ما هي شروط الخلافة الإسلامية في التصور الشيعي؟!

درج استخدام الخلافة الإسلامية كمصطلح للإشارة لنظام الحكم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، حيث كان يسمى من يتصدّى لإدارة شؤون المسلمين بعد رسول الله بالخليفة، وعليه فإن الخلافة الإسلامية ضمن هذا التصور ليس لها شروط خاصة غير أن يكون الخليفة من قريش، فكل من تهيئت له الظروف وتمكن من بسط نفوذه أصبح خليفة المسلمين وأمير المؤمنين.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وقد عاشت الأمة بالفعل تحت إدارة قريش وفي ظل الخلافة الإسلامية تسعمئة سنة، وفي هذه الفترة اكتسبت الأمة وعيها الديني وتشكلت مفاهيمها الإسلامية، ولم يكن من المسموح أبداً لهذه الأمة أن تفكر خارج حدود السلطة الحاكمة، فكانت البيعة للخليفة فرض، والسمع والطاعة له واجب، ومن خرج على ذلك قتل بسيف الإسلام، كما حدث لأهل المدينة من مجازر واستباحة للحرمات، وكما هدمت الكعبة على رؤوس المسلمين، وكما قتل الحسين بن علي (عليه السلام) في كربلاء، وقتل الكثير من كبار الصحابة صبراً أمثال حجر بن عدي وسعيد بن جبير وآخرين، فلم ينعم المسلمون طوال هذه الفترة الطويلة بإسلامهم دون أن يكون على رأسهم خليفة يسوسهم وحاكم يتسلط عليهم، فتشبعت الأمة بذلك وربيت عليه ودرجت فيه حتى أصبح الحالمون بحكم الإسلام اليوم لا يرون سوى تلك الصورة التي حشيت بها كتب التراث وتفنن العلماء والفقهاء في نسج التبريرات الثقافية والفكرية لها، فبات من الصعب على المسلم أن يقارب الخلافة في التاريخ مقاربة سياسية بعيدة عن الدين والعقيدة، برغم إنَّ مجريات الاحداث السياسية تدل على أن الخلافة كانت فعلاً سياسياً بامتياز، فلم تكن سقيفة بني ساعدة- وهي الخطوة الأولى في مشروع الخلافة- ولا آخر حكام بني العباس، يمثل فعلاً دينياً له علاقة بجوهر الإسلام وتعاليمه، إنَّما هي السياسة التي مورست بكل أشكالها وأدبياتها.

وعليه فإن التقييم العام للمسار السياسي للإسلام يقودنا إلى وجود تصورين، الأول: يمثل الرؤية السياسية داخل المدرسة السنية. والثاني: يمثل المدرسة الشيعية. حيث يعتقد السُنة إنَّ ما أُنجز ووقع بالفعل من خيار سياسي بعد وفات رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمثل الرؤية السياسية في الإسلام، ولذلك تموضع الفكر السُني وبنى تفكيره العقدي والسياسي بما يتماشى مع واقع الخلافة تاريخياً، وأصبح الحاكم يتمتع بقداسة خاصة يكتسبها من كونه خليفة رسول الله أو امير المؤمنين، وتم ربط ذلك بالعقيدة الإسلامية حيث يتهم بالردة كل من يخالف الخلفاء، ومازالت الأمة تتوارث هذه القداسة الى درجة أصبحت خط الدفاع الأول عند السنة، ولا يحق للمسلم مجرد البحث أو التقييم لهذه التجربة، فمن الممكن أن يتهاون أهل السنة مع اليهود والنصارى حتى وإن كانوا يشككون في أصل الإسلام، إلا أنهم لا يتهاونون أبداً مع الشيعة، والسبب في ذلك هو التشكيك الذي يتبناه الفكر الشيعي لتلك التجربة التاريخية ومدى مصداقية تمثيلها للإسلام، فالرؤية الشيعية تعمل على زعزعة الإسلام الذي عملت الخلافة الإسلامية على تصويره، فعدم قبول الشيعة لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان هي السبب الحقيقي وراء تكفير الشيعة واخراجهم عن دائرة الإسلام.

