الإبريق الكوني... تلك الحجة الطفولية

ما هو الأصل في مسألة وجود الإله؟ يتفرع من ذلك: من المطالب بالدليل؟ وعلى مَن يقع عبئ الإثبات على الملحد النافي أم المؤمن المثبت؟

 فرضية الإله أو الإيمان؟

يوم كان الفيلسوف البريطاني الشهير أنتوني جيرارد نيوتن فلو (توفي سنة: 2010م) ملحداً أفاد في مقاله: "فرضية الإلحاد" أنّ النقاش حول وجود الإله يجب أن يبدأ من فرضية الإلحاد وأنّ عبئ الإثبات يجب أن يكون على المؤمنين بالإله... حتى نؤمن بأنّ هناك إلهاً لابد أن تكون لدينا مبررات جيدة للاعتقاد... الموقف المعقول الوحيد هو أن تكون ملحداً سلبياً (= لا يؤمن بالإله مقابل الملحد الإيجابي الذي يؤمن بعدم وجود إله) أو لا أدرياً... وأشار إلى أنّ هذه الفرضية لا تتضمن حكما مسبقا على نتيجة يراد اثباتها وإنما هي مبدأ أجرائي يشبه قاعدة أصل البراءة التي يستند عليها القانون.

وبهذا يرى فلو أنّه وضع الكرة في ملعب المتدينين، فإنّ هذا المنظور الجديد سيُظهر مشروع الإيمان كله متزعزعاً أكثر مما كان عليه، ذلك أنّ اثبات شيء أصعب من نفيه.

لكن لم تبق هذه الفرضية على حالها، فلاحقاً غير فلو موقفه من قضية وجود إله وأعلن إيمانه بالله سنة: 2004 م وبعد طلب من فلو أن يعرض تجربته مع الإلحاد أصدر كتابه الشهير "هناك إله "(There Is a God) سنة: 2007 م، سجل فيه العديد من الرؤى والمواقف التي زعزعت فرضيته "فرضية الإلحاد" السالفة نشير إلى ثلاثة منها:

أـ يذهب الفيلسوف البريطاني المعاصر (أنثوني جون باتريك - كيني) إلى أنّ الموقف اللا أدري قد يكون مبرراً ولكن الإلحاد غير مبرر لإنّ إظهار أنك تعرف يتطلب جهداً أكبر من إظهار أنك لا تعرف، وهذا أيضاً لا يخلص اللا أدري من الورطة فالمتقدم للاختبار يمكنه تبرير عدم معرفته بإجابة أحد الأسئلة لكن هذا لا يمنحه القدرة على اجتياز الاختبار.

ب ـ ويرى فلو أنّ أكبر تحدٍ لحجة فرضية الإلحاد جاءته من الفيلسوف الأمريكي المعاصر (ألفن كارل بلانتنجا) الذي أكد فطرية الإيمان وقارب مسألة الاعتقاد بوجود إله بقضايا جوهرية أساسية غير قابلة للإنكار، كالاعتقاد بأن للآخرين عقولاً كعقولنا والاعتقاد بصحة الحواس والذاكرة ووجود العالم وغيرها من قضايا نعتقد بها دون أن نرى أي حاجة لسوق الأدلة عليها.

ج ـ راف ماك أينرني: وجود إله خالق قضية بديهية نظراً للنظام والترتيب والقوانين التي تحكم الوجود والطبيعة، ويستنتج من ذلك أن الأصل للإيمان وعبئ الدليل يقع على الملحدين ([1]) وهذه الملاحظات والمواقف بمجموعها تمثل الرأي الثاني في المسألة، أعني أصالة الإيمان.

تطور الإبريق!

والأمر هين لو كان مجرد تنصل من "عبئ الدليل" لكن الأمر اختلف، فصارت تضرب الأمثلة والمقاربات التي تهدف إلى رمي الايمان بالله بالوهم الذي لا دليل عليه (ما يثبت بلا دليل ينفى بلا دليل)، على الأقل ينطوي هذا الطرح على مغالطتين: فلا عدم الدليل يسوغ اعتقاد النفي (الاحتكام إلى الجهل) كما أنّ في تطبيق: "ما ثبت بلا دليل" على وجود الله (مصادرة على المطلوب) واضحة.

أولى هذه المقاربات وأشهرها تمت على يد الفيلسوف الشهير راسل بأبريق شاي مفترض الوجود يدور حول الشمس ففي مقال له بعنوان: Is There a God? هل هناك خالق؟ كتب:

"إذا أمكنني أن أشير أنه يوجد بين الأرض والمريخ إبريق مصنوع من الخزف الصيني يدور حول الشمس في مدار بيضوي، لا يمكن لأحد أن يدحض افتراضي... ([2])

تطورت هذه الأمثولة وصارت تعرف بـ "الابريق الكوني لراسل" وراح يستعيرها أو يستبدلها بأخرى تؤدي نفس الغرض معظم الملاحدة وهو: الإيمان بالله غير عقلاني تماما كالاعتقاد بأبريق راسل الخزفي، "لا أومن بالله كما لا أؤمن بالإوزة الأم - شخصية كارتونية" يقول محامٍ أمريكي شهير (كليرانس دارو )، يضيف دوكنز بابا نؤيل وأيضاً: إله آخر بدأ ينتشر الآن على الإنترنت وغير قابل للإنكار تماماً كيهوه والآخرين ألا وهو وحش السباغايتي الطائر.

وللتوضيح فقط: قصة تبدأ من قرار وزارة التعليم في ولاية كانساس يقضي بتعليم التصميم الذكي، أحتج أحد الطلبة "بوبي هندرسن" وتهكماً من القرار أسس سنة 2005م ديانة "باستافاريين "أخذا من كلمة "باستا "التي تعني المعجنات، مفترضاً لها إله سماه "وحش السباغيتي الطائر"، وكدليل على بطلان قرار الوزارة راح يطالب بتدريس هذا الإله التهكمي المفترض.

