هل يمكن فصل ’الولاية الدينية’ عن قيادة الأمة؟

فصل الولاية الدينية عن القيادة والإمارة لا يمكن أن يتصور في حق النبي أو الإمام، ولذا لم نرى منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا أحد أثار اشكالاً من هذه الناحية، فمن ثبتت له الولاية الدينية ثبتت له الولاية السياسية للتلازم الذي لا ينفك بينهما.

فمهمة الأنبياء هي هداية الناس وإقامة القسط والعدل بينهم، ولا يمكن أن يتحقق ذلك مالم يكن للنبي حق القيادة الذي يمنحه كامل السلطات الدينية والسياسية، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)، فاستحقاق داود للخلافة والحكم كان من جهة كونه نبي ورسول، وبالتالي لا يمكن تجريده من السلطة السياسية إلا إذا تم تجريده من السلطة الدينية، وهذا لا يكون إلا بعد الكفر بالنبوة والرسالة، وعليه فإن فلسفة بعث الأنبياء والرسول تقوم في الأساس على قيادة الناس في ما يصلح دنياهم وآخرتهم، قال‌ تعالی‌: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) والملاحظ أن الآية ربطت بشكل واضح بين انزال الكتاب والميزان وبين انزال الحديد، وهو أمر غير مفهوم مالم لم يكن للحديد علاقة مباشرة بهدف انزال الكتاب والميزان وهو قيام الناس بالقسط، فالكتاب والميزان لا يجدان طريقها للواقع من دون وجود سلطة وقوة تدعمها، ولذا جاء ذكر الحديد في الآية لمنح شرعية القتال واستخدام القوة من أجل إقامة القسط والعدل.

وهنا نسأل كيف يتيسر للنبي القتال وهو لا حق له‌ في‌ التدخل‌ في‌ شؤون‌ الحكم والسياسة؟ بل لم تكتفِ آيات القرآن بإعطاء النبي الحق في القتال وإنما امرت الجميع بالقتال معه وتحت قيادته، قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) فبأي حق وبأي سلطة يقود الناس للحرب والقتال وهو لا يمتلك حق الإمارة والقيادة؟ وقد بين لنا القرآن كيف قاتل داوود جالوت وكيف انتزع منه الحكم والملك، قال تعالى: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)، وبذلك يتضح أن سلطة الأنبياء وحاكميتهم تمثل المسار الذي جعله الله لخلافة الإنسان في الأرض، وقد أكدت آيات القرآن على أن أصلحهم ديناً أصلحهم للحكم والخلافة، وذلك عندما ربطت الآيات بين استحقاق الخلافة وبين الإيمان والعمل الصالح، وقال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ)، فاستحقوا خلافة الأرض بعد أن حققوا الإيمان والعمل الصالح، ولكن الذي حدث هو أن البشر لم يسلموا لقيادة الأنبياء وتمردوا على سلطاتهم السياسية فتحكم عليهم الطواغيت والظلمة وقادوهم بالحديد والنار.

ومضافاً للسنة العامة للأنبياء هناك آيات تأمر المؤمنين بضرورة الرجوع للرسول فيما له علاقة بالأمور الإدارية والسياسية، مثل قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا). حيث حددت الآية وظيفة المؤمنين اتجاه القيادة الشرعية وضرورة الرجوع إليها في الأمور المتعلقة بالشأن السياسي والعسكري، وقد عطفت الآية أولي الأمر على الرسول مما يدلل على اشتراكهما في شأن القيادة السياسية.

فالأنبياء والأئمة المعصومين من أهل البيت لهم حق الولاية على الناس، ولذا عندما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينصب علياً خليفة من بعده في يوم الغدير قال: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقلنا بلى يا رسول اللّه‏. قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه) فمن كانت له ولاية على الناس أكثر من ولايتهم على أنفسهم ألا يكون له حق القيادة السياسية؟

وفي المحصلة متى ما ثبتت نبوة نبي، أو إمامة إمام، ثبت له حق الولاية الدينية والسياسية، ومن هنا لم يفرق الإسلام بين المسؤولية الدينية والمسؤولية السياسية، فأوجب طاعة النبي سياسياً كما أوجبها  دينياً، وقد امر رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الأمة بضرورة تقديم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) والانقطاع إليهم في جميع أمورها، إلا أن الأمة انقلبت عليهم وأزالتهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، وهذا ما حدث بالفعل، حيث لم تعترف الأمة بالقيادة السياسية لأهل البيت، وكانت النتيجة أن تحكم فيهم الطواغيت والظلمة إلى يومنا هذا، مع أن رسول حذرهم من خطورة ذلك حيث قال: (معاشر الناس آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل معه من قبل أن يطمس وجوهاً فنردها على أدبارهم أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، النور من الله فيَّ ثم في علي ثم في النسل منه إلى القائم المهدي. معاشر الناس: سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وإنَّ الله وأنا بريئان منهم، إنَّهم وأنصارهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار، وسيجعلونها ملكاً اغتصاباً فعندها يفرع لكم أيها الثقلان ويرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران).

 وعندما بويع الإمام علي (عليه السلام) للخلافة بويع بقرار ثوري من عامة الناس الذين خرجوا على عثمان، ولو لم يكن القرار ثورياً يتناسب مع الظرف الثوري الذي أطاح بالحكومة السابقة لما آلت الأمور للإمام علي البتة، فالنخبة السياسية وقيادات الصف الأول هي في العادة من تتحكم في الخيارات السياسية الكبرى، ولو سنحت لها الفرصة واتسع لها الوقت لكانت وجَّهت الجماهير التي تدافعت على الإمام علي (عليه السلام) الى وجهة أخرى، وعندما وضعت هذه القيادات أمام الأمر الواقع بايعوا ولكن سريعاً ما نكثوا بيعتهم ثم ألبوا الجموع البعيدة وساروا بها الى حرب الإمام (عليه السلام) في الجمل وصفين، فأمير المؤمنين (عليه السلام) أصبح خليفة عندما كانت المبادرة في يد عامة الناس، ومن ثم لم يسمحوا له بممارسة دوره في القيادة السياسية فتأمروا عليه حتى اردوه قتيلاً في محراب صلاته.