العنف في السيرة النبوية -٢- «دعوى الارهاب في مقوماتها المنطقية» (الجزء الثاني)

إن الطموح السياسي والطمع بالسلطان عند فقير يرعى الأغنام في مكة الموغلة في الجاهلية بما فيها من خضوع للدولتين العظميين الروم وفارس،  لن يتجاوز حدود الوصول إلى ما وصل اليه ملوك الحيرة أو الغساسنة.

ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن يفكر ذلك الفقير بانتزاع ملك كسرى أو قيصر. فالتراث الأدبي الذي وصلنا عن العصر الجاهلي والتاريخ الاجتماعي لتلك الفترة يضعنا أمام صورة واضحة لوعي أبناء ذلك العصر في جزيرة العرب..

يقول الشاعر الجاهلي:

ولقد شربت من المدامة بالصــغير وبالكبــــير

فإذا انتشــيت فإنــــــني رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنــــــنيرب الشويهة والبـــعير

إنه سيحاول أن يتسيّد مكة من خلال امتلاك مفاتيح الكعبة وخدمة الحاج والغلبة في إخضاع بيوتاتها كما فعل جده قصي بن كلاب. وإذا جمح به طموحه إلى الرغبة بتوحيد العرب تحت سلطانه، فلابد له ـ بفعل وعيه كجاهلي في الجزيرة العربية والظروف المحيطة به ـ من أن يتجه إلى القبيلة، المكوّن الأساس لذلك المجتمع. فبعد أن يتسيّد مكة كخطوة أولى، يعمد إلى بث التآلف والتخالف بين القبائل حسبما تمده به قدرته حتى تتوحد تحت سلطانه كما فعل جنكيز خان ـ مثلا ـ في توحيد المغول. ولو فرضنا أن طموحه قد تجاوز الممكن فوصل به إلى تصميم على منازعة الروم أو الفرس فلن يكون له ـ حينها ـ من وسيلة سوى القبيلة وما فعله جنكيز خان حين غزا الأرض. وآخر ما يمكن أن نعقله لطامح كهذا هو أن يتكلف مؤونة الخوض في قضايا العقائد والسلوك التي نلمس أنّى سرنا في ثنايا سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من الجهد والمثابرة في الدعوة لها والعمل على غرسها في النفوس حتى جعلها (صلى الله عليه وآله) القضية الأم في دعوته حيث قال (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

     إن النظرة التحليلية لمجريات السيرة النبوية في الفترة المكية تجعلنا نتبيّن مايلي:

  •  كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة ذا شخصية معروفة للجميع بالخصال الفاضلة وله عند الجميع موضع الاحترام والتقدير. حتى أن أهل مكة كلها كانوا ينادونه الصادق الأمين. وقد اشترك في مطلع شبابه بحلف الفضول الذي هو حلف اجتمع عليه نفر من بيوتات مكة لإنصاف المظلوم من ظالمه. وقد قال عنه (صلى الله عليه وآله ) فيما بعد (لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت (.[1]
  • وحين أمر أن ينذر عشيرته في بدء الدعوة "قال ابن عباس: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين)  خرج رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فصعد على الصفا فهتف: يا صباحاه! فاجتمعوا إليه. فقال: يا بنى فلان، يا بنى فلان، يا بنى عبد المطلب، يا بنى عبد مناف! فاجتمعوا إليه. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك!أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت ((تبت يدا أبي لهب و تب[2])).[3]
  • إن أية حركة معاكسة للخط العام المنحرف لمجتمع الجزيرة العربية أو اتجاه مناهض للقيم السائدة، مقطوعا عن الوحي وضمن واقع أبناء الجزيرة، لن يكون القائم به سوى واحد من اثنين؛ إما رجل له بعض الحكمة والعقل كعثمان بن مظعون[4] وآخرين في مكة، أو رافض للطبقية الجاهلية فيعمد إلى خلق شيء من الاشتراكية عن طريق الإغارة على ما عند الأغنياء لإعطاء الفقراء كما فعل عروة بن الورد. ولا شك في أن ما قدمه النبي (صلى الله عليه وآله) من رسالة، ما زالت رغم أربعة عشر قرناً على بدئها راسخة في نفوس أكثر من مليار إنسان، لا يمكن أن يقاس بهذين النموذجين.
  • الرفض القاطع ـ ومنذ اللحظة الأولى للدعوة ـ لعبادة الأصنام رغم ما تشكل هذه الأصنام من قداسة قصوى لدى أهل مكة بل عموم العرب، وجعل نبذ هذه العبادة ـ من قبل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ النقطة الأم التي يقوم عليها الصراع. بمعنى أنه راح منذ أول انطلاقة دعوته يلهب نفوس الجميع بالعداء له بضرب قدس أقداسهم ليقف أمام هذا الطوفان وحيدا. فهل يمكن لطامع في زعامة أو سلطان أن ينحو هذا النحو؟!
  • إننا نلاحظ في نبوة مزيفة كالتي ادعاها مسيلمة الكذاب كيف سارع إلى تملق أتباعه وإرضائهم كي يتبعوه، بأن وضع عنهم الزكاة وعدداً من الفرائض وأباح لهم الخمر والنساء.

  • ثم إنه (صلى الله عليه وآله) اعتمد في دعوته فكراً لا يستميل به لوناً أو قبيلة أو شريحة معينة، فكراً يخاطب عقل الإنسان ووجدانه. فالتف حوله من علية البيوتات المكية جاهاً وحسباً كسعد بن أبي وقاص وعثمان بن عفان ومن له الحظ الوافر في الحكمة كعثمان بن مظعون والشاب المترف الأرستقراطي مصعب بن عمير والعبد المملوك بلال بن رباح والفقير المعدم عمار بن ياسر، جمعهم حوله بدعوة أول كلمة فيها "اقرأ" (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[5]
  • يتبع...

    [1] البداية والنهاية - ج 2 ص 355

    [2] المسد 1

    [3] تفسير مجمع البيان 7: 322

    [4] كان قد حرم على نفسه الخمر في الجاهلية ويأنف من عبادة الاصنام وفيه قال أمير المؤمنين عليه السلام ()كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يُعظمه في عيني صِغرُ الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتاً، فإنّ قال بدّ القائلين ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاءَ الجِدّ فهو ليثُ غابٍ وصِلُّ وادٍ، لا يدلي بحجّة حتّى يأتي قاضياً، وكان لا يلومُ أحداً على ما يجد العذر في مثله حتّى يسمع اعتذارَه، وكان لا يشكو وجعاً إلاّ عند برئه، وكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، وكان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الأخلاق فالزموها وتنافسُوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خيرٌ من ترك الكثير ((،  الشبكة العنكبوتية، مؤسسة الإمام علي عليه السلام، لندن

    [5] العلق 1ـ 5