أما الرؤية السياسية الشيعية فقد كانت تسير عكس الواقع المفروض على المجتمع الإسلامي تاريخياً، وقد قدمت تصورها الخاص الذي ينطلق من فكرة الإمامة القائمة على النص والتعيين، والبعد العقدي لهذه الفكرة هو إنَّه لا يمكن صناعة نظام للحكم ومن ثم فرضه بوصفه تعبيراً عن إرادة الله طالما لم يكن بأمر الله وتعيينه، وعليه فشرط الخلافة الإسلامية في التصور الشيعي يقوم على ركيزة واحدة وهي أن الخليفة هو الامام المعصوم الذي يقوم الله ورسوله بتعيينه وتنصيبه، ومن هنا يعتقد الشيعة إنَّ إمامة أهل البيت التي نص عليها القرآن وأكد عليها الرسول هي الامتداد الحقيقي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبالتالي يمكننا القول إنَّ الرؤية السياسية عند الشيعة كانت سابقة لما حدث وأُنجز في الواقع التاريخي من نظام سياسي، بل انطلقت من النص لفهم المسار السياسي للرسالة، فضمن حدود هذه الرؤية انفتحت على الواقع التاريخي ببصيرة نقدية حاكمت  كل التجارب التي قد تتصادم مع هذه الرؤية، ومن أجل ذلك لم يتساهل التشيع مع سقيفة بني ساعدة كخيار يتحكم في مسير الرسالة، وجاهر أئمة الشيعة برفضهم لتلك الخلافة، فأمير المؤمنين (عليه السلام)، امتنع عن بيعة الخليفة الأول أبي بكر نحو ستة أشهر بحسب رواية البخاري ومسلم، وعندما جاءته الفرصة الأولى، وعرض عليه عبد الرحمن بن عوف الخلافة، بشرط أن يسير بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر، لم يقبل ولو ظاهرياً ومجاملة، وأعلن رفضه المدوّي بقوله: كتاب الله وسنة الرسول نعم، أما سيرة الشيخين فلا.

ومن هنا يمكننا الجزم بإنَّ الخيار الذي تسلم زمام الأمور، وانقاد له الواقع السياسي للأمة، ولَّد تصوراً وفهماً خاصاً للإسلام، يتباين في كثير من الموضوعات والعناوين مع التصور الذي أنتجه الخيار الثاني وهو خيار المعارضة والانتصار لحق أهل البيت في القيادة والحكم، ومن أهم الملامح التي امتاز بها الخيار الإسلامي الذي اصطف مع السلطة هو التأقلم مع أي نظام سياسي والتبرير لأي حاكم، وقد اكتسب هذه الميزة من نظرته المثالية للتاريخ برغم ما حدث فيه من تناقضات وتباينات، حيث لم يعترفوا بأي فوارق بين الإسلام الذي يتبناه الإمام علي والحسين (عليهم السلام)، وبين الإسلام الذي يتبناه معاوية ويزيد، فالاعتراف بهذا التباين هو نوع من الاصطفاف مع اتجاه ضد الاتجاه الآخر، ومع إنَّ أهل السنة قد ناصروا بالفعل خط الخلفاء ولم يسمحوا بنقدهم والتعرض لهم، إلاّ إنَّهم في الوقت نفسه قد تعاطفوا مع أهل البيت لما لهم من مكانة خاصة عند رسول الله، ولذلك حاولوا التنكر على وجود أي نوع من أنواع الصراع بين علي وأصحاب السقيفة، ولم يسمحوا لأنفسهم أو لغيرهم الحديث او التعرض للحروب التي دارت بين علي وبعض الصحابة بوصفها فتنة يجب الإمساك عن التعرض لها، ومن هنا كانت كربلاء ضرورة ملحة لهز ضمير الأمة وتنبيهها لواقع الإسلام الذي تعمل السلطة على تزييفه.

ومن هنا فإن الخلافة الإسلامية في التصور الشيعي هي حق خاص لأهل البيت (عليهم السلام)، حيث يعتقد الشيعة بإنَّ مسؤولية الإمامة وقيادة الأمة بعد وفاة رسول لله مسؤولية تحددها النصوص الدينية، ومن هنا انطلق هذا الخيار في فهمه للإسلام من واقع النص المتمثل في القرآن وأحاديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) التي أمرت الأمة بضرورة الرجوع إلى أهل البيت، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحديث المتواتر عند السنة: أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فتمسك الشيعة بإمامة أهل البيت وانقطعوا لهم، بوصفهم النخبة المسؤولة عن الرسالة وهمومها المستقبلية، وقد أعدهم الرسول الاكرم وأشرف على تأهيلهم للقيام بهذا الدور، وبيّن فضلهم ومكانتهم للأُمّة، فطهرهم الله من الرجس دون غيرهم، وأوجب على الأمة مودّتهم.

