لا تتخذوه لهواً ولعباً: لماذا يجب أن نعظّم الدين؟

قال سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): من اتخذ دين الله لعباً ولهوا أدخله الله تبارك وتعالى نار جهنم مخلداً فيها.

خلق الباري تبارك وتعالى الخلق ولم يتركهم سدىً بل أنزل عليهم ديناً قيماً، وأنزل الدين لأجل كمال الأنسان نفسه لا لمصلحة تعود إليه تبارك وتعالى؛ لأنه غني مطلق وكل كمالاته ثابتة له بالفعل، وليست له حالة من الكمال منتظرة تتوقف على خلق الخلق أو على أفعال العباد، فمصلحة الدين تعود إلى المتدين نفسه.

والدين عبارة عن مجموعة عن التعاليم والأحكام، و بعض هذه الأحكام أحكام عقدية، كوجوب الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى، وبعضها أحكام عملية، كوجوب الصلاة ووجوب الصوم والأحكام العملية تنقسم إلى أحكام فقهية وإلى أحكام أخلاقية، و هذه المنظومة إنما أنزلت لمصلحة الإنسان نفسه لكي يصل الإنسانُ بواسطة الالتزام بهذه المنظومة إلى كماله، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، و قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، فالغاية الأولى كمال الإنسان في الدنيا من خلال تحقيق القسط والعدالة، والغاية الثانية كمال الإنسان في نفسه من خلال ظفره باليقين، والذي هو المرتبة العليا من العلم.

لماذا نعظم الدين؟

والدين لأنه أنزل من قبل الله تبارك وتعالى يجب على الإنسان عقلاً أن يُعظمه وأن يخضع لأحكامه، وذلك لوجود عناوين ثلاثة تلزم الإنسان بتعظيم الدين وبالخضوع لأحكام الدين:

العنوان الأول: هو عنوان شكر المنعم

الباري تبارك وتعالى أنعم على الإنسان بنعمة الوجود، خلقه تعالى ولم يكن شيئاً ومَن عليه بصنوف النعم (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)، فهو تبارك وتعالى منعم بل هو أعظم مُنعم، والعقل يقول: إن المنعم ينبغي أن يُعظم ولا يستخف بشأنه يرجى له وقار، ومن تعظيمه الالتزام بأحكامه وتعظيم هذه الأحكام التي صدرت عنه، لأن هتك الأحكام الصادرة عنه و المنتسبة إليه لا ينفك عن هتكه، وهتكه جحود بالنعمة وجحود النعمة قبيح عقلاً.

العنون الثاني: عنوان المالكية

نحن في أصل وجودنا نحتاج إلى الله وتبارك وتعالى، وفي بقائنا نحتاج إلى الله تبارك وتعالى، ففي كمالاتنا الثانوية والصفات التي تعرض علينا نحتاج إلى الله تبارك وتعالى، و في أفعالنا نحتاج إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله تبارك وتعالى مقوم لوجودنا، وجودنا ليس إلا حقيقة متعلقة بقدرته، ولو أن الله تبارك وتعالى قطع عنا فيضه وحرمنا من إمداده لانتفينا وزال عنا الوجود وفقدنا كل شيء، وهذا معنى أن الله تبارك وتعالى محيط بنا إحاطه قيومية، وهذه الإحاطة هي الملكية الحقيقية التي تعني أن وجودنا ليس إلا شيء مرتبط بوجوده، حقيقة هذا الوجود أنه متعلق به وأثر الجعل، كما يقول الحكيم السبزواري (رحمه الله): (و أثر الجعل وجود ارتبط)، و معنى أن الله تبارك وتعالى أوجدنا هو أنه حقق هذه الكائنات التي حقيقتها أنها مرتبطة بقدرته متعلقة بإرادته، ولو أنه تبارك وتعالى قطع الفيض لحظه لانعدم وجودنا في اللحظة نفسها، وإذا كان مالكاً فمن حق المالك أن يأمر، وعلى المملوك أن يخضع ويطيع.

من الأطروحات الغريبة التي يروج لها بعض العلمانيين والليبراليين و المتأثرين بهم القول بأنه ليس لله تعالى حق التشريع والحكم، لأنه عز وجل لم يأخذ أذننا في أصل إيجادنا، وهذا كلام غريب جداً، فإن هؤلاء يجمعون بعض الماديات ويكونون مخترعات ومصنوعات بشريّة، ويجعلون للمخترعين والصانعين حقاً و يقبحون التعدي عليه، فيجعلون لمن يبني مصنعاً حق التصرف فيه وجعل النظام الذي يريد، مع أن البشر لا يوجد من العدم، و لم يأخذ أذناً من المصنوعات والمخترعات، فكيف لا يكون الحق ثابتاً لمن أوجد من العدم وهو مقوم في الوجود البقائي!

