حركات بـ ’خطاب تعبوي’ معارض: هل للإسلام مشروع سياسي؟!

إذا انطلقنا من الواقع وقمنا بتحليل عام للمشهد السياسي في البلدان الإسلامية، لوجدنا أن الإسلام مستبعد بالفعل عن المشهد السياسي فيما يتعلق بأنظمة الإدارة والحكم، وما هو موجود من حضور إسلامي لا يتعدى الهوية المجتمعية، وهو الوصف الذي يقر بالإسلام كإطار عام للانتماء، وكل ما يحتاج اليه تشكيل هذا الإطار هو التأكيد على المبادئ العامة المتمثلة: في الإقرار بالعقائد الإسلامية، والالتزام بالأحكام الشرعية عبادات وبعض المعاملات.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

أما المحتوى الذي يمثل العمق الفلسفي لهذه العقائد، ومدى انعكاسها على الواقع الثقافي والسياسي للأمة، فإنَّه الجانب المهمل أو المغيب أو المشوه أحياناً، وكذلك الحالة بالنسبة للأحكام الشرعية؛ التي تحولت الى مجرد طقوس لا تتفاعل مع أهدافها الأساسية وقيمها التشريعية، ومن هنا افتقدت الأمة الإسلامية- في الحالة العامة- كل تصور يمكنه التفاعل مع تطلعات الناس وحاجاته الحياتية، وبكلمة مختصرة: إنَّ المشهد المهيمن على الواقع الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، لا يرتقي إنَّ يكون تعبيراً صادقاً عن نظام الإسلام في الحكم والإدارة.

فمنذ انَّهيار الصورة الكلاسيكية للإسلام السياسي، أو ما يسمى بالخلافة الإسلامية، وبخاصة بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية (1924م) تشكلت كل دويلات العالم الإسلامي على أساس نظم سياسية لا توصف بكونها إسلامية، حيث أصبحت النظم السياسية السائدة هي العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة أو نسبتها فقط للعوامل والأبعاد الخارجية، بعيداً عن حقيقة الوعي الذي تختزنه عقلية الأمة حول الإسلام، فلو كان الإسلام في عمق وعي الأمة يمثل خياراً للعمل السياسي، ومشروعاً للحكم، وبرنامجاً حضارياً متكاملاً، حينها يصح لنا القول: إنَّ الأمة أصبحت تعيش حالة من الردة الحقيقية عن الإسلام؛ لإنها تمسكت بخيارات سياسية بعيدة عن الإسلام.

فلم نجد في نفسية الأمة أي حالة من التناقض بين طبيعتها الإسلامية، وبين تبنيها لتصورات سياسية يسارية أو يمينية، فكل الأفكار السياسية والإنسانية وجدت طريقها إلى العالم الإسلامي، ومع ذلك لم تشعر الأمة بأي تناقض بين تمسكها بالإسلام، وبين هذه التيارات الدخيلة والمستحدثة، بل حتى الأحزاب السياسية ذات الخلفيات الإلحادية وجدت لها طريق وسط الأمة وتفاعلت معها الأجيال المسلمة، كالحزب الشيوعي الذي أصبح خياراً سياسياً وازن في كل الأقطار الإسلامية على الأقل في بعض المحطات السياسية من تاريخ العالم الإسلامي، الأمر الذي يؤكد حالة الانفصام بين الهوية الإسلامية الأصيلة وبين خيارات الأمة السياسية.

ولا أظن إنَّنا نجانب الحقيقة إذا أشرنا لوجود خلل في طبيعة الوعي الذي تختزنه الأمة للإسلام، فحصر الاهتمام بالإسلام ضمن حدود الهوية والإطار فقط، دون الاهتمام الواضح بمحتوى الإسلام الثقافي والحضاري والسياسي يؤكد هذا الخلل، مما يجعل من الضروري إيجاد معالجات معرفية حقيقية تستوعب الإسلام كنص مازال متفاعلاً مع حاجات الإنسان وطموحاته في كل الأوقات، وإذا تحقق هذا الوعي يكون حينها من الطبيعي السؤال عن نظام حكم إسلامي لواقعنا المعاصر، أما بدونه لا يمكن تصور نظام سياسي أو اقتصادي في ظل هذا الفهم المهيمن على الخطاب الإسلامي.

