلم كعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا بنص القرآن الكريم، كذلك يصح للإمام أن يكون إماماً وهو لم يبلغ الحلم.

فالعمر ليس مقياساً في أهلية المعصوم للنبوة أو للإمامة، وإنما ذلك منصب إلهي يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده المصطفين.

وقد قام الإمام الجواد (عليه السلام) بنشاط واسع وجهد كبير لإثبات أهليته للإمامة، وتبديد كل الشكوك والتساؤلات التي كانت تثار حول إمامته بعد رحيل أبيه الإمام الرضا (عليهما السلام).

وقد تجاوز الإمام الجواد (عليه السلام) تلك المشكلة والإشكالية والمحنة من خلال تصديه للإجابة على كل الأسئلة، ومناظراته لكبار علماء وفقهاء عصره، وما يملكه من أسرار العلوم والمعارف الدينية، أن يثبت للجميع أنه الإمام المفترض الطاعة، وهذا ما أذعن له جميع الموالين بعد التأكد والاطمئنان بأهليته للإمامة، وأحقيته في ذلك، وأنه إمام أهل زمانه وعصره، والإمام التاسع من أئمة أهل البيت الأطهار.

الهوامش:

[1] سورة آل عمران، الآية: 33.

[ 2] دلائل الإمامة، أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية 1408 هـ - 1988 م، ص 200.

[ 3] دلائل الإمامة، أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية 1408 هـ - 1988 م، ص 200- 201.

[ 4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 50، ص 23، رقم15.

[ 5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج50، ص21، رقم9.

[ 6] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج50، ص 18، رقم3.

[ 7] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج50، ص 108، رقم 27.