العنوان الثالث: هو عنوان دفع الضرر المحتمل

إذا كان الله تبارك وتعالى قاهراً لعباده مسيطراً عليهم بإمكانه أن يتصرف فيهم كيفما يشاء، فهذا يعني أن بإمكانه أن يعاقب فيما إذا أمر وعُصي، فيحتمل كل عاقل على تقدير استخفافه بالدين أو عدم التزامه بالأحكام الإلزامية من الدين أن يعاقبه الله تبارك وتعالى، والعقل يحكم بلزوم تجنيب النفس العقاب، وبمقتضى هذا الحكم يجب أن يُعظم هذا الدين، وأن يُخضع لأحكامه دفعاً للعقاب الذي يحتمل ترتبه على الاستخفاف بالدين والاستخفاف بأحكام الدين.

إذن هناك عناوين ثلاثة تُلزم العقل بأن يحكم بلزوم تعظيم الدين وطاعة الله تبارك وتعالى فيما إذا أمر، ويدعم هذا الحكم العقل جملة من الروايات التي دلت على لزوم تعظيم دين الله تبارك وتعالى، إظهار الاحترام والتقدير والتعظيم لأحكام الله تعالى، يقول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (من اتخذ دين الله لعباً ولهوا أدخله الله تبارك وتعالى نار جهنم مُخلداً فيها) الاستخفاف بدين الله ليس فقط سيئة، وإنما هو كبيرة، بل هو من أعظم الكبائر التي توجب الخلود والعياذ بالله في نار جهنم، و يقول الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه): (إياكم والتهاون في أمر الله تبارك وتعالى فإن من تهاون في أمر الله أهانه الله تبارك وتعالى في يوم القيامة)

من صفات الله تبارك وتعالى المنتقم، و من يستهين بأمره ينتقم منه الله تبارك وتعالى فيهينه في يوم القيامة، ونحن ليس مأمورين بأن نعظم الدين ولا نُظهر الاستخفاف الاستهانة بالدين فقط، بل نحن مأمورون علاوة على ذلك بأن نقاطع من استخف بالدين وأظهر اللا مبالاة بأحكام الله تبارك و تعالى، يقول عزوجل: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)، وهذا أمر إلهي بمقاطعة المستخفين بدين الله تبارك وتعالى، فإذا كان الشخص في قروب واتساب ـ مثلاً ـ ووجد في القروب نفسه بعض الحداثيين أو التنوريين أو الليبراليين الذين ينشرون مقاطع فيها استخفاف بالدين أو بأحكام الله تبارك وتعالى، الوظيفة التصدي للرد أو الخروج، و إذا أرسل إليك شخص مقطع فيه استهزاء بشعيرة من الشعائر مثلاً أرسل فيديو لحوت يحرك يده وكأنه يلطم على صدره مع إدخال صوت عزاء -كما رأيت قبل يوم أو يومين في مقطع منتشر - فوظيفتك أن تقول له هذا: هذا من الاستخفاف بالدين وبأحكام الدين وشعائر الدين فلا يجوز نشره، وإذا أصر هذا الشخص على النشر فوظيفتك أن تقاطع، بل الأمر أعظم من ذلك من استخف بدين لله وأظهر التهاون فيه تسقط كرامته ويجوز الاستخفاف به، وفي الكافي وغيره روايات كثيرة تحث على مقاطعة أهل البدع والاستخفاف بالدين، وتحط من قدرهم منها ما عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المرء على دين خليله وقرينه. وفيه عن داود ابن سرحان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهر والبراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الاسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة. وعن الجعفري قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ فقال: إنه خالي، فقال: إنه يقول في الله قولا عظيما، يصف الله ولا يوصف، فإما جلست معه وتركتنا وإما جلست معنا وتركته؟ فقلت: هو يقول ما شاء أي شئ علي منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى (عليه السلام) وكان أبوه من أصحاب فرعون فلما لحقت خيل فرعون موسى تخلف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه حتى بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا فاتي موسى (عليه السلام) الخبر، فقال: هو في رحمة الله ولكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع. وعن شعيب العقرقوفي قال، سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن قول الله عز وجل: " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها.. إلى آخر الآية " فقال: إنما عنى بهذا: [إذا سمعتم] الرجل [الذي] يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة فقم من عنده ولا تقاعده كائنا من كان. وعن عبد الاعلى بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس مجلسا ينتقص فيه إمام أو يعاب فيه مؤمن.

فرسول الله (صلى الله عليه وآله) و أهل البيت (عليهم السلام) كالقرآن الكريم يأمروننا بمقاطعة المستخفين بالدين، وظيفتنا أن نظهر الوقيعة فيهم بإظهار الحط والتنقيص، وليس أن نجاملهم و نشترك في منتدياتهم وتجمعاتهم التي تعزز تأثيرهم في المجتمع مع ما هم عليه من الاستهزاء بالدين وأهل الدين، نعم من كان له رأي مخالف ويريد الحق لا يكون الاختلاف سبباً مبرراً لاتخاذ موقف سلبي معه، وإنما يعامل بالحسنى ويجادل بالتي هي أحسن.