وعليه يمكننا القول إن المشروع السياسي للإسلام مازال غامضاً وغير واضح المعالم، وقد انعكس ذلك في التباينات بين الحركات الإسلامية التي اهتمت بهذا المشروع، كما انعكس في فشل هذه الحركات بإقناع الأمة بالخيار السياسي للإسلام، فنحن أمام وعي سياسي يمثل الأغلبية والطابع العام للعالم الإسلامي، حيث استطاع هذا الوعي أن يستوعب كل الخيارات السياسية، وفي المقابل لم يتمكن من تحقيق التفاعل المطلوب مع الخيار الإسلامي، الأمر الذي يدعونا أما في التشكيك في وعي الأمة بالإسلام، وإما في التشكيك في الخطاب السياسي الذي تقدمه هذه الحركات الإسلامية، ويبدو أن كل الأمرين في حاجة إلى مراجعات نقدية، فوعي الإمة بالإسلام وعي قشري

لا يمكن الوثوق فيه والاعتماد عليه، كما أن خطاب الحركات الإسلامي في معظمه خطاب تعبوي، أهتم بالمعارضة من دون الاهتمام بالجانب العملاني الذي يضع تصورات عملية لإدارة شؤن الدولة وفقاً للسياسية الإسلامية، وما تنادي به الحركات الإسلامية لا يتجاوز حدود الشعار ومجرد الدعوة إلى حكم الله، فالحركات الأكثر واقعية لم تتميز في الشكل السياسي عن الأحزاب الأخرى إلاّ في إطار تبنيها لشعار الإسلام، أما فيما يخص نظام الحكم والهيكلية الإدارية وكيفية الوصول الى السلطة وشرعية الحاكم فهي تمارس السياسة كما يمارسها الآخرون.

ومن الصعب في هذا المقام مناقشة كل هذه القضايا والتفصيل فيها، ولذا سوف نختصر الإجابة في وضع تصورعام للنظام السياسي في الإسلام.

من المؤكد إن الإسلام في حقيقته نظام معرفي وقيمي وتشريعي، الأمر الذي يجعل وظيفة المكلف هو العمل على أنزال هذه المعارف والقيم والتشريعات على واقعه الحياتي، بمعنى أن السلوك الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة محكوم بنظام من المعارف والقيم والتشريعات، وبما أن تفاعل الإنسان مع الواقع الحياتي رهين بالمتغيرات الزمانية والظرفية، حينها تتعاظم وظيفة العقلاء في اختيار كل الوسائل والخيارات التي تمكنهم من تجسيد تلك المبادي الإسلامية، ومن هنا لا يتدخل الإسلام في الأمور الإجرائية وإنما يكتفي بالتدخل في ضبط القيم والمبادي العامة، فمثلاً الإسلام جعل العدالة قيمة محورية إلا أنه لم يتدخل في بيان الوسائل التي تحقق العدالة في كل مسألة من المسائل الحياتية، وإنما جعل تحديد ذلك للإنسان بوصفه كائن عاقل قادر على التمييز بين الخيارات، ولو أردنا أن نطبق مثال العدالة على النظام السياسي، لا يمكن أن نتصور تدخل الإسلام في بيان شكل الحكم الذي يحقق العدالة للجميع، فلا يتحدث عن الانتخابات أو عن توزيع الدوائر الانتخابية، كما لا يقرر بأن الحكم الفدرالي أو الكونفدرالي أكثر عدالة من الحكم المركزي، وإنما تحديد ذلك موكول للإنسان، ومن ذلك نفهم أن الإسلام لا يقدم تصورات إجرائية للعمل السياسي وإنما يقدم منظومة من القيم يجب مراعاتها في كل الخيارات السياسية، وعليه يمكننا القول إن السياسية بمعنى تحديد شكل الحكم وكيفيته والهيكلية الإدارية وغيرها من الأمور لا وجود لها في الإسلام، أما السياسية بمعنى وضع المبادي والقيم الدستورية والحقوقية فهي من صميم الإسلام ومن أهم أولوياته.

وإذا اعتمدنا هذه الوصف يمكننا أن نُعرف الدولة الإسلامية بكونها الدولة التي تعتمد على قيم الإسلام ومبادئه كأصول دستورية لكل تشريعاتها وقوانينها، وتبقى هناك معضلة الحدود التي شرعها الإسلام من قطع يد السارق وجلد الزاني ورجمه إذا كان محصناً وغيرها، هل تمثل الحد الفاصل بين النظام الإسلامي وغير الإسلامي؟

في تفكير أهل السنة لا يمكن فهم الدولة الإسلامية إلاّ بإقامة الحدود، بوصفها حدود الله التي لا يجوز تخطيها، فمن أراد أن يقيم شرع الله يتعين عليه تنفيزها، وهذا ما يفسر لنا حرص الجماعات الإسلامية على إقامة هذه الحدود في المناطق التي تسيطر عليها، وهناك عشرات مقاطع اليوتيوب التي تكشف عن هوس الإسلاميين في إقامة الحدود بالشكل الذي تنفر منه طباع البشر جميعاً، وكذلك كان الحال مع دولة طالبان، والعجيب إنَّ بعض الدول في المنطقة تصنف كدول إسلامية وهي لا تقيم من الإسلام إلاّ الحدود، الأمر الذي يؤكد محورية هذه الحدود وأهميتها لإقامة نظاماً إسلامياً وفقاً للتفكير السني، والحكومة الإسلامية ضمن هذا التصور تتعارض مع  المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، الأمر الذي يجعل المشروع الإسلامي بين خيارين إما الاعتراف بهذه المواثيق ومن ثم التخلي عن هذه الحدود، وإما الكفر بهذه المواثيق ومن ثم إقامة دولة معزولة عن المحيط الدولي كما هو الحال مع الدولة التي أرادت داعش أن تقيمها، وكلا الخيارين يشكك في مقدرة الفكر السني في إقامة دولة إسلامية.