وقد كان لهذا التصور رؤية سياسية معاكسة، فبينما تبنت السلطة السياسية الخيار السني وهو بدوره تأقلم معها واحتمى بها، وجد هذا الخط نفسه بسبب فهمه للإمامة في حالة من المعارضة وعدم الاعتراف بكل الأنظمة التي حكمت وما زالت، ومن هنا كانت علاقاته متوترة مع كل الأنظمة التاريخية، وفي الفترات التي كانت تشهد العلاقة نوع من التهدئة كان الشيعة يشكلون نظامهم الخاص داخل تلك الدول التي تغض الطرف عنهم خوفاً من تمردهم، وانعكس هذا التباين بين الخطين في أدبياتهم الثقافية ورؤيتهم العقائدية ونظمهم الاجتماعية، فالمجتمع السني ينتظم ضمن هيكلية الدولة وإداراتها من منطلق شرعي قائم على وجوب السمع والطاعة للحاكم، كما تتبنى الدولة إدارة الشؤن الدينية، من تعيين مفتي عام، ووزيراً للأوقاف والحج، وديواناً للزكاة، مضافاً لبناء المساجد، ورعاية المدارس والمعاهد الدينية، وتعيين الخطباء وتحديد ما يقولونه من خطب الجمعة والأعياد، وما زال هذا الوضع الذي امتد منذ أيام الخلافة وإلى الآن.

أما المجتمعات الشيعية فتعيش ضمن إطار خاص، لا يعترف بشرعية الدولة، ولا يدين لها بالسمع والطاعة، لو حصل ذلك لا يكون مبرراً برؤية شرعية، وإنَّما بحسب ما يقتضيه الظرف السياسي، وبخاصة في حالات الإكراه والخوف. وقد عاش الشيعة هذا الوضع المضطرب منذ التاريخ وإلى الآن وقدموا الكثير للحفاظ على هذه الخصوصية.

ولكي تكتمل رؤية الشيعة حول الإمامة والخلافة نورد رواية طويلة عن الإمام الرضا (عليه السلام) تبين معنى الإمامة ووظيفتها واهميتها، ففي الكافي للكليني، وعيون أخبار الرضا للصدوق عن عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا في أيام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو، فاجتمعنا في مسجد جامعها، في يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأدار الناس أمر الإمامة وكثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي ومولاي الرضا (عليه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسم (عليه السلام) ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخُدعوا عن أديانهم، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيّه حتى أكمل له الدين، وأنّزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج اليه الناس كملاً – أي تاماً كاملاً – فقال عَزّ وجَلّ:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، وأنّزل في حجّة الوداع وهي آخر عمره(صلى الله عليه وآله) (اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا)

وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمضِ (صلى الله عليه وآله) حتّى بيّن لاُمّته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وإقام لهم علياً (عليه السلام) علماً وإماماً، وما ترك شيئاً تحتاج اليه الأمة إلاّ بيّنه، فمن زعم إنَّ الله لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله عَزّ وجَلّ، ومَن ردّ كتاب الله تعالى فهو كافر.

هل يعرفون قدْر الإمامة، ومحلها من الأمة فيجوّزون فيها اختيارهم، إنَّ الإمامة أجل قدراً وأعظم شأنا وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً مِن إنَّ يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم.

إنَّ الإمامة خصَّ الله بها إبراهيم (عليه السلام) بعد النبوة، والخِلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شَرّفَهُ بها وأشاد بها ذكره، فقال عَزّ وجَلّ:(أني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، فقال الخليل (عليه السلام) سروراً بها:(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، قال الله عَزّ وجَلّ: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله عَزّ وجَلّ بإنَّ جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال عَزّ وجَلّ: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ(72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا البهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإقام الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكانوا لَنَا عَابِدِينَ).