طار الملحدون فرحاً بأمثولة هندرسن كتجديد وتطور لأبريق راسل الذي استهلك وشارف على الانقراض!

ويخبرنا دوكنز عن السلف المشترك للإبريق والإوزة والوحش وبابا نؤيل:

"الفكرة التي أراد راسل توضيحها هي أن مسؤولية البرهان تقع على المؤمن وليس غير المؤمن... إن عدم إمكانية نفي وجود إبريق الشاي المداري وبابا نؤيل لن يسبب لأي شخص عاقل أي شعور بأنّ الموضوع يستحق الاهتمام أساساً! "([3])

الحجة الطفولية

هكذا وبكل بساطة وبالأمثلة القابلة للتوظيف في كل الاتجاهات يستنتج دوكنز من ذلك كله:

"الموضوع لا يستحق الإهتمام أساساً"! دون أي اعتبار إلى أنّ أهمية كل بحث وجديته تعتمد على الخطورة التي تترتب عليه، أعيد استعارة مثال هوستن سميث (توفي سنة: 2016م) إنّ اختبار قوة حزام بنطال مثلاً هو أن نقوم بشده بقوة ونتائج هذا الاختبار ليست بذات اهمية اذ في حال عدم ثبوت المطلوب كل ما سيحصل هو انقطاع الحزام، لكن الوضع يختلف تماما عندما يتعلق الامر بحياة الانسان لذا فان قوة حبال المظلة (البرشوت) يجب أن يتم تعييرها بشكل دقيق لان عدم تحقق ذلك يؤدي بحياة المظلي ([4])

ومع صوابية فكرة فطرية الإيمان وأصالته الثابتة بأكثر من وجه وطريق، فقد خلق الإنسان مجبولاً على البحث والسؤال عن علل الحوادث والظواهر، وتاريخياً تعبر عن تلك الحقيقة المقولة المشهورة عن المؤرخ الإغريقي الشهير بلوتارخ: لقد وجدت في التاريخ مُدُنًـا بلا حُصون، ومدنا بلا قُصور، ومُدُنا بلا مدارس، لكني لم أجد أبدًا مُدنًـا بلا معابد.

بيد أنّ هذا لا يمنع العقل من الحكم بضرورة إقامة الدليل على أي قضية موجبة أو سالبة سيما رأس القضايا الوجودية، ومن ثمّ فعبئ الإثبات يقع على الطرفين.

والحقيقة أنّ تلك التشبيهات تعبر عن "حجة طفولية "على حد وصف عالم الفيزياء الإيرلندي المعاصر ليستر إدغار ماكغراث:

"من الواضح أنّ التشبيه خاطئ... أنا أمنتُ بأنّ بابا نؤيل موجود حتى بلوغي سنّ الخامسة ولم أؤمن بالله إلا حين ذهبتُ إلى الجامعة، أولئك الذين يلجؤون إلى هذه الحجة الطفولية يجب عليهم شرح السبب وراء اكتشاف كثيرين لوجود الله في وقت لاحق من حياتهم وبالتأكيد لا يعتبرون ذلك يمثّل أي نوع من التراجع أو الانحراف أو الانحطاط الأخلاقي، وخير مثال على ذلك يقدمه (أنتوني فلوـ مواليد 1923) الفيلسوف الملحد المشهور الذي بدأ إيمانه بالله في الثمانين من عمره "([5])

التعبير بالحجة الطفولية في غاية الأدب والاحترام حين ندرك أنّ هذه التشبيهات تساوي بين ما لا يختلف على وهمه مع ما مع ما أذعن به كل العظماء تقريباً فلاسفة وعلماء "فقد اتفقوا جميعاً على أن الكون لا يشرح نفسه وأنه يتطلب تفسيراً يتجاوزه، وقبلوا هذه الفكرة باعتبارها أمراً في منتهى الوضوح.» “كيث ورد” Keith Ward

[ذات صلة]

في الختام

ننتهي إلى أصالة الإيمان فطرياً ووجدانياً وهذا يقتضي أنّ يقدّم المشكك واللاأدري فضلاً عن الملحد الإلحاد تفسيراً وواضحاً مبنياً على براهين لهذه الظاهرة التي لم تنفك عن الوجود الإنساني، لكن عقلياً لا أصالة في البين بمعنى يتحتم على أي منظور إيماني أو إلحادي أن يقيم الحجج على متبنياته ودعاويه، ورحم الله ابن سينا حين قال: كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان مالم يذدك عنه قائم البرهان.

([1]) أنتوني فلو - هناك إله - كيف غير أشرس ملحد رأيه؟ ص75 بترجمة د. صلاح الفضلي. وص70 بترجمة: جنات جمال، وص59 بترجمة عمرو شريف في كتاب: رحلة عقل، وبعد الإطلاع على ترجمات الكتاب هذه فإنّ ترجمة الفضلي هي الأفضل بنظري من حيث الدقة والوضوح، سيما مع ما تضمنته من تعليقات (د.مرتضى فرج ).

([2]) رابط المقال: https://www.cfpf.org.uk/articles/religion/br/br_god.html

([3]) ريتشارد دوكنز - وهم الإله ص 54

([4]) المثال مقتبس من البروفيسور والناسك الروحي: هوستن سميث في كتابه: لماذا الدين ضرورة؟ مع تصرف بسيط)

([5]) لستر إدغار ماكغراث وجوانا كوليكات ماكغراث - وهم دوكنز ص21.