أما الحدود في الفكر الشيعي فهي لا تشكل عقدة أمام إقامة دولة إسلامية، وذلك لأنّ الدولة الإسلامية في المفهوم الشيعي تتصور في بعدين الأول: هي الدولة الإلهية التي يشرف على إقامتها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) مباشرة أو الإمام المعصوم المنتخب والمعين من قبل الله، وهذه الدولة تمثل إرادة الله بلا خلاف طالما ثبت استخلاف الله للنبي وأهل بيته، ومن هنا لا يمكن أن يفكر الإنسان الشيعي أن ينوب عن الإمام لإقامة خلافة الله في الأرض طالما الإمام موجود، وينحصر تكليفه حين إذن بأتباعه والانصياع لأوامره، وإقامة الحدود هو من اختصاص هذه الدولة، فلا يحق لأي إنسان لم يفوضه الله تعالى أن يقطع يد السارق او يرجم الزاني أو غيره من الحدود، حيث لا يقيم الحد إلاّ الإمام المعصوم فمن له حق تطهير المجتمع لابد اتصافه هو أولاً بالطهارة وهذا ما ثبت لأهل البيت) عليهم السلام)، في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

أما التصور الآخر للدولة وهي في فترة غيبة الإمام (عجل الله فرجه) بمعنى إقامة نظام سياسي يحافظ على المجتمع الإسلامي، فإن هذا النظام مهما بلغ من الطهر والعدالة لا يمكن أن يدعي فيه إنسان إنَّه ممثل عن الله أو كاشف عن إرادة الله سبحانه وتعالى، وإنما حال هذا النظام كحال الفرد المسلم، فكما إنَّ الفرد المسلم مكلف بتطبيق الإسلام على سلوكه الشخصي وفي الوقت نفسه لا يدعي الكمال والعصمة ولا يمكنه الجزم برضى الله تعالى عنه، كذلك الحال في شأن المجتمع المسلم فهو مكلف أن ينتظم في إطار اجتماعي يجسد قيم الإسلام وتشريعاته من غير أن يدعي الكمال أو يعتقد بإنَّه شعب الله المختار، وكما يجوز وصف الفرد المسلم المطبق لشرائع الإسلام بكونه مسلم كذلك يجوز وصف النظام الاجتماعي المنضبط بقيم الإسلام وتشريعاته بأنَّه نظام إسلامي، والنظام السياسي الذي يقيمه المجتمع المسلم ليس مؤهل لإقامة الحدود، فالإسلام لا يجيز قطع يد السارق إلاّ في حالة إنَّه وفر له كل ظروف الحياة الكريمة ووفر له كل فرص العيش الهني وهذه المرتبة لا يمكن أن يدعيها أي نظام، وكذلك لا يرجم الزاني او يجلده إلاّ إذا أقام له مجتمعاً طاهراً عفيفاً ووفر له كل فرص الزواج حيث لا يكون له أي مبرر للزنى، وهذا لا يعني التنكر على هذه الحدود أو الكفر بها وإنَّما يعني الاعتراف بها كتشريع لم تتوفر له شروطه الموضوعية لتطبيقه.

وبهذا التفصيل بين الدولة الإلهية التي يقيمها الله تحت اشراف أنبيائه ورسله والأئمة الذين اختارهم لذلك وبين الدولة التي يقيمها المسلمون نظماً لأمرهم والتزاماً بدينهم، نكون قد تجاوزنا كثيراً من العُقد التي تواجه المشروع الإسلامي المعاصر، وفي نفس الوقت قطعنا الطريق امام كل من يريد أن يصادر حريات الآخرين باسم الله طالما النظام المنشود هو خيار بشري وليس إلهي. وتظل دائرة الاجتهاد مفتوحة أمام كل الخيارات التي تقرب الناس لخيرهم الديني والدنيوي بعد أن يتم تسالم الجميع على ثوابت الإسلام، ومن هنا نؤكد على أن هذا النظام لا يصلح إلاّ في دائرة المجتمعات المسلمة التي اختارت الإسلام كنظام للحياة، وبذلك نرفض كل محاولة تستخدم القوة والاكراه لإقامة دولة إسلامية.