فلم تزل في ذريّته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله) فقال الله عَزّ وجَلّ: (إنَّ أولى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)، فكانت له خاصة فقلّدها علياً بأمر الله عَزّ وجَلّ على رسم ما فرضها الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عَزّ وجَلّ: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ).

فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبيّ بعد محمّد (صلى الله عليه وآله)، فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟

إنَّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وارث الأوصياء، إنَّ الإمامة خلافة الله عَزّ وجَلّ، وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين.

إنَّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين.

إنَّ الإمامة أسُّ الإسلام النامي وفرعه السامي.

الإمام الدال على الهدى والمنجي من الردى، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف، الإمام يُحل حلال الله ويحرّم حرام الله ويقيم حدود الله ويَذبّ عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي بالأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيد القفار ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الظماء والدال على الهدى والمنجي من الردى، والإمام النار على اليفاع – اليفاع ما أرتفع من الأرض – الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك، ومَن فارقه فهالك، الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل، والشمس المضيئة والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة والغدير والروضة، الإمام الرفيق والولد الرقيق والأخ الشفيق، ومَفزع العباد في الداهية، الإمام أمين الله في أرضه وحجّته على عبادهِ وخليفته في بلاده، الداعي إلى الله والذاب عن حَرم الله، الإمام المطهر من الذنوب المبرّأ من العيوب، مخصوص بالعلم موسوم بالحلم نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين، الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد له بدل ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب بل اختصاص من المُفَضّل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟ هيهات هيهات ضلّت العقول وتاهت الحلوم حارت الألباب وَخَسِئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيّرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألباب وكلّت الشعراء وعجزت الأدباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلةٍ من فضائله فاقرّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكلّه أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد مَنْ يقام مقامه، ويغني غناه، لا، كيف وإنَّى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين.

فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ أظنّوا إنَّ يوجد ذلك في غير آل الرسول؟ كَذّبتهم والله أنفسهم ومنّتهم الباطل، فارتقوا مرتقىً صعباً دحضاً، تزّل عنه الى الحضيض أقدامهم، راموا إقامة الإمام بعقول بائرة ناقصة، وآراء مُضِلّة، فلم يزدادوا منه إلاّ بعداً: (قَاتَلَهُمْ الله إنَّى يُؤْفَكُونَ)، لقد راموا صعباً وقالوا إفكاً، و(ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيدًا)، ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة (وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَإنَّ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكانوا مُسْتَبْصِرِينَ).

ورَغِبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كان لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَإنَّ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقال عَزّ وجَلّ: (وَمَا كان لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا إنَّ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا).

وقال عَزّ وجَلّ: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ إيمان عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ(40) أم لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إنَّ كانوا صَادِقِينَ).

وقال عَزّ وجَلّ: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، أمْ (طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ)، أمْ (قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ الله الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)، و(قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)، بل هو (فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وراعٍ لا ينكل، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة نسل المطهرة البتول، لا مغمزّ فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حَسَبْ، فالنسب من قريش، -وفي نصٍ-: فالبيت من قريشٍ والذروة من هاشم والعترة من آل الرسول والرضا من الله عَزّ وجَلّ، شرف الأشراف والفرع من عبد مناف، نامي الحلم، مُضْطلَعْ بالإمامة عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عَزّ وجَلّ، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله.

إنَّ الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفّقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق كلّ علم أهل زمانهم – فإنَّظر – في قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ إنَّ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَ إنَّ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

وقوله عَزّ وجَلّ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أولوا الأْلْبَابِ)، وقوله عَزّ وجَلّ في طالوت: (إنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ)

وقال عَزّ وجَلّ لنبيّه (صلى الله عليه وآله): (وَكان فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا).

وقال عَزّ وجَلّ في الأئمة من أهل بيت نبيّه وعترته وذّريته: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا).

وإنَّ العبد إذا اختاره الله عَزّ وجَلّ لأمُور عباده شرح الله صدره وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً فلمْ يعي ""أي يعجز"" بعده بجواب، ولا يحيد فيه عن الصواب وهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمِنَ الخطايا والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم). (أصول الكافي، الكليني، ج 1 